تقييد المباحات وتقنينها

قضائيات عندما قررت بحث موضوع الشكل في الفقه الإسلامي لنيل شهادة الدكتوراه في الفقه المقارن وجدت أنَّ مراجع هذا الموضوع كلها من كتب القانون المدني؛ غير مؤلفٍ صغيرٍ للدكتور/ محمد وحيد الدين سوار. الأستاذ بمعهد الإدارة العامة بالرياض آنذاك، وكانت مباحث موضوع الشكل في كتب الفقه معدومةً باستثناء هذا المؤلَّف، ولما اتضح لي معنى الشكل المراد تصفحت كتاب ( الروض المربع ) للشيخ/ منصور البهوتي. واستخرجت من قسم المعاملات فقط مائةً وعشرين مسألةً يمكن إدخالها في باب الشكل.



أما قسم السياسة الشرعية فقد وجدته عامراً بمسائل الشكل، فاقتصرت في بحثي لنيل شهادة الدكتوراه على أمرين هما/ تكوين ( نظرية الشكل في الفقه الإسلامي )، وبيان أثر الشكل في العقود المالية فقط.



وكان مما وقفت عليه في القانون المدني أنَّ الشَّكل - في باب القضاء - نوعان :



الأول/ يُسَمَّى: الشَّكل القانوني؛ وهو ما يفرضه القانون في إحدى مواده الآمرة؛ فيكون لازماً، والعقد بدونه باطلاً. وهو قسمان:



1/ انعقادي. وهو: ما إذا كان الشَّكل مشروطاً قانوناً لقيام العقد، وينص القانون على عدم اعتبار العقد بدونه. مثل: لزوم إعلان الأنظمة في الجريدة الرسمية قبل بدء العمل بها، وكذا: لزوم إعلان عقود تأسيس الشركات التجارية قبل الشروع في ممارسة نشاطاتها، وبدون ذلك الإعلان لا يكون النظام سارياً ولا عقد الشركة صحيحاً.

2/ إثباتي. وهو: ما إذا كان الشَّكل مشروطاً قانوناً لإثبات العقد في المحاكم. مثل: لزوم كتابة عقد الصلح لإثباته؛ أياً كانت قيمته، فإن لم يكن الصلح مكتوباً فهو غير ثابتٍ قضاءً.

ولا يقوم غير الكتابة مقامها عند التقاضي، ولا عبرة - في القانون - بالشهادة في إثبات عقد الصلح؛ وعلَّلوه: بأنَّ مثل هذه العقود تبلغ حداً من التعقيد يصعب معه إثباتها قضاءً بالشهادة.

ومثله: تحديد القانون القيمة الممكن إثباتها بالشهادة أمام القضاء، فمتى زادت القيمة عن الحد المنصوص فلا عبرة - في القانون - بالشهادة في إثباتها قضاءً؛ ما لم تكن مكتوبةً بخط المقر بها، أو موقعاً عليها منه.



النوع الثاني/ ويُسَمَّى: الشَّكل الاتفاقي ؛ وهو ما يتفق الطرفان على اعتباره، وأنَّ العقد بدونه باطل؛ ولو لم يفرضه القانون. وهو قسمان:



1/ اتفاقي انعقادي. مثل: الاتفاق على لزوم الإبلاغ من العاقد بعدم الرغبة في تجديد عقد الإجارة قبل شهرٍ - مثلاً - من انتهائه. ومتى بقي على نهاية العقد مدةٌ أقل من المدة المحددة في الشرط الاتفاقي قبل الإبلاغ بعدم الرغبة في التجديد من أيٍ من طرفيه: فإنَّ العقد يتجدد تلقائياً، ويلزم به كلا العاقدين.

2/ اتفاقي إثباتي. مثل: اتفاق طرفي العقد على لزوم تسديد الأقساط عن طريق الإيداع في الحساب البنكي مثلاً، وأن لا يقوم غيره مقامه. عند ذلك: لا يقبل - قضاءً - دعوى التسديد النقدي ولا عن طريق الحوالة أو المقاصة؛ ما لم يتفقا عليه كتابةً على هيئة استثناءٍ من شرط العقد الأصلي.



وهذه الاشتراطات - في نظر القانونيين الغربيين - غايتها ضبط الحقوق؛ دون استثناءٍ منهم للظروف الطارئة، في وقتٍ كانت الشريعة الإسلامية أسبق إلى هذين الأمرين من كل فقهاء القوانين الأخرى؛ ففي آيةٍ واحدة من سورة البقرة (282) ورد الأمر بالكتابة بين المتعاقدين خمس مرات؛ بعضها: بصيغة فعل الأمر، وبعضها: بصيغة المضارع المقرون بلام الأمر، وبعضها: بصيغة النهي عن التفريط في المأمور به ( كتابة العقود )، وفي آيةٍ بعدها استُثنيَ من هذا الحكم الظرف الطارئ المانع من تحقيق الكتابة عند التعاقد، وهو كون المتعاقدين في سفرٍ لا يجدون كاتباً، وعدم استثناء حال الاضطرار من تلك الأحكام مما لم يفطن له الحقوقيون فكانت ثغرة في قوانينهم.

والقضاة في محاكم بلادنا لا ينفكون عن الوقوف على قضايا تحتاج لتشريعاتٍ ملزمةٍ بوجوب كتابة العقود.



ففي بعض القضايا: يدعي أحدهم أنه اشترى أرضاً بعشرات الملايين بعقدٍ غير مكتوب، ويطالب بإفراغها.



وفي بعضها: يدعي الورثة صلحاً مع أحدهم على تنازله عن نصيبه من الإرث، أو على حصر نصيبه في أحد أعيان التركة بعقدٍٍ شفهي يطلبون إلزامه بمضمونه.



وفي بعضها: يدفع أحدهم بأنه قد أوفى غريمه بما في ذمته من دينٍ نقداً، دون أخذ إقرارٍ مكتوبٍ بالتَّسَلُّم المدعى به.



وفي بعضها: يذكر أحدهم أنه باع بضاعةً كبيرة بثمنٍ مؤجل، وسلمها للمشتري في مجلس العقد؛ بلا عقدٍ مكتوب ولا رهانٍ مقبوضة، ويطلب الحكم عليه بتسليم الثمن.



وفي بعضها: يزعم أحدهم أنَّ المدعى عليه قد أقر - مشافهةً - بدينٍ في ذمته للمدعي أو لمورثه، ويطلب الحكم عليه بسداده، وسبيل إثبات تلك الدعاوى كلها الشهادة فقط.



ومثل هذه الأمور - في زماننا هذا - لا ينبغي أن يكون سبيل إثباتها ما يمكن دخول الشك في صحته دون اضطرار، فالذمم يمكن التعويل عليها إذا ما قُرِنَت بما يقطع الشك عنها مثل الكتابة، أما إخضاع حقوق الناس لمجرد الشهادة في وقتٍ انتشر فيه العلم واضمحلت الأمية أمرٌ لا يسوغ قبوله؛ حرصاً على مصالح الناس، ودرءاً لشراء الذمم في سبيل الاستيلاء على حقوق الغير.



ولأنَّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فمتى قرر الحاكم لزوم أمرٍ مما فيه مصلحة العامة كان له ذلك ووجب اعتماده من الخاصة والعامة، ومن فرَّط في شيءٍ منه فعليه تَبِعَتُهُ، ويقال له: يداك أوكتا وفوك نفخ.



ولأنَّ تقييد المباح حقٌ من حقوق الإمام - كما حصل في تقييد إحياء الموات بإذن ولي الأمر، وكما تضمنته أنظمة الخدمة المدنية بتحديد مدة المطالبة باستيفاء الحقوق أو باستردادها - فإنَّ سبيل التقييد المطلوب هو فرض القانون الملزم به، وتبليغه للناس، وتبصيرهم بنفعه والضرر من مخالفته قبل بدء العمل به؛ ففي بلادٍ قريبةٍ لا نزال نرى ونسمع عن فهم الرعية للزوم الكتابة في جميع التعاملات، والحرص على تطبيقها من جميع فئات المجتمع؛ بما في ذلك العوام من الأميين.



وهذا الأمر من أولى ما يجب أن يشتمل عليه القانون السعودي القادم بإذن الله. والله الموفق. | عدد القراء : 5905 | تأريخ النشر : الثلاثاء 17 ذو القعدة 1428هـ الموافق 27 نوفمبر 2007م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=135
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع