البيئة العدلية ومتطلبات التنمية الاقتصادية . كلمة في منتدى الرياض الاقتصادي الثالث

نظاميات الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين .

أما بعد : أصحابَ المعالي والفضيلة والسعادة ، الأخوةَ الحضور !

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته !



لقد أحسنت الأمانة العامة لمنتدى الرياض الاقتصادي الثالث في اختيار عنوان المحور الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وتسميتِهِ : بالبيئة العدلية ؛ لعدة اعتبارات : لعل أهمَها تشبيهُ المؤسسات العدلية بالبيئة الأَحيائية القائمة على مكوناتٍ رئيسةٍ هي : الماء ، والهواء ، والتربة .



والبيئة العدلية - في بلادنا - لها ذات المكوناتِ البيئية ؛ فماؤها الذي تحيى به هو : استمدادُها من كتاب الله وسنة رسوله ومن قواعد الشريعة الإسلامية ؛ كما جاء في المادة (السابعة ، والثامنة والأربعين ، والسابعة والستين) من النظام الأساس للحكم .



وهواؤها الذي تستنشقه هو : الاستقلالُ التام لأفراد القضاة ؛ كما أكدته المادةُ الأولى من نظام القضاء ، والمادةُ السابعةُ والأربعون من النظام الأساس للحكم .



وتربتها التي ترتكز عليها هي : المرجعيةُ القضائية التي تُورق من خلالها أنظمةُ القضاء ، وتنمو برعايتها مؤسساتُهُ ، وتُزهر فيها برجال العدالة والآمرين بالقسط ، فتثمر العدل والحق والإنصاف .

أما أفراد هذه البيئة فهم : القضاة ، وكتاب العدل ، والمحامون ، وموظفو المؤسسات القضائية ، وجميع القائمين على تحقيق العدل كل بحسب اختصاصه .



ولأن البيئةَ تحتاج - فيما تحتاجه - إلى التفاعل المنظم والمستمر بين عناصرها ، وإلى ما ينتجه هذا التفاعل من توازنٍ بين مكوناتها : فقد قدر الله مقادير الخلائق قبل خلق السماء والأرض ، ويسر كل شيء لما خلق له ، وألهم النفوس فجورها وتقواها ، وفطرها على ما يريده سبحانه منها لعمارة الأرض والخلافة فيها .



وكذا كل مصلحة من مصالح الناس العامة والخاصة تحتاج إلى التفاعل والتوازن بين النظم والقوانين المحدِّدة للمهام والاختصاصات الزمانية والمكانية والنوعية . وتحتاج إلى أجهزة الرقابة والتدقيق على حسن سير الأعمال ، وإلى النظام الجزائي العادل للمحسن والمسيء بما يناسب كلاً منهما ويمنع تجاوز الحدود .

كما تحتاج إلى المتابعة والتحديث ومشاكلة الزمان عند الاقتضاء في : الرخاء والشدة ، والكثرة والقلة ، والقوة والضعف ، وتحتاج أيضاً إلى الإعداد بقوةٍ قدر الاستطاعة لمواجهة تغيرات الأحوال والأحداث .

ومن اطلع على ما اشتمل عليه نظاما القضاء - العام والإداري - الجديدان يرى الفرق جلياً بين الواقع القضائي المشاهد وبين ما يهدف النظامان إلى تحقيقه في مستقبل الأمر إن شاء الله تعالى .



ومن يتأمل مضامين آلية العمل التنفيذية للنظامين يُقدر - ولاشك - مدى اهتمام الدولة - أيدها الله - بالمؤسسة العدلية وحرصها على توحيد مرجعية السلطة القضائية وجمع شتاتها ؛ وفق خطة طموحة تهدف إلى تحقيق ذلك خلال عامين ، وليس ذلك بمستحيلٍ على من شمر عن سواعد الجد واستمد من الله العون على تحقيق ما يصبو إليه ولاة الأمر وفقهم الله .



ولاشك أن النُّقلة الجبارة المستهدَفة لقطاع العدالة من الحاضر الآمل إلى المستقبل المأمول تحتاج إلى تضافر الجهود من عدة قطاعات هامة في الدولة ، وإلى إعلان حالةِ طوارئَ عدليةٍ ؛ تزيد معها ساعات العمل إلى الضعف ، ويُمنع خلالها المشاركون في إنفاذ النظامين من الانقطاع بالإجازات المعتادة ، وتُفوض بها الصلاحيات لتيسير العمل ، وتُوفر فيها المرونة اللازمة لضمان نتائج مقبولة ، وتُخفف لأجلها العقبات والعراقيل وحواجز الروتين ، فإن أول ما يعمد إليه ربان السفينة عند هيجان البحر هو التخفيف من الحمولة بإلقاء ما ثقل وزنه في عرض البحر من الأمتعة ، بل إن الحال متى بلغت من السوء مبلغاً احتاج الأمر إلى إلقاء ما هو أعظم حرمة من المال ؛ كما اقترع على ذلك نبي الله يونسُ عليه السلام وصاحباه .



ومن الأمور ذات الصبغة الاقتصادية التي ينبغي اتخاذها لتعجيل إنفاذ النظام إعادةُ النظر في الاختصاصات المزعجة والمرهقة كاهلَ قضاة المحاكم وكتاب العدل ، التي يمكن تفويضُ اختصاصها إلى جهاتٍ مساعدة ، عبر مراجعة الأمور التالية :

أولاً / التخفيف على كتابات العدل بتفويض الكثير من اختصاصاتها التوثيقية إلى مكاتب المحاماة ؛ أسوة بالمعمول به في كثير من البلدان الشقيقة والصديقة .



ثانياً / تأهيل مكاتب المحاماة لتولي الصلاحيات الجديدة برسوم معقولة مقابل تأدية تلك الخدمات ، ومن ثم تصنيف المكاتب إلى فئاتٍ على قدر الصلاحيات الممنوحة لها ؛ أشبه بتصنيف المكاتب العقارية ومكاتب السفر ، مع فرض مبالغ مناسبة تأمينية على تلك المكاتب ؛ إما : مدفوعة ، أو على هيئة ضمانٍ بنكي ، أو تأمينٍ تعاوني ؛ حمايةً لذوي المصالح من أخطاء ممارسة تلك الصلاحيات ، ودافعاً لضبطٍ أكبر وحرصٍ أكثر من السادة المحامين عند أداء الخدمات لطالبيها .



ثالثاً / تأهيل كتاب العدل لتولي مهام أكبر من التوثيقات بتجهيزهم للاضطلاع بمهام إثباتية مما هو داخلٌ في اختصاص المحاكم العامة ، خصوصاً : أن القضاة وكتاب العدل قد نهلوا من معينٍ واحد .



رابعاً / التخفيف من تحميل قضاة المحاكم العامة أعباءَ كثيرٍ من القضايا الإنهائية ؛ للتفرغ لما هو أهمُّ مما هو داخلُ اختصاصهم ، ولا يتَّأتى ذلك إلا بأحد أمرين :

أولهما : تحويل جميع كتاب العدل إلى قضاة توثيقٍ وإثبات داخل المحاكم العامة ؛ لتولي جميع القضايا الإنهائية ذات الطرف الواحد ، إضافةً إلى التوثيقات المشمولة ضمن اختصاص كتابات العدل الحالية .

ثانيهما : وهو الأسرع في التنفيذ نقل اختصاص البت في القضايا الإنهائية البسيطة والمتوسطة لتكون ضمن صلاحيات كتاب العدل ؛ إذ إن أغلبَها لا يزيد في أهميته عن إفراغات العقارات الكبيرة ورهنها والتبرع بها .



خامساً / تشجيع افتتاح مكاتب التحكيم الخاصة ، والإسراع بافتتاح مركز التحكيم التجاري السعودي ، وإخضاع أحكامه للتدقيق على مستوى محاكم الاستئناف فما فوقها ؛ للإسهام في حسم المنازعات التجارية ونحوها ، والتخفيف من أعباء المحاكم التجارية .



سادساً / تشجيع مؤسسات المجتمع الأهلي من : الجمعيات الخيرية ، والمراكز الاجتماعية ، وعمد الأحياء والقرى ، ومشايخ القبائل ، والمعرفين بأفرادها على : الاهتمام بإصلاح ذات البين ، وبذل الوسع في استيعاب خلافات الأقارب والجيران ، وتوثيق ذلك في ضبوطات ودفاتر رسمية أو شبه رسمية .



إن تحقيق هذه الأمور كفيل بالتخفيف من أعمال القضاة ، وتوفير أوقاتٍ يمكن استغلالها في : تطوير وتحسين الأداء ، وتسريع الإنجاز المطلوب ، واستيعاب الصلاحيات الوافدة .

غير أن هناك أموراً تساعد على النهوض بالأعباء المضافة لا تقل أهمية عما سبق منها :

أولاً / تطبيق مبدأ استقلال القاضي من قِبل القضاة أنفسهم ؛ بتسخير أوقاتهم الزائدة في : مراجعة الأحكام ، والإلمام بالأنظمة واللوائح والتعليمات ، ومدارسة العلوم وثيقة الصلة باختصاصهم القضائي ، وامتناعهم من تفريغ جهودهم وطاقاتهم في أنشطةٍ اجتماعيةٍ خارج نطاق العمل القضائي ، بترك تلك الأنشطة لأربابها ؛ سواء في ذلك : التصدر للدعوة ، أو الإفتاء ، أو إدارة الجمعيات الخيرية



ثانياً / تكثيف الجولات الإشرافية وحملات المتابعة من أكفياء المفتشين القضائيين على قضاة المحاكم ؛ لا لتصيد الأخطاء ، بل للتوجيه والإرشاد ، وتبصير القضاة بما يرفع من مستوى عملهم ويساعدهم على تحمل ما وكل إليهم ، وتذليل ما يواجههم من عقباتٍ في فهم النظام ، ومتابعة إنجازاتهم ، والكشف عن أسباب تدني مستوياتهم ، وإيجاد الحلول والمقترحات المناسبة لعلاجها .



ثالثاً / تنويع اختيار القضاة من مناطق المملكة الست التي يتوافر بها كلياتٌ للشريعة ، وتعيينهم قريباً من مناطقهم ؛ لتحقيق قدرٍ من الاستقرار للقاضي في مقر عمله ، يظهر أثره في إنتاجه كماً وكيفاً .

رابعاً / استقطاب أكفياء المحامين للعمل في القضاء بحسب تخصصاتهم ، وكذلك المؤهلون شرعياً من كتاب الضبط في المحاكم ، ومثلهم أمناء السر في الدوائر القضائية ، وما يسمى : بسكرتارية اللجان القضائية في محاكم التمييز ودوائر التدقيق .



غير أن المعضلة العددية تظهر في الدوائر الثلاثية المقررة في النظام لنظر القضايا خصوصاً في المحاكم العامة والجزائية ، مما يعني احتياج تلك المحاكم لمئات القضاة ؛ بسبب التنامي الملحوظ في أعداد القضايا عاماً بعد عام .

كما تبرز تلك العقبة أكثر في محاكم الاستئناف التي زاد من أعبائها الحالية لزوم نظر القضية المستأنفة مرة أخرى ؛ إذا لم يكتسب الحكم القطعية بقناعة الطرفين ، مما يعني : اضطرار محاكم الاستئناف الست المقررة في آلية العمل التنفيذية لعشرات القضاة بعد ضم قضاء الاستئناف التجاري والعمالي إلى اختصاصها .

وليس لهذا من حل - في المجالين العمالي والتجاري - سوى تخصيص قاضٍ واحد لكل دائرة استئناف ، وسد نقص الدائرة بمستشارين نظاميين ولو عن طريق التعاقد ، على أن يستغنى عنهم كلما توافر البديل الملائم .



مما سبق ننتهي إلى تحديد أهم متطلبات التنمية الاقتصادية في البيئة العدلية في التالي :

1 / تأهيل القضاة وتدريبهم وتحديث الأنظمة القضائية بما يواكب تطورات العصر ؛ لأن ذلك مؤثر أشد التأثير في متطلبات التنمية الاقتصادية .

2 / توسيع دائرة التنسيق بين المؤسسات العدلية والمؤسسات الاقتصادية ، بما يحقق متطلبات التنمية بشكل أفضل .

3 / ترشيد اقتصاديات البيئة العدلية عن طريق استخدام التقنيات الحديثة ، واختصار الإجراءات لتسريع عملية التنمية الاقتصادية في البيئة العدلية ، وحسن توزيع الصلاحيات الكفيل بتفريغ أعضاء البيئة العدلية من قضاة وغيرهم لأعمالٍ أدق اختصاصاً وأوثق التصاقاً بالتنمية .



أيها الأخوة : طموحات ولاة الأمر عالية ، وثقتهم في القضاة غالية ، وتحقق مطلوبهم لازم محتوم ، والتراخي عنه عجز مذموم .

وفي الختام : أشكر لأمانة المنتدى كريم دعوتهم وجميل رعايتهم ، كما أشكر لكم حسن إصغائكم ولمعالي رئيس الجلسة لطف إدارته . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته | عدد القراء : 4959 | تأريخ النشر : الثلاثاء 24 ذو القعدة 1428هـ الموافق 4 ديسمبر 2007م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=137
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع