نظام القضاء طُمُوحٌ أم جُمُوح

قضائيات عندما يريد أحدنا السفر براً إلى الديار المقدسة لأداء النسك فإنه يديم النظر إلى اللوحات الإرشادية على جانب الطريق؛ لمعرفة كم بقي من الكيلومترات على الوصول إلى مكة المكرمة، والرقم في بداية الطريق يكون كبيراً على من هم بالآفاق؛ غير أنَّ الحماس للوصول إلى الغاية يُبَدِّدُ الشعور بِبُعد المسافة وَعَنَتِ السفر، وكلما مضى وقتٌ على المسافر خبا فيه نشاطه تدريجياً من أثر المشقة؛ مما يجعل لرقم المسافة المتبقية أثراً بالغاً في الشعور بالإرهاق، مع أنَّ الرقم يتناقص كلما استمر المسير.



وقد وجدت حلاً لإذابة هذا الشعور - في مثل تلك الأسفار البرية - بتركيز النظر على أدنى الأرقام التالية للرقم المطلوب في أعلى اللوحة؛ حيث تكون المحطة القادمة قريبةً جداً من مكان ارتكاز اللوحة، وهكذا محطةٌ تلو أخرى حتى يقرب الهدف المقصود.



بمثل هذا الاستشعار يمكن لكل راغبٍ في إتمام أمرٍ ما أن يُحَقِّقَ أعلى معدلات الإنجاز دون تأخيرٍ ولا فتور، يبدأ أولاً بتحديد الغاية ، ثم يقسم العمل إلى مراحل متتالية، ثم يضع عينه على الغاية الدنيا، ثم التي تليها مدة عمله؛ مستحضراً في ذهنه الهدف الأبعد.



وإذا افترضنا: أنَّ الوقت المحدد قد أدرك صاحبه قبل الوصول إلى غايته، بعد بذله ما في وسعه لإنجازه، فإنَّ ذلك لا يضره؛ إذ إنَّ ما أنهاه من عملٍ يُعَدُ إنجازاً لا يُستهان به، بل إنه قد يعيا على غيره لو قام به بدلاً عنه، ولو استزاد - من أدركه الوقت - مدةً إضافيةً لِيُحَقِّقَ ما يُراد منه لكان حرياً أن يُجاب إلى طلبه؛ فهو أدرى من غيره بما حققه وبكيفية إتمامه. وليس من الحكمة تأجيل المسير ابتداءً لطلب تمديد المهلة؛ فذلك هو التأخير والتسويف والتخلف المذموم.



ولو أنَّ القيادة القضائية عملت من هذا المنظور لبدأت فعلاً في ترتيب الأولويات، ولشرعت في العمل وفق الأوَّلِيَّات، ولكانت في مستوى طموحات قادة البلاد - حرسهم الله - الذين فرضوا نظام القضاء وحدَّدوا مدة إنجازه.

غير أننا نسمع عن رغباتٍ هنا وهناك بعزم بعضهم على طلب تأجيل إنفاذ النظام؛ لاستحالة تطبيقه من منظورهم في المدة المحددة؛ فذلك في تَصَوُّرِهِم جموحٌ إلى متعذرٍ، وليس طموحاً إلى ممكن، ومثل هذا - لو صَحَّ - عيبٌ مذمومٌ ولاشك.

ولو أن هؤلاء استطلعوا ما لدى شركائهم (ديوان المظالم) لعلموا أنَّ القوم قد بدأوا من أول يوم عملٍ بعد صدور النظام، أي أنهم لم يُفَوِّتُوا ساعة عملٍ واحدةً في تحقيق المطلوب منهم، ولهذا لا تزال آثار تلك المساعي تظهر عنهم تباعاً.



والدعم المالي لم يُحَدَّد منه ما لكلٍ من الجهازين القضائيين، فحريٌ بديوان المظالم أن يأخذ منه كل ما يحتاج إليه وهو أهلٌ لذلك ما دام سباقاً، غير أنه لن يترك لمن يلحق به إلا ما فضل عن حاجته، وإن كنت أظن أنه لن يكفيه.



وبالمناسبة: فإنَّ أغلب جيلنا هم من أبناء الكادحين المكافحين لتأمين لقمة عيش أهليهم وأسرهم؛ ممن لا تتعدى مدخراتهم - في أحسن أحوالهم - نفقة عامٍ واحدٍ، فقد كنا - ونحن صبيةٌ صغار - نستشعر أثر الصدمة في وجوه أقراننا إذا رأوا مِنَّا أو علينا ما لم يحصُلُوا عليه معنا أو قبلنا، كما كنا نجد ذلك الشعور إذا هم سبقونا إلى شيءٍ من ذلك، هذا مع ضعف الحيلة وَقِلَّةِ ذات اليد.

ولقد شاء الله أن نجد - نحن القضاة - مرارة هذا الشعور ونحن نرى الإنجازات تتالى من جيراننا وشركائنا في الهدف، في وقتٍ أولياء أمورنا من أغنى أغنياء المؤسسات الحكومية بما خُصِّصَ لهم من دعمٍ غير مسبوقٍ في ميزانية هذا العام.

كيف لا!، وقد أوضحت آلية العمل التنفيذية لأنظمة القضاء ما ينبغي فعله من كلٍ من الجهازين أوضح بيان، وحددت مدة كل عملٍ مطلوب، فبدأ الشركاء في العمل وتخلفنا، وتقدموا وتأخرنا، بل لازلنا نتطلع لتأجيل موعد البدء في تفعيل النظام !!!.



لا يمكن لمثلي أن يشك أبداً في أنَّ ذمة الدولة وقيادتها قد برأت من وضع القضاء في المملكة، بعد أن بذلت أكبر ميزانيةٍ في تاريخها لتطوير مرفق القضاء، وبعد أن وجهت بتوحيد جميع جهات التقاضي تحت مظلتين شرعيتين كما هي عليه في عهد السلف الصالح.

بل أوصت بعمل دراسةٍ شاملةٍ لوضع اللجان المستثناة (البنوك، السوق المالية، القضايا الجمركية) لاستكمال الإجراءات النظامية بشأنها، وَأّنَّى لمثل هذا أن يحصل بإرادةٍ تلقائيةٍ من حكومةٍ تعيش زماناً لا تسلم فيه كثيرٌ من الحكومات من الضغوط والتدخلات الخارجية في جميع شؤونها حتى الداخلية منها؛ لولا إصرار القيادة الحكيمة على أن تكون في مستوى الطموحات المؤملة منها؛ وهي القائمة على خدمة الحرمين الشريفين، وعلى إعلاء كلمة التوحيد رايةً وشعاراً، وعلى الاعتزاز بتطبيق الشريعة الإسلامية.



وإنَّ لنا مع هذا الأمر تسعة نداءات:-

النداء الأول/ لولاة الأمر - سددهم الله - آملين منهم تكثيف الطلب من الجهات المعنية بتقديم تقارير عن المنجزات كل ثلاثة أشهرٍ على الأقل، وإقفال باب البحث في أمر التأجيل أياً كان سببه.



النداء الثاني/ لمعالي وزير العدل - وفقه الله - طالبين منه العمل على استكمال الترتيبات اللازمة لتنفيذ أيٍ من القرارات المطلوبة حال صدورها؛ حتى لا يتأخر تحقيقها في الواقع الملموس المشاهد، ولعل من الترتيبات الممكن عملها إعداد البرامج التدريبية للقضاة والموظفين؛ فالتخطيط لها وجعلها جاهزة للتنفيذ فور طلبها لا يكون إلا بالإعداد المسبق على نحوٍ تام.



النداء الثالث/ لأفراد القيادة القضائية المناط بهم إصدار قرارات إنفاذ متطلبات النظام نسألهم استشعار أنَّ هذه الفرصة حصلت بغير فعلٍ من أحدٍ منهم، وأننا لم نكن نحلم بحصولها في هذا الوقت لا نحن ولا غيرنا، ولولا أنَّ خادم الحرمين الشريفين حفظه الله قرر ذلك من ذات نفسه لم نطلب ذلك منه ولم نترقبها إلا من مثله، وإنَّ من المؤلم فوات هذه الفرصة على جهاز العدل باجتهاداتٍ خاطئةٍ يتسبب بها من تسري آثارها على غيره.



النداء الرابع/ لكبار المسؤولين في الدولة من أصحاب السمو الملكي الوزراء وأمراء المناطق وسائر أصحاب المعالي الوزراء بالتفضل بمتابعة هذا الموضوع مع المعنيين به، والتكرم بالإسهام في تذليل مصاعبه كل فيما يخصه، واحتساب الأجر عند الله بإعطائه الأولوية المناسبة؛ فكلٌ منهم على ثغرٍ من ثغور هذا الدين.



النداء الخامس/ لصاحب السماحة مفتي عام المملكة وأصحاب المعالي كبار العلماء - أعظم الله أجرهم - ببذل الوسع في المشاركة بالمشورة والنصح فيما يساعد على تخفيف مسؤوليات تطبيق النظام وتهوينه على من أسند إليهم أمره.



النداء السادس/ لمعالي رئيس وأعضاء مجلس الشورى الموقر بجعل هذا النظام من أولويات ما يناقشونه في مجلسهم الرائد بين الحين والحين، وأن يطلبوا ما يرونه من تقارير توضح نشاط الجهات المعنية حيال تنفيذه، وأن يرفعوا بشأن ذلك إلى مقام خادم الحرمين الشريفين كلما اقتضى الأمر، وأن يوفدوا للجهات القضائية من يقف على منجزاتهم، ويساعدهم عند الحاجة لذلك.



النداء السابع/ للقضاة والمحامين ومن يهمهم أمر القضاء بمتابعة هذا الأمر مع بعضهم ومع القيادة القضائية ومع المسؤولين في الدولة، وأن يديموا إثارة هذا الموضوع قدر استطاعتهم في مجالسهم ومنتدياتهم، فذلك وقود قاطرة المسيرة نحو المطلوب.



النداء الثامن/ لعيون المجتمع وضمير الأمة الحي من الصحفيين الأحرار، نقول لهم: عليكم بملاحقة الإنجازات وإشهارها، والسؤال عما تخلف منها وإظهارها، وذكر المحسن بإحسانه والثناء عليه، والاستحثاث عند الحاجة ممن يعنيهم الأمر والندب إليه؛ فأنتم الرقيب المحتسب، ورسول العامة إلى القيادة، وعون المسؤول حتى على نفسه، كان الله معكم وفي عونكم.



النداء التاسع/ للقيادة الموفقة مرة أخرى؛ فكما بدأنا من عندها نختم بها فهي خير مسك ختام، أقول فيه: ليس ثمة جوابٌ لأيِّ مُتَوَانٍ عن أداء ما يُوكل إليه - أياً كان موقعه في الدولة - أبلغ مما قاله الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور رحمه الله لأحد ولاته (إما اعتدلت، وإما اعتزلت)؛ إنَّ هذا الجواب خير حافزٍ على التفاني، وأمنع حاجزٍ عن التواني. والله الهادي إلى سواء السبيل

-

-

-

-

- | عدد القراء : 4596 | تأريخ النشر : الأحد 10 صفر 1429هـ الموافق 17 فبراير 2008م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=185
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع