التطوير القضائي ضرورة مهملة

قضائيات يمكث الطالب في مراحل الدراسة حتى التخرج في الجامعات ست عشرة سنة وقبلها ست سنوات منذ الولادة ليكون سن الطالب الخريج على الأقل اثنتين وعشرين سنة، وهو السن الذي يمكن للطالب أن يلج به مجال القضاء كملازم قضائي، وأعتقد أن ذلك لا يكون في غير هذه البلاد.



يمكث الخريج ملازماً قضائياً ثلاث سنوات، ثم يجلس على كرسي القضاء في إحدى المحاكم الشرعية وهو ابن خمس وعشرين سنة ((فقط))؛ فيوكل إليه النظر في دماء الناس وأموالهم وقضاياهم الأسرية.

وقد يمضي القاضي حياته في محكمة واحدة، أو يتنقل بحسب حظوظه إلى محاكم عدة.

ويتعرض القاضي لتفتيشٍ دوريٍ خمس مراتٍ تقريباً طوال خدمته القضائية؛ غير أن ترقياته تأتيه بحسب مدة خدمته.



هكذا هو حال القضاة في عملهم؛ دون أن يكلفوا خلال خدمتهم ببحوث متخصصة تحت إشراف الهيئة القضائية العليا أو التفتيش القضائي؛ بحيث لا يحصل القاضي على ترقية إلا بعد تقييم علمي وعملي.

كما أن القضاة لا يكلفون بحضور دوراتٍ تطويرية في الإدارة، أو تطبيقية في الفقه والقضاء طيلة مدة عملهم، وكأن الواحد منهم قد حاز العلم برمته قبل تنصيبه في عمله.

مع أن بعضهم يبقى عالةً على شيخه أو زميله في الكثير من أحكامه، وقد لا يقتني بعضهم سوى كتاب أو كتابين لا يغادرهما بحيث لا يفقه من المسألة إلا قولاً واحداً؛ في جملة هموم لا يحصيها غير الله ثم قضاة التدقيق على الأحكام.



ولك أن تتخيل الكم الهائل من القضايا بأنواعها واختلاف أصحابها وهي حقول تجارب لأولئك القضاة، وهم بذلك القدر الضئيل من التأهيل العلمي والعملي، وبغير جهازٍ إشرافيٍ مباشرٍ شاملٍ لجميع تصرفات القاضي المبتدئ؛ حتى يقوى عوده، وتتضح كفاءته، وتتنوع مواهبه، وتترقى قدراته.

حيث يتقدم إلى المحاكم الشرعية كل يوم أكثر من ألفين وأربعمائة مراجع جديد ينضمون إلى من سبقهم، والكل يطلب حلاً شرعياً لحاجاتهم؛ ليصبح مجموع مراجعي المحاكم في العام الواحد قرابة الستمائة ألف مراجع، منهم: خمسون ألف مدعٍ تقريباً في قضايا حقوقية أو جنائية أو أسرية خلال العام الواحد.



والقضايا الحقوقية/ منها: ما تزيد المطالبة فيه على مائة مليون ريال، ومنها ما يقل عن خمسمائة ريال.

والجنائية/ منها: ما يصل إلى حد القتل، ومنها: ما مصيره التوبيخ فقط.

والأسرية/ منها: ما يصل إلى الفرقة بين الزوجين، ومنها: ما يكتفى فيه بأخذ التعهد، وهكذا.

المهم أن جميع تلك القضايا بحديها الأدنى والأعلى تنظر لدى قاضٍ واحد؛ سوى قضايا القتل والقطع والرجم فقط.



وقد ينظر في قضايا الأسرة قاضٍ أعزب لا يعي أسرار وخفايا الأمور الزوجية - وهم كثير - بسبب تعيينهم وهم في بداية العقد الثالث من أعمارهم، وينظر في القضايا المالية قاضٍ فرد قد لا يصدق بعضهم قدر بعض المبالغ المدعى بها، كما حدث ذلك من أحد كبارهم - رحمه الله - حيث سألني مستنكراً: هل هناك شيء إسمه أربعمائة مليون ريال ؟!!!.

هذه أحوال المكاتب القضائية وقضاتها في المحاكم الشرعية.



والحل يكمن في تقسيم القضايا إلى نوعين/

الأول: ينظر لدى دائرة قضائية مكونة من ثلاثة قضاة.

والثاني: ينظر لدى قاضي فرد.

فبحسب القضية يكون توجيهها للنظر فيها؛ بسيطة كانت أو معقدة؛ حتى لا يخوض في القضية فرد فيفسدها على من بعده، أو يضرب البينات بعضها ببعض بسوء إدارة القضية.

والضحية في ذلك صاحب الحق ؛ سواء كان مدعياً أو مدعى عليه.



ومثل هذا الإجراء حاصل في ديوان المظالم.

قد يكون ذلك صعباً في الوقت الحاضر؛ لأن الجهاز القضائي لم يتطور عددياً منذ ثلاثة عقود، غير أن هذا غير عسير على إدارة جديدة تنهض بالقضاء والقضاة حسياً ومعنوياً؛ بحيث يرقى إلى مستوى الطموحات الجادة لدى قادة هذه البلاد المباركة.

فالهم كبير، والخطب جلل، والوقت لا يفي، والموجودون اليوم قدموا جميع ما لديهم ولم يعد في جعبتهم شيء.

والتأخير في غير مصلحة العامة ولا الخاصة، ويوشك أن تضعف الهيبة من القضاء بسبب ضعف الإنجاز وتطويل مدة التقاضي.

والخصومات تزداد تعقيداً، والحاجة إلى حل حاسم وسريع تزداد إلحاحاً، والبقاء على أطلال الإدارات المحورية لا يقي من حَرِّ دعاء المظلوم ولا من بَرد كيد الظالم.



فهل نرى إصلاحاً شاملاً ينفض غبار الجهاز، ويطيب الأرجاء بالأمل المنشود والعدل المقصود؛ بدءاً من داخل الجهاز القضائي، مروراً بأنظمته المأمولة، وانتهاء بمن يفزع إليه لحسم الخصومات وحل المشكلات.

وهل نرى تطويراً لإعداد القضاة وللبرامج الإشرافية والرقابية والتقييمية ؟، وكذا تنظيماً للقرارات الصادرة بشأنهم من تعيين أو نقل أو ترقية؛ متجردة عن كل ما يشوبها ويشوش على مقدار العدالة في أيٍ منها؛ بضبطها بمعايير محددة ثابتة تطبق حتماً في أمر كل من يتعرض لها سلباً أو إيجاباً.



إن الأمل معقود في حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ليكون للإصلاح طريق على مؤسسة القضاء في هذه البلاد، فكما نحن السباقون أمام الأمم بتحكيم الشرع الحنيف فلا أقل من أن نلحق بركب التقدم الإداري والتنظيمي والقضائي حتى لا نكون في المؤخرة في وجهٍ، ونحن من حاز السبق في وجهه الآخر.

فأي حسنٍ لذي وجهين متنافرين متناقضين متباينين متضادين ؟!!!.

-

-

-

- | عدد القراء : 4612 | تأريخ النشر : الاثنين 1 ربيع الثاني 1429هـ الموافق 7 أبريل 2008م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=192
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع