ماذا بعد تقاعد القضاة

قضائيات من المستفيض بين موظفي الدولة: أنَّ من حقِّ الموظف المدني طلب التقاعد بعد إمضاء عشرين سنةً في الخدمة؛ غير أنَّ تحقق طلبه مشروطٌ بموافقة جهة تعيينه، أما إذا أمضى خمساً وعشرين سنة في الخدمة فاستحقاقه للتقاعد والمعاش غير مشروط؛ بناءً على المادة (18) من نظام التقاعُد المدني.



أما القضاة - المحالون على التقاعد قبل إكمال عشرين سنة في الخدمة - فقد وجدوا في تلك المادة ما يمكنهم به أن يطالبوا بحقهم في الراتب التقاعدي، ونص المقصود منها ( فإذا كان انتهاء الخدمة بسبب إلغاء الوظيفة، أو الفصل بقرارٍ من مجلِس الوزراء، أو بأمرٍ سامي - ما لم ينُصا على أنَّ الفصل بسببٍ تأديبيٍ - فيستحق الموظف معاشاً متى بلغت مُدة خدمته المحسوبة في التقاعُد خمس عشرة سنةً على الأقل )، وبما أنَّ القاضي يعين بأمرٍ ملكيٍ ويعفى بنفس الطريقة فهم داخلون في حكم هذه المادة ولاشك، وعلى ذلك سار قضاة المحاكم.



ومما ورد على هذه المادة حادثتان هما:

الأولى/ في عام 1419هـ أحيل على التقاعد أحد فضلاء القضاة، بسبب انقطاعه عن العمل لظروفٍ تخصه - وكانت خدمته ثمانية عشر عاماً - إلا أنَّ مصلحة معاشات التقاعد ذلك الوقت امتنعت عن صرف معاشه التقاعدي بحجة أنَّ إحالته كانت تأديبيةً بسبب انقطاعه، غير أنَّ فضيلته وجد أنَّ من حقه طلب المعاش، فتقدم بدعوى ضد المصلحة استغرق نظرها قرابة ستة أشهر وانتهت بالحكم له بالحق في المعاش التقاعدي ؛ بناءً على المادة (82) من نظام القضاء السابق، ونصها ( العقوبات التأديبية التي يجوز توقيعها على القاضي هي: اللوم، والإحالة على التقاعد )، أي: أنَّ إيقاع العقوبة التأديبية على القاضي لا تُخرِجُ صاحبها من كونه محالاً على التقاعد بنص المادة، وكان الفضل في الحكم في هذه القضية لأحد أبناء العمومة من قضاة ديوان المظالم بالرياض، ولقد أصبح هذا الحكم سابقةً قضائيةً استفاد منها من بعده.



الحادثة الثانية/ في عام 1426هـ أحيل أحد القضاة على التقاعد للمصلحة العامة؛ وكانت خدمته ثلاث عشرة سنة فقط، وكما تعارف عليه القضاة فإنه لا يستحق سوى تصفية حقوقه، ولا حق له في راتبٍ تقاعديٍ يصرف له شهرياً؛ غير أنَّ أحد أذكياء المحامين - ممن تولى القضاء داخل المملكة وخارجها - تعهد بالترافع في هذه القضية لدى ديوان المظالم ضد المؤسسة العامة للتقاعد؛ معتمداً على نص المادة (82) سالفة الذكر، وبعد ثلاثة أشهر فقط صدر الحكم باستحقاق موكله للمعاش؛ لأنَّ المادة (82) مخصصة لعموم المادة (18)، ولأنَّ إنهاء خدمة القضاة يكون بأمرٍ ملكيٍ بحسب المادة (83) من نظام القضاء السابق، لا بأمرٍ سامٍ كما جاء في المادة (18) من نظام التقاعد، وفرقٌ بين الأمرين في العرف الإداري؛ فالأمر السامي يصدر من رئيس مجلس الوزراء أو أحد نوابه مستنداً إلى أيٍ من أنظمة الدولة، أما الأمر الملكي فيعبر عن إرادة الملك وحده.

وبحقٍ فإنَّ هذا الحكم قد قَرَّرَ مبدأً جديداً في بابه، ولذلك استحق تسميته: بالمبدأ القضائي الإداري الأبرز لعام 1428هـ.



ومن هاتين الحادثتين نخرج بعدة وقفات:

الوقفة الأولى: وقفة إجلالٍ وإكبار لمقام ديوان المظالم وقضاته الفضلاء الذين ما فتئوا يتحفوننا بين الحين والحين بالأحكام الزاهرة والمبادئ الغرر في جبين القضاء في المملكة، نقول معها لهم: ليهنكم القضاء منسوبي الديوان، وإلى الأمام.



الوقفة الثانية: وقفة تقديرٍ واحترامٍ للمدعي في القضية الأولى والمدعي وكالةً في القضية الثانية ، وهما القاضيان النابهان اللذان لم يستسلما لواقعة الامتناع عن صرف المعاش في القضيتين، واستطاعا - بتوفيق الله لهما ثم بفطنتهما ودقة استنتاجهما - الوصول بدعوييهما إلى حيث يريدان ويأملان، على أننا ندعو الله لهما: أن يكونا عوناً على إحقاق الحق وإبطال الباطل في حاضرهما ومستقبلهما كما كانا في ماضيهما العتيد.



الوقفة الثالثة : وقفة استعتابٍ ولومٍ لمقام وزارة العدل التي لم تقف مع منسوبيها في أحلك ظروفهم، إذ القاضي أحوج ما يكون لعون مرجعه عقب إنهاء خدمته، وإنَّ احتياج القضاة لمن يخبرهم بما لهم وما عليهم بعد إنهاء خدمتهم أمرٌ لازمٌ للكثير ممن يخفى عليه مثل هذه الأمور الإدارية البحتة، بل إنَّ القاضي أحقُّ بأن تتكفل الوزارة الموقرة بمتابعة أوراق تقاعده حتى انتهائها مكافأة له على ما أحسن فيه خلال مدة عمله، ولا يحتاج هذا إلا لتخصيص موظفٍ واحد من إدارة العلاقات العامة ليتولى بنفسه تخليص معاملات القضاة المتقاعدين في الوزارة الموقرة وفي المؤسسة العامة للتقاعد؛ خصوصاً أن أعداد القضاة المتقاعدين لا يزيدون عن العشرين في العام الواحد.

وللعلم: فإنَّ القاضي في كل بلاد الأرض يحتفظ بمسمى (القاضي) حتى بعد عزله أو استقالته؛ فكثيراً ما نقرأ ونسمع ونرى أنَّ فلاناً يُعَرَّفُ به على أنه: القاضي فلان، إلا هنا حيث يضطر بعض متقاعدي القضاة إلى الشكاية ليحصلوا على حقوقهم التي كفلتها لهم أنظمة القضاء أو التقاعد أو المحاماة.



الوقفة الرابعة: وقفة رجاءٍ وأمل في أن يكون المجلس الأعلى للقضاء - بتشكيله القادم - كغيره من المجالس العليا في الدولة؛ التي تتسم بعلو الهمة وصفاء السريرة في تطبيق مواد النظام على منسوبيها؛ وبخاصة: ما يتعلق بإنهاء خدمة القضاة، ففي عام 1416هـ أنهيت خدمة أحد القضاة للمصلحة العامة قبل إتمامه الخمس عشرة سنة في الخدمة المدنية بنحو شهرين فقط، فالتمس من الجهة المعنية تأخير صدور القرار ليتوافق مع تاريخ إتمام المدة، غير أنه لم يُوفق فيمن يرأف بحاله، ولم يجد من مصلحة معاشات التقاعد إلا تصفيةً نهائية لجميع حقوقه، سرعان ما أنفقها كلها خلال رحلة البحث عن مصدر رزقٍ بديلٍ، حتى آل أمره إلى اتخاذ حافلةٍ عتيقةٍ لنقل المعلمات في بلده، ولعله يجد في القرار الأخير ما يَسُدُّ به خَلَّتَه ويُواسي به عِلَّتَه، إن لم يكن قد سقط حقه بالتقادم لطف الله به.



الوقفة الخامسة: وقفة ترقبٍ وطلب من ولاة الأمر - وفقهم الله - بدعم المجلس الأعلى للقضاء في تشكيلته القادمة بقضاة استئنافٍ من القضاء الإداري في ديوان المظالم؛ بحسب ما نصت عليه الفقرة (هـ) من المادة (5) من نظام القضاء الجديد، لأنَّ في ذلك استدراكاً لما يفوت المجلس عادةً من أمورٍ نظاميةٍ لازمةٍ لإصدار مثل هذه القرارات الإدارية، وتداركاً لسلبية المادة (65) من نظام القضاء حول قطعية أحكام المجلس التأديبية، وكذا المادة (14) من نظام ديوان المظالم القاضية بمنع الديوان من النظر في الاعتراضات على ما يصدره المجلس الأعلى للقضاء من قرارات.



الوقفة السادسة: وقفة التماسٍ واستعطافٍ لولاة الأمر - أعزهم الله - بتعديل المادة (7) من نظام القضاء الجديد بشأن صدور قرارات المجلس بالأغلبية، لتكون - فيما يخص تأديب القضاة - بإجماع الأعضاء، لأنَّ الأغلبية قد تتحقق بحسب الظروف والأحوال.



الوقفة السابعة: وقفة نصحٍ وإرشاد لكل من جرت المقادير بإنهاء خدمته القضائية بحقٍ أو بغيره: أن يعلموا أنَّ لكل جوادٍ كبوة، وأن يتخذوا من التقاعد بدايةً لنشاطٍ جديدٍ مدعومٍ بتجارب العمل السابق وخبرات السنين السالفة، فكم سمعنا عن قضاة أنهيت خدماتهم فنالوا أعلى المراتب، وحازوا أسمى المناصب.

وأن يحذروا الوقوع في هناتٍ لاحقة، فمن لم يتعظ بغيره كان هو موعظةً لمن سواه، وكم بلغنا عن بعضهم ممن تمرد على نفسه ومبادئه وما نُشِّئ عليه؛ انتقاماً للنفس الأمارة بالسوء، وآخرين ركبتهم الهموم، وامتطتهم الأحزان، وافترستهم العلل، حتى ماتوا حسرة وكمداً، ولو نظر أحدهم إلى النصف المملوء من الكأس لكان أفضل حالاً وأسعد بالاً.



هذه الوقفات العجلى تأتي على ثغرات تلك الأنظمة، وتنير طريق العدالة، وترقى بالإجراءات الإدارية في معاقل العدل والحق إلى أعلى المراتب إن شاء الله تعالى. والله الموفق

-

-

-

- | عدد القراء : 5708 | تأريخ النشر : الثلاثاء 14 محرم 1429هـ الموافق 22 يناير 2008م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=176
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع