وجاء رجلٌ من أقصى المدينة

قضائيات لي مع نظام المرافعات الشرعية ذكريات مختلطة ومسيرة متعثرة عايشتها منذ صدوره أول مرة عام 1409هـ ؛ وكنت - آنذاك - رئيساً للمحكمة الكبرى بالمبرز من الأحساء المباركة ، ومشرفاً على تدريب ملازمٍ قضائيٍ نابهٍ ؛ يتطلع لضبط أمور القضاء بالتنظيم ، وينقل إليَّ ما يسمع من تخوُّف القضاة من هذا الشبح الغريب الوافد إلى معاقل القـضاء (( نظام المرافعات الشرعية )) .



لذلك حددت مع فضيلة الملازم موعداً مسائياً لدراسة النظام مادة مادة ، وخلال شهرين - تقريباً - أنهينا دراسته بتأنٍ ، وظهر لنا : أنه خلوٌ من المخالفات الشرعية المزعومة .



وكنت - إذا غادرني - أعيد صياغة المواد صياغة فقهية ؛ بلغتُ منها - خلال تلك الفترة - المادة الرابعة بعد المائة ؛ إذ كانت الملحوظة الوحيدة لي على ذلك النظام هي : ضعف الصياغة ؛ لكونها نقلت بنصها من نظامٍ عربيٍ مترجمٍ عن النظام الفرنسي القديم ؛ والتي أرى : أن تلك الترجمة لا تتوافق مع أصالة الثقافة الشرعية المستمدة من كتب الفقه وأصوله المقررة في كليات الشريعة وفي المعهد العالي للقضاء .



وكنا نراقب ـ بتحسرٍ ـ الحملة الشرسة ضد هذا النظام ؛ والتي نجحت أخيراً في إسقاطه باستغلال أحداث غزو الكويت عام 1410هـ ، فتنفس القوم الصُّعداء ؛ غير أن الدولة - وفقها الله - مصرة على ضبط أمور القضاء ، فشكلت لجاناً لدراسة النظام ، وتمَّ تطعيمها بمتخصصين في الشريعة ، وبعد إنجازها لتعديلات النظام صدر التوجيه السامي الكريم بدراسته من مجلس القضاء الأعلى وإبداء الرأي حياله ؛ تمهيداً لإقراره ، وتلافياً لوجود أي سلبيات تعكِّر صفوه .



وهذا الأمر يعطي مجلس القضاء الأعلى الحق في : الحذف ، والإضافة ، والتعديل ؛ بحسب ما يتراءى لأعضائه ، وليتهم فعلوا !!! ، لكان خيراً وأشد تثبيتاً ، ولحازوا فضيلة ذلك كله على مرِّ العصور ؛ إلا أن المجلس الموقر أخذ يؤجل الدراسة مرة بعد أخرى ، ويرحِّلها كل دورة إلى التي بعدها ، فما كان من خادم الحرمين الشريفين رعاه الله – والحالة هذه - إلا أن أحال النظام إلى مجلس الشورى لدراسته بمشاركة عضوٍ من مجلس القضاء .



وفي 20 /5 /1421هـ صدر المرسوم الملكي الكريم باعتماد نظام المرافعات الشرعية ؛ على أن يعمل به بعد سنة من تاريخ نشره .

وهنا صعق المعارضون السابقون ومن سار في ركابهم ؛ لأن النظام قد عاد ولم يتضمن تعديلاً كبيراً لكثيرٍ من مواده (( المخالفة للشريعة )) كما يدندنون به .



ومع أني قليل الاتصال بأفراد المعارضين ؛ إلا أني التقيت مرة بأحدهم ، وبعد أن أرعد وأزبد وقطع بمخالفة النظام للشريعة ، سألته : هل قرأت النظام كله ؟ فقال : لا ؛ غير أن الذين قرأوه عرفوا ذلك وحذروا منه وهم ثقات . (( هكذا قال )) ، فعلمت أنه ممن يُلَقَّن فَيَتَلَقَّن عفى الله عنه .



وشاء الله أن يقع في يدي صوراً لأوراق : فيها : التحريض على الاعتراض على النظام ، بالكتابة عن ذلك لولاة الأمر ، وتكثير سواد المعارضين .

وفيها أيضاً : إيرادٌ لمواد في النظام قالوا : إنها مستمدة بنصها من النظام المصري .

وفيها إيهام للقارئ : أن في بعضها مخالفة للشريعة (( وليست كذلك )) ، وحددت الأوراق خمس مواد من مائتين وست وستين مادة احتواها ذلك النظام ، وكلها مما تجيزه قواعد الشريعة العامة .



وأكاد أجزم : أن ذلك ليس بخافٍ على محركي موجات الاعتراض تلك ، وإن انطلى على كثيرٍ من الموقعين على تلك الخطابات .



وعقب صدور النظام بنحو شهرين - أي : في شهر رجب عام 1421 هـ - قمت بزيارة زميلٍ عزيزٍ عليَّ ؛ هو : رئيس تحرير مجلة الدعوة ؛ الأستاذ : عبد العزيز العيسى . فبادرني بسؤالٍ عن النظام ذاته ، فأظهرت له تأييدي لمبدأ التنظيم ، وأن نظام المرافعات الشرعية الجديد هو الخطوة الأولى في الطريق الصحيح ، وأنه : إن كان لي من ملحوظة عليه ففي صياغته ؛ التي لا ترقى إلى ما ينبغي أن يكون عليه لو أشرفت وزارة العدل على صياغته ، فطلب مني تحرير مقالٍ بهذا الشأن ، بعد أن أظهر سعادته استغرابه من عدم تجاوب بعض القضاة بإبداء آرائهم حيال النظام لمندوب المجلة ، فكتبت له فوراً مقالاً بعنوان :

نظام المرافعات الشرعية (( تعليقٌ عام ))

ولم تنشر المقالة إلا بعد أربعة أشهر ؛ أي : في شهر ذي القعدة !! ؛ وقت انعقاد الهيئة العامة لمجلس القضاء الأعلى التي لم ترق لها تلك المقالة ، وعندما التقيت بمعالي رئيس المجلس في مكتب معاليه - أواخر شهر ذي الحجة من العام نفسه 1421هـ - أظهر غضبه الشديد من المقالة ؛ التي يخشى هو منها أن تنسف الجهود المبذولة من حوالي مائة قاضٍ لإلغاء النظام كسابقه ، وتساءل معاليه - خلال اللقاء - عن : سبب تدخلي بالتأييد للنظام ؟ ، ولم اخترت الصحافة منبراً لذلك ؟ ، ومن هو الدافع لي على ذلك العمل ؟.

لم يكن اللقاء حميماً ولا معتدلاً !!! (( وللحوار الساخن قصة تطول ليس هذا مجالها )) .



وعندما خرجت من مكتب معاليه لم أكن متفائلاً ، ولا أزال!!! ؛ وبخاصة : بعد أن علمت أن تلك المقالة صارت كالبطاقة في ميزان الأعمال الواردة في الحديث الشريف ؛ فقد رجحت كفة المقالة اليتيمة ، وطاشت خطابات الاعتراض الجماعية من قضاة المناطق ؛ الذين أوفدهم معالي وزير العدل إليه في الوزارة الموقرة ، وأوضح لهم أمر النظام وحقيقته ، وقام بتطويق مخاوفهم وتبديدها ، فزال ما يجدونه في صدورهم تجاهه ، وتقبلوه بعد ذلك برحابة صدر وطيب خاطر ، وعملوا بما فيه ، وعقدوا لمدارسته الجلسات والاجتماعات والندوات . ( في قصة أخرى من خصوصيات معاليه وفقه الله ) .



وحين أمر معالي الوزير بتكوين لجنة لإعداد اللوائح التنفيذية للنظام ؛ كنت أحد أعضائها ، ثم بعد أربعة أشهر أسند معاليه رئاسة اللجنة إليَّ ، وكتب الله للوائح التنفيذية أن تولد في تجربة مثيرة سأذكرها في عددٍ قادمٍ .



ويمكن الاستفادة من هذه الهفوة - عند إصدار نظام جديد يُراد منه الوفاء بأكبر قدرٍ من الغرض الذي سُنَّ لأجله - بعمل الآتي:-



أولاً / الإعلان عن قرب صدور النظام في جميع الصحف المحلية .



ثانياً / تحديد الجهة المعنية بوضع النظام ؛ لاستقبال الآراء والاقتراحات حيال مضمون النظام .



ثالثاً / استكتاب المعنيين بالنظام حول ما ينبغي أن يشتمل عليه من موضوعات .



رابعاً / تخصيص منتدى في شبكة الأنترنت ؛ لمطارحة الرأي من المهتمين بأمر ذلك النظام .



خامساً / عقد الندوات المتتابعة في الصحف والإذاعة والتلفاز ؛ لبحث موضوع النظام .



سادساً / تعيين صندوق بريد لاستقبال الانتقادات لمحتويات النظام ، بعد مناقشة موضوعه في وسائل الإعلام .



سابعاً / عرض النظام بعد اكتسابه الصياغة المقصودة على الجهات الرسمية المعنية بتطبيقه ؛ للمراجعة النهائية خلال ثلاثة أشهر على الأكثر .



ثامناً / إلزام الجهات المعنية بالتطبيق بعرض النظام على أفراد تلك الجهات ؛ لاستطلاع ما لدى المباشرين للتطبيق والذين هم أدرى الجميع بالثغرات ، وألصقهم بدقائق تطبيقه .



تاسعاً / الاهتمام بجميع الأطاريح والاقتراحات السالفة من قِبَلِ واضعي النظام ، ومن لجان الصياغة والمراجعة ، ومن المجالس المعنية بالتصويت على النظام .



أقول : لعل رعاية هذه الأمور تُساعد على استيفاء متعلقات النظام ، وتُخفِّف الاحتقانات من معارضيه ، وتُشجِّع على المشاركة في وضعه من المعنيين بتطبيقه ، كما ترفع من شأن نتائج تلك المشاركة الشعبية في الداخل والخارج ؛ بإعطاء الانطباع الشُوريِّ في وضع وتطبيق أنظمة الدولة . والله الموفق . | عدد القراء : 4286 | تأريخ النشر : السبت 21 ذو الحجة 1426هـ الموافق 21 يناير 2006م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=13
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع