تصحيح مسارات بعض الأحكام

قضائيات في منتصف العام 1396هـ اشترى والدي أرضاً على طريق الحجاز القديم بمدينة الرياض ، واستلم صك الإفراغ بعد دفع كامل الثمن، ثم بعد سنةٍ تقريباً تعرَّض لها طريق (ديراب) السريع فاقتطع منها جزءاً كبيراً، واقتطعت وزارة الدفاع والطيران الجزء الباقي منها، وعند مراجعته الدوائر المعنية لاستلام التعويض، وتوزيعه على عشرات المساهمين معه في الأرض ظهر أن المتقدمين لاستلام تعويض الأرض ذاتها ستة أشخاص، وكلهم يحمل صكاً بإسمه.

ونتيجة لذلك: فقد أحيلت المعاملة للمحكمة للبت فيها، وبعد أكثر من عشرة أعوامٍ حكمت المحكمة لوالدي ومساهميه بالتعويض؛ لكونه المشتري الأول من بين الستة المذكورين بحسب تاريخ صك الإفراغ، ثم بعد انتظار أكثر من عشرة أعوامٍ أخرى استلم التعويض المقدر في العام 1397هـ!!.



هنا انتهت القضية وما أكثر مثيلاتها، غير أن لنا معها ثماني وقفاتٍ:-

الوقفة الأولى:

مع البائع أو وكيل البائع (سامحهما الله)؛ الذي تعمد الإضرار بالمشترين الستة، فباعهم أرضاً واحدة ليست بالصغيرة، واستلم من كلٍ منهم قيمتها، ومع ذلك الإضرار الظاهر المبني على الاحتيال السافر: لم يؤاخذ المتسبب منهما على فعلته.



الوقفة الثانية:

مع كتاب العدل في تلك الفترة (عفى الله عنهم)؛ الذين أفرغوا الأرض دون أن يؤشروا على صك المستند وسجله بما يفيد بانتقالها إلى المشتري الأول، وتكرر ذلك منهم مع المشترين الباقين، بل إن صك المستند الأصل بقيت الأرض في ظاهره مملوكةً للبائع الذي استلم قيمتها ست مرات، ومع ذلك: لم يؤاخذوا بغير إحالتهم على التقاعد، بعد أن تسببوا في الإضرار بالمشترين أكثر من عشرين عاماً في أرضٍ واحدة.

والله أعلم كم هي الحالات المماثلة لتلك القضية التي امتدت إليها يد العبث بمقدرات الناس وأموالهم ومصالحهم.



الوقفة الثالثة:

مع المحكمة العامة؛ التي نظرت قضية استحقاق التعويض، واستغرقت في نظرها - على بساطتها - أكثر من عشرة أعوام، مع أن طريق حلها كان ميسراً جداً، ألا وهو تدقيق تأريخ الصكوك ثم الحكم للسابق من المدعين الستة؛ وهو ما حصل فعلاً بعد تلك الأعوام، ومع ذلك: فقد اكتفت المحكمة بالحكم للمشترين الخمسة المغرر بهم بالرجوع على من باعهم برأس مالهم الذي دفعوه وقت الشراء؛ دون التعرض لوكيل البائع - الذي باشر عمليات البيع الباطلة - بأيِّ عقوبةٍ رادعة.



الوقفة الرابعة:

مع وزارة المالية؛ التي أخرت صرف قيمة الأرض، ومطلت مالكها أكثر من عشرة أعوام؛ دون تعويضٍ عن مدة التأخير التي أعقبت الحكم الشرعي، في وقتٍ كان بإمكان المالك والمساهمين معه استثمار أموالهم فيما ينفعهم طيلة العشرة أعوام أو تزيد، ليجتمع عليهم إضراران؛ هما تعطيل رأس المال عشرة أعوام قبل الحكم، وتأخير صرفه عشرة أعوام أخرى بعد الحكم؛ دون تعويضٍ عن أيٍ منهما؛ كما تقتضيه مبادئ العدل والحق والإنصاف.

لا ريب أن مسؤولية المطل خلال سنوات نظر القضية في المحكمة من مسؤولية المالك أو وكيله الذي تسبب في حصول البيوع الزائفة، غير أن وزارة المالية تتحمل - بلا شكٍ - مسؤولية تأخير صرف التعويضات من تاريخ تأييد الحكم .



الوقفة الخامسة:

مع المالك (رحمه الله) وشركائه؛ الذين ارتضوا صدور الحكم باستحقاقهم التعويض من بين المدعين شراء الأرض الستة؛ مكتفين بذلك، تاركين المتسبب يعبث بأموال الناس ومصالحهم دون مساءلة ولا محاسبة، ولو طالبوا ذلك العابث المستهتر بالتعويض عن سنوات التأخير لأمكن أن يكون لهم حظاً في ما يطلبون.



الوقفة السادسة:

مع المالك (غفر الله له) وشركائه؛ الذين هانت مصائبهم باستلامهم التعويض العتيق؛ تاركين المطالبة بالتعويض العادل ممن تسبب في تأخير صرف التعويض بعد الحكم، وكان من حقهم المطالبة بإعادة التقييم مرة أخرى؛ خصوصاً مع ارتفاع أسعار العقار خلال مدة التأخير إلى أكثر من 500% أي خمسة أضعاف ما تساويه الأرض وقت صدور الحكم.



الوقفة السابعة:

مع الحكومة (أيدها الله)؛ لتجيب على السؤال الذي طالما انتظر الناس جوابه، ألا وهو: متى يرى القانون السعودي النور؟؛ ليعلم الناس حقوقهم فيطالبوا بها، ويعرفوا حدودهم فيلتزموا بها، ويدركوا جزاء المخالفات فيرتدعوا عنها.



الوقفة الثامنة:

لأولي العلم وكبار القضاة في بلادنا العزيزة (نفع الله بهم)؛ ليقولوا قولتهم في تغريم من يؤخر إيصال الحقوق إلى أهلها؛ سواء: بالاعتداء عليها بالإتلاف، أو بالاستيلاء، أو بالاحتيال، أو بالمطل والتسويف، أو بالتواطؤ مع من سبق، أو بتعطيل إنفاذ الأحكام القطعية.

فلو قرروا: فرض غرامةٍ على ذلك التأخير؛ تدفع للمتضرر مقدراها 20% عشرون في المائة (حداً أدنى) عن كل سنة تأخيرٍ مثلاً: لكان ذلك رادعاً ومانعاً لكثيرٍ من حالات التعدي الظالمة.



ولا ننسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضى على من سرق مال الغير - من غير حرزه - برد المسروق وغرامة ما نسبته 100% مائة في المائة، إضافة إلى العقوبة البدنية.

روى أبو داود - واللفظ له - والنسائي في كتاب قطع السارق وحسنه الألباني (رحم الله الجميع): عنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ (سرقة): الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ (( مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ .. .. ) الحديث.

وموضع الشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ((فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ))،

والناس اليوم أحوج إلى تعدية مثل هذا الحكم إلى كل من يُرَوِّعُهُم في أموالهم وزينة حياتهم؛ تعويضاً لهم، وزجراً عن التعرض لأموالهم وإرادة الإضرار بهم.



إننا إذ نحمد المولى جل جلاله - الذي اختار لنا أكمل الشرائع وخاتمها، واختار لنا ولاة أمرٍ آمرين بالقسط ممن يقضون بالحق وبه يعدلون - لنرجو أن نكون جميعاً كما يريده الله من عباده المستخلفين على شرعه المؤتمنين على رسالة خاتم رسله وخيرة خلقه صلى الله عليه وسلم . والله المستعان | عدد القراء : 5757 | تأريخ النشر : الثلاثاء 7 محرم 1429هـ الموافق 15 يناير 2008م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=142
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع