تطوير القضاء بين التَّنوِيم والتَّعويم

قضائيات في العقد الأول من هذا القرن الهجري ابتليت بعضُ الوزارات في الدولة بقياداتٍ دأبت على توفير أجزاء من ميزانياتها وإعادتها لوزارة المالية نهاية كل عام؛ مع علمهم أنها ستُقتَطَعُ من ميزانية العام الجديد ما دامت زائدةً عن حاجة العام الذي قبله.

وقد يكون لبعض هذه القيادات أعذارٌ مقبولةٌ ذلك الوقت؛ خصوصاً: إذا خشي المسؤول الأول من طموحات بعض الدراسات الجامحة، أو من بعض الاجتهادات المتسرعة التي قد تؤدِّي إلى تبديد المال العام.



ووزارة العدل من بين هذه الوزارات التوفيرية، ومع أنها قد حظيت خلال تلك الفترة بقيادةٍ فاضلةٍ هي غايةٌ في نقاء السيرة وصفاء السريرة؛ غير أنَّ القيادات الثانوية فيها لم تُوَفَّق في إدارة ميزانياتها، فكانت اجتماعات اللجان تتعاقب طوال العام، وتنفضُّ الجموع على أمل اللقاء، لكن بلا قرار؛ كما حصل بشأن بدل سكن القضاة المقرر عام 1398هـ، إذ بسبب الاختلاف بين أعضاء اللجنة في مقدار البدل؟ - وهل يكون بحسب مكان السكنى، أو مرتبة القاضي، أو بحسب الراتب؟ - ، ولطول مدة الحسم، ولعدم الاتفاق على شيءٍ : لكل ذلك لم ير القرار النور، فَدَرَسَت آثاره، وَحُرِمَ أهلوه منه، ومات قبل أن يُولد.



ولقد استبشر رجال العدل خيراً بالانتفاضة البطلة لخادم الحرمين الشريفين، عندما اعتمد - رعاه الله - أكبر ميزانيةٍ عدليةٍ في تاريخ المملكة لتطوير مرفق القضاء ، إذ إن السبعة آلاف مليون ريال ليست بالمبلغ السهل في اعتماده ولا في صرفه؛ ولولا أنَّ خادم الحرمين الشريفين وقف بنفسه على حاجة المؤسسة القضائية للتطوير لما اقتصَّ لها هذا المقدار من ميزانية الدولة العامة في سنةٍ واحدة، وإني لعلى ثقةٍ بأنَّ المقامَ السامي الكريم لن يبخل على الجهاز القضائي بالزيادة متى احتاج لها؛ فالنفقة عند الحاجة لا تمنع المفاضلة.



والقرار الملكي الكريم - الذي صدر منذ خمسة أشهر - لا يزال المختصون يأملون في سماع الأخبار عن أيِّ شيءٍ حوله، غير أنَّ الإعلام لا ينقل إلا بعضاً من أخبار ديوان المظالم الذي هو الشريك القضائي للمجلس الأعلى للقضاء في بلادنا؛ فقد شاع مؤخراً أنَّ الديوان الموقر قد أصدر قراراتٍ باستكمال افتتاح فروعٍ له في بقية عواصم المناطق، وأنه قد أنهى استئجار مقراتٍ للمحكمة الإدارية العليا ولرئاسة الديوان ومجلس القضاء الإداري.



وكلما دار حديثٌ حول مشروع التطوير القضائي - مع أيٍ من المعنيين - يخطر ببالي قول خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها وهي تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها، وتقول ( إنَّ لي صِبْيَةً صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليَّ جاعوا ).

فكنت أتصوَّر المليارات السبعة كأولئك الصبية: إن جُعِلَ أمرها إلى الجهات القضائية نُوِّمَت وجاع أهلها؛ إذ لن يُصرف منها شيءٌ في حينه المؤمل؛ بحجة أنَّ هذا غالي السعر، وذاك لا حاجة له، والثالث يُؤَجَّل، وهكذا كما حصل لبدل سكن القضاة آنف الذكر.

وإن وُكِلَ أمرُ هذه الميزانية لغيرهم عُوِّمَت وضاع جُلُّها؛ فبدلاً عن الارتباط بها جميعها سَتُقَسَّط على عِدَّةِ سنوات، فيمضي قسط سنتها الأولى، ويُنقص في الثانية، ويُؤَجَّل في الثالثة، وقد يُلغى بعد ذلك.



ولذلك وجب على رُعاة العدل وربابنة المؤسسات القضائية أن يُبادروا بالنهوض بالمشروع كما يريده ولاة الأمر - وفقهم الله - لكيلا نقع في عواقبَ مما سبق أن عايشناه من تأخيرٍ في التنمية القضائية، وأن يجعلوا في حسابهم تجهيز أربعة آلاف قاضٍ على الأقل خلال الخمس سنوات القادمة؛ سواءٌ: بالتعيين، أو بالنقل، أو بالتعاقد.



ولتحقيق ذلك: أرى أنَّ من المناسب اتخاذ الخطوات التالية:

أولاً/ مخاطبة وزارة الشؤون البلدية والقروية باستكمال تخصيص أراضٍ مناسبةٍ لإقامة مقرات المحاكم في جميع محافظات ومناطق المملكة، والاستعانة على ذلك بتوجيهٍ سامٍ كريم يحث على سرعة إنجاز المطلوب.



ثانياً/ طرح منافسةٍ بين المكاتب الهندسية في تصميم مباني المحاكم وجميع ما تحويه من أثاثٍ وتجهيزات؛ مع مراعاة جعل التصميم من الداخل موحداً في جميع المحاكم، أما التصميم الخارجي فيكون تبعاً لتراث المكان الذي يُقام فيه البناء؛ حفظاً للهوية والتراث البيئي.



ثالثاً/ بعد استلام مواقع المحاكم ونحوها، وعقب انتهاء التصاميم تطرح المنافسة الكبرى في إقامة المباني بين الشركات المؤَهَّلة لهذه المشاريع الجبارة، ويُرتبط معها - على الفور- بعقودٍ مجدولةٍ لا تتعدى الخمسة أعوام التي تلحق توقيع العقود.



رابعاً/ تُخَصَّصُ أربعة مليارات ريال لإقامة وتجهيز أربعة آلاف مكتبٍ قضائيٍ ومرافقها تجهيزاً كاملاً على أحدث المواصفات المعمارية والتقنية؛ بحيث لا تَقِلُّ مساحةُ تلك المكاتب ومرافقها عن ثمانمائة ألف مترٍ مربع، مساحةُ كل مكتبٍ قضائيٍ مائتا مترٍ مربع، وتكلفة بناء وتجهيز المتر المربع لا تتعدى خمسة آلاف ريال.



خامساً/ تُخَصَّصُ مائة مليون ريال للتعاقد مع شركات التشغيل والصيانة لجميع المحاكم بعقدٍ مدته خمس سنوات، على اعتبار تخصيص خمسة عمال لكل مكتبٍ قضائيٍ من المكاتب الأربعة آلاف المفترض إنجازها خلال الخمس سنوات القادمة.



سادساً/ تُخَصَّصُ خمسمائة مليون ريال لتوريد وتركيب وتشغيل وصيانة وحدة التحكم الحاسوبية الرئيسة في وزارة العدل وجميع وحدات التحكم الفرعية وطرفياتها في جميع فروع الوزارة والمحاكم وكتابات العدل، والتدريب عليها مدة الخمس سنوات التالية لإتمام بدء التشغيل؛ بحيث تشمل: أحدث أجهزة الحواسيب وتمديدات شبكة المعلومات العدلية، وأرقى تقنيات التسجيل ( بالصوت والصورة ) لجميع المكاتب القضائية، وعلى أدق تقنيات المراقبة والأمن والسلامة.



سابعاً/ تُخَصَّصُ مائة مليون ريال للتدريب القضائي؛ بالتعاقد مع مؤسسات التدريب الحقوقي والمعاهد المتخصصة في الداخل والخارج، بما لا يقل عن مليون ساعة تدريبٍ في جميع التخصصات القضائية، تكفي لتدريب أربعة آلاف قاضي، لكل قاضٍ مائتان وخمسون ساعة.



ثامناً/ تُخَصَّصُ أربعمائة مليون ريال للتدريب الإداري للموظفين؛ بالتعاقد مع معاهد التدريب والتطوير الإداري والتقني على ما لا يقل عن عشرين مليون ساعة تدريبٍ في جميع التخصصات الإدارية والفنية؛ تكفي لتدريب أربعين ألف موظف، لكل موظفٍ 500 ساعة تدريب.



تاسعاً/ تُخَصَّصُ ستمائة مليون ريال للارتقاء بالخدمات العلمية والطبية والإسكان لأربعة آلاف قاضي؛ بالتعاقد مع كبريات المكتبات وشركات التأمين بحيث يخصص لكل قاضٍ - سنوياً - 3000 ريال لتأمين الكتب القضائية وبرامج الحاسوب، وما يكفي للتأمين الطبي له ولعائلته؛ كُلٌ بحسب حاله.



عاشراً/ تُخَصَّصُ ثلاثمائة مليون ريال لإقامة نادٍ نموذجيٍ للقضاة في مدينة الرياض، وخمسة عشر نادياً متوسطاً في عواصم المناطق ومحافظتي جدة والطائف ( والأحساء )؛ وقد سبق أن تطرقت إلى بحث موضوع ( نادي القضاة السعودي ) في صحيفة الاقتصادية العدد 5011 الصادر بتاريخ 16/ 6/ 1428هـ والمنشور في الصفحة http://www.cojss.com/article.php?a=51.



حادي عشر/ يُخَصَّصُ قدرٌ مناسبٌ من الميزانية؛ لاستضافة الخبرات العلمية والقضائية العالمية، ولعقد الندوات الدولية داخل وخارج المملكة مرتين في العام؛ للتعريف بالقضاء السعودي، والاستفادة من مخرجات التطور القضائي العالمي.



ثاني عشر/ الاهتمام بإقامة المؤتمرات القضائية الداخلية؛ على أن تُعقد في عواصم المناطق تباعاً؛ على النحو التالي:

• مؤتمر لجميع القضاة مرةً كل عام.

• مؤتمر لرؤساء المحاكم فقط مرتين في العام.

• مؤتمر للقيادات القضائية وقضاة المحكمة العليا ومحاكم الاستئناف ثلاث مرات في العام.

• مؤتمرات مصغرة على مستوى قضاة المنطقة الواحدة أربع مرات في العام، تُقَامُ في عاصمة المنطقة المختصة.



إنَّ هذه الخطوات الاثنتي عشرة تكفل الارتباط بكامل الميزانية المخصصة للمشروع منذ السنة الأولى، وتدفع إلى زيادة الدعم عند اللزوم، وتمنع من التَّعَرُّضِ لها بالنقص أو التأجيل، وتقصر دور المؤسسة القضائية على الإشراف ومتابعة التنفيذ ومراجعة التقارير.



وإننا إذ نجرؤ على التعليق على موضوع الميزانية ليحدونا الأمل في أن يجد هذا المشروع الرائد طريقه نحو التطبيق؛ وأن ينعم الجميع بثماره واقعاً ملموساً؛ كما أراده خادم الحرمين الشريفين وفقه الله.

-

-

-

-

- | عدد القراء : 6758 | تأريخ النشر : الاثنين 4 صفر 1429هـ الموافق 11 فبراير 2008م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=184
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع