القاضي قبيل تقاعده

قضائيات تمتاز كثيرٌ من إدارات الشركات والدوائر الحكومية - خصوصاً الأمنية منها - بحسن معاملة الموظف قبيل تقاعده؛ إذ يتنوع الموقف الحسن من الموظف بحسب تخصصه ودرجته وموقعه الإداري وَبِقَدرِ ما أبلى فيه خلال سنوات خدمته؛ غير أنها لا تخرج في مجموعها عن رُقِيِّ المعاملة وكرم الأخلاق.



فمن المعلوم: أنَّ ترقية الموظف العسكري للمرتبة التي تلي مرتبته - متى أنهى المدة اللازمة للبقاء فيها - لا تكون من تاريخ القرار، بل من الاستحقاق؛ ولو مضى عليه سنوات.

وكثيراً ما كان التأخير في إعلان الترقية من صالح الموظف الأمنِيِّ، إذ ما إن يصدر قرار ترقيته المتأخِّر إلا ويقبض فروق مدة التأخير كاملةً دفعةً واحدة، وكأنَّ الدائرة قد عملت على ادِّخارها له تبرعاً.

ولذلك: فلا تُؤثِّر إحالته على التقاعد في استحقاقه، ولا يضيع عليه مما يستحقه نظاماً أيَّ شيء؛ بناءً على الفقرة (أ) من المادة (25) من نظام خدمة الضباط؛ لكون سبب استحقاقه قد سبق سبب إحالته، والدولة - وفقها الله - غنيةٌ عن حقوق رعاياها.



وخلاصة تعاملات الدوائر آنفة الذكر مع متقاعديها - تصاعدياً - كالتالي:

أ/ تضمين الترقية المستحقة سابقاً في قرار الإحالة ؛ بحيث يشمل القرار: أولاً ترقيته، وثانياً إحالته على التقاعد.

ب/ مكافأة الموظف على خدمته بالترقية إلى المرتبة التي تلي مرتبته قبل استحقاقه إياها نظاماً؛ وتضمينها في قرار الإحالة.

ج/ ترقية الموظف أولاً، وتأخير إحالته سنة أو سنتين، وتمكينه خلال هذه المدة من التمتع بما يستحقه من إجازات.

د/ منح الموظف درعاً تذكارياً وشهادةً تقديريةً ومكافأةً عينيةً ثمينة تواسيه في مستقبل أمره.

هـ/ تكريم المتقاعد في حفلٍ مناسب، وإشهاره في الصحف والمجلات المتخصصة.

و/ الاستفادة من خبرات المتقاعد في الخُطط والبرامج الخاصة بدائرته بين الحين والحين.

ز/ استقطاب أكبر أبنائه أو من يُشير هو بهم للعمل في ذات القطاع.

ح/ تمكينه من التعاون مع قطاعه؛ بأفضليةٍ مناسبةٍ، متى توجه نحو العمل الخاص في أنشطةٍ قريبةٍ من تخصصه السابق.

هذا غَيضٌ من فَيضِ تلك القطاعات الرائدة، وما خَفِيَ عليَّ أكبرُ مما أوردته، فَلِلَهِ دَرُّهُم! من رجالٍ حازوا مجد الدنيا، ولن يُعدموه في الآخرة بحول الله، ولله دَرُّ من وُفِّقَ في انتقائهم.



أما القضاة فإنَّ لهم تَمَيُّزاً جليلاً في المعاملة وتقديراً جميلاً لدى الدولة بحسب ما نصت عليه أنظمتها ، ومن ذلك:-

أولاً/ استثناء القضاة بكون تعيينهم يكون بأمرٍ ملكيٍ ، من بدايات خدمتهم وحتى انتهائها ؛ بحسب المادة (52) من النظام الأساس للحكم، والمادتين (47،67) من نظام القضاء الجديد.

ثانياً/ النص في المادة (2) من نظام القضاء الجديد على عدم استحقاقهم العزل؛ إلا وفق أحكام النظام ، أي : بعد التطبيق الصحيح والصريح للمواد من (58-68).

ثالثاً/ منع مخاصمة القاضي بسبب أعمال وظيفته؛ إلا وَفق المواد آنفة الذكر.

رابعاً/ استحقاق القاضي مرتباً تقاعدياً يكفل له كرامته؛ مهما كانت مدة خدمته، وأياً كان سبب إعفائه.



إلا أنَّ القاضي يخرج من الخدمة في سكونٍ كسكون المقابر، وفي هدوء القطرةِ تنساب من فِيِّ السِّقَاء حتى تقع على الأرض؛ لأنَّ فَنَّ الإدارة - في واقع القضاة اليوم - مفقودٌ، وَحُسنَ السياسة موءودٌ؛ بدليل الأمور التالية:-

1/ لم يحدث - في تاريخ القضاء في المملكة - تضمينُ الترقية التكريمية في قرار الإحالة على التقاعد لأيِّ قاض.

2/ استحق كثيرٌ من القضاة الترقية قريباً من تاريخ إنهاء خدمتهم، فلم ينالوا ما هم مستحقون له نظاماً قبيل إحالتهم.

3/ مضى على استحقاق كثيرٍ منهم للترقية زمنٌ طويل، وأُنهيت خدماتهم دون أن يأخذوا حقوقهم؛ ولو في قرارات إحالتهم؛ خصوصاً: أنَّ تلك المراتب ستشغر عقب تقاعدهم؛ ليستفيد منها غيرهم.

4/ أحيل بعضهم على التقاعد للمصلحة العامة قبيل إكمالهم سن التقاعد للقضاة ( 70 سنة ) بزمنٍ يسير، ولم يُتركوا حتى يُكملوا مُدَّةَ خدمتهم؛ ولو صبر القاتل على القتيل لمات حتف أنفه.

5/ تحتج الإدارة العامة للمحاماة على حجب الترخيص عَن القاضي المعفى للمصلحة العامة بقرارٍ من مجلس القضاء الأعلى، مع أنَّ هذه المهنة هي التي تُنَاسِبُ أحوالَ كثيرٍ منهم، فضلاً عن أنَّ هذا المنع باطلٌ نظاماً لمخالفته المادة (14) من لائحة انتهاء الخدمة الصادرة بموجب قرار مجلس الخدمة المدنية رقم 1/813 وتاريخ 20/8/1423هـ المبلغ بخطاب ديوان رئاسة مجلس الوزراء رقم 7/ب/44764 وتاريخ 17/11/1423 هـ.



وكان من نتائج هذا القرار - على من عمل قاضياً دون خمس عشرة سنة - الآتي:-

• لم يجد بعضهم عملاً كريماً في مكان سُكناه إلا نقل المعلمات، أو جلب مواد البناء في سيارة قلاب.

• اتخذ أحدهم مطعماً لتأمين رزقه وعياله.

• اتجه نفرٌ منهم لتربية المواشي في مشهدٍ يَندى له جبينُ العقلاء، وَيَأنَفُ من التَّسَبُّبِ فيه ذوو المروءات.

• لم يُوَفَّق أحدهم في العثور على عملٍ مناسبٍ - وهو ذو عيال - فَآلَ أمره إلى تَقَبُّلِ زكاة الفطر من بعض خاصته، فضلاً عن إعطائه الزكاة من بعض من تسبَّب في إحالته.

• ذكر لي أحدهم: أنه لا يقدر على شراء الفاكهة لعياله غير مرةٍ أو مرتين في العام.



هذا هو حال القضاة قبيل التقاعد وما نشأ عنها، وتلك حال غيرهم قبيل إنهاء خدماتهم وما نتج منها، مع أنَّ قيادات الفريق الأول ليس من بينهم من هو من العلماء، وقد لا يكون مِن بينهم أحدٌ من طلاب العلم الشرعي، بل إنهم في أجسادهم وَصُوَرِهِم أقلُّ التزاماً بالسنن والمستحبات الشرعية؛ غير أنهم زَكَت نفوسهم، وَرَقَّت قلوبهم، فكانوا أذلةً على المؤمنين رحماءَ بينهم كما وصفهم الله ، وَعَلَت هِمَمُهُم، وَسَمَت مروءاتهم، فعدلوا وأحسنوا كما أمرهم الله.



ولعمري! من تأمَّل الحديث التالي عَرَفَ من هو أسعَدُ الفريقين بتحقيقه، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (( إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعمَالِكُم )).



وإني لأجزم: بأن التوجه نحو الأفضل لن يحظى بغير القبول والموافقة الفورية؛ متى كان التغيير نابعاً من داخل المؤسسة القضائية ولمصلحة منسوبيها؛ لما تتمتع به من تقديرٍ فائقٍ لدى ولاة الأمر وفقهم الله.

فهل تضع القيادة المرتقبة للمجلس الأعلى للقضاء ذلك من أولوياتها؟. نرجو ذلك. والله الموفق

-

-

-

-

- | عدد القراء : 4771 | تأريخ النشر : الأحد 26 محرم 1429هـ الموافق 3 فبراير 2008م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=181
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع