أذنت وأجزت 2-2

قضائيات انتهينا في عدد الثلاثاء الماضي إلى تحديد علاقتي باللغة العربية حتى المرحلة الجامعية، أما في مرحلة الماجستير فقد سُعِدت بإشراف معالي عضو هيئة كبار العلماء الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان شفاه الله، وكان المناقش الأول فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الغفار صالح الذي أعلن أنه يقف لأول مرةٍ في تاريخه العلمي على رسالة ماجستير تخلو من الأخطاء اللغوية والمطبعية، غير أنَّ المناقش الثاني أدرك خطأً واحداً، ولم يشأ أن يهدم ما بناه المناقش الأول علناً، فاكتفى بأن أمرني بقراءة أحد السطور سراً، ولما عرفت مراده نظرت إليه، فأمرني بالانتقال إلى صفحةٍ أخرى دون تعليق، ولم يعلم بملحظه غيري، إنه معالي عضو هيئة كبار العلماء الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد غفر الله له.



= وفي جلسة ودية مع معاليه أخبرني بأنه: استمع إلى حلقةٍ من حلقات إذاعة القرآن الكريم؛ وهو في طريقه إلى مكتبه في وزارة العدل؛ إبَّان عمله وكيلاً لوزيرها، فلم يُحصِ ما وقع فيه القاضي الواعظ من الأخطاء النحوية، فما كان منه إلا أن اتصل به فور وصوله مكتبه، وبعد السلام أشار عليه بتشكيل الكلمات التي يقرؤها قبل التسجيل؛ ولو بمساعدة ضليعٍ في اللغة العربية؛ حتى لا يُوصَمَ القضاة بجهلهم أحكام اللغة في إذاعةٍ لها حضورها في العالم الإسلامي قاطبة.



= بل إن محكمة التمييز أعادت صكوكاً إلى مصدريها لتصحيحها لغوياً، بعد أن أعيا قضاة الدائرة فَهْمَ مضمون تلك الصكوك لكثرة الأخطاء الإملائية واللغوية فيها.



= مما تقدم رأينا حرص مسؤولي القضاء على سلامة لغة القضاة، ولم أكن أتصور هدمَ هذا الشعور من أيٍ من منسوبي القضاء؛ حتى حدث لي مع بعضهم ما سأوضحه مفصلاً عبر السطور التالية:

1/ من أنواع القضايا المطلوب حسمها من القضاة في المحاكم العامة ما يسمى بإجراءات بيع الأوقاف وأموال القاصرين من العقارات وشراء البدل عنها، أو قسمة التركات التي فيها وصايا أو من بين وارثيها قاصرون عن سن الرشد.



2/ يتلخص إجراء المحكمة في تحويل الطلب إلى هيئة الخبراء (النظر) للإفادة عن الحظ والغبطة والمصلحة في تحقيق الطلب، وقد تستأنس المحكمة بإفادات بعض المكاتب العقارية من أهل الخبرة في مكان العقارات، أو سؤال كبار الملاك في بلد العقار بحسب أحوال القضية، وعند اكتمال الإجراءات يقوم القاضي بتوثيق العقد المطلوب، ويحال إجراء البيع والقسمة للتدقيق في محكمة التمييز دون الشراء.



3/ كنت أُمَيِّزُ في إجرائي بين من يطلب الإذن في بيع الوقف قبل التصرف، وبين من يتصرف بالبيع أولاً ثم يطلب الإجازة؛ فبعد التحقق من المصلحة كما تقدم أُعَبِّرُ للأول بقولي: أذنت للمنهي في البيع، وَأُعَبِّرُ للثاني بقولي: أجزت تصرف المنهي في البيع على المشتري بالقيمة المحددة في قرار الهيئة.



4/ كان الإجراءان -بنوعيهما- يعودان من محكمة التمييز بالتأييد طيلة أربعة عشر عاماً، فلما طرأ على الدائرة المختصة عضو جديد حاول أن يثني الهيئة عن التصديق على الإجراء المعبر فيه بـ: أجزت. فلم يفلح في المرة الأولى، وفي الثانية أدرك إعادةَ المعاملة بقرارٍ يستدرك فيه عليَّ لزوم التعبير بـ: أذنت. دون أجزت، وعندما أجبت الدائرة بسبب التعبير أَيَّدَ زميلاه الإجراء دون النزول على رغبته في نقضه.



5/ جرت الأمور لاحقاً لصالح صاحبنا، فبعد زيادة أعداد قضاة محكمة التمييز أعيد تشكيل الدوائر فيها؛ وجعل كل عضوٍ في دائرة القاصرين السابقة رئيساً لإحدى الدوائر المحدثة.



6/ في ذلك العام تحديداً توفي أحد كبار السن من أهل الأحساء وكان ولياً على عددٍ من الأوقاف الصغيرة المتباعدة، فانتقلت الولاية إلى من بعده في الدرجة، وكان شاباً ممتلأً نشاطاً وحماساً لرعاية الأوقاف، غير أنه رأى أنَّ من العسير عليه رعاية تلك الأوقاف العشرة في وقتٍ واحد، فارتأى بيع الجميع وشراء عقارٍ واحدٍ بدلاً عنها بقيمتها، وبعد مراجعته المحكمة خيرته بين البيع قبل مراجعة المحكمة ثم طلب الإجازة، أو طلب الإذن أولاً لتحديد القيمة التقريبية من هيئة النظر، ومن ثمَّ البحث عن مشترٍ بالقيمة المحددة على الأقل، فاختار أن يبحث عن المشتري أولاً، ثم يعقد معه بشرط موافقة المحكمة؛ حتى يرتبط المشتري، فلا يكون له خيار الفسخ بعد توقيع العقد.

= اضطره إلى ذلك تَعَدُّدُ القطع وَصِغَرُهَا وعدمُ مناسبتها لغير المجاورين لها، وساعده في ذلك كونُ تلك الأوقاف اشتركت جميعُها في منشئها ومصرِفِهَا؛ فمن أوقفها واحد، والموقوفة عليه كذلك.



7/ عندما أنهى الوليُّ إبرامَ العقود راجع المحكمة، وبعد التحقق من الغبطة والمصلحة للوقف أجزت تصرفه بالبيع وقدر القيمة، وقدَّر الله أن تحالَ المعاملاتُ جميعها لدائرة ذلك العضو المعارض، فكان من البدهي مُسَارَعَتُهُ إلى الاستدراك عليَّ التعبيرَ بـ: أجزت. والإصرارُ على التعبير الآخر.



8/ لم أكن لأوافق هذا الملحظ، أو أداهن صاحبه، أو أخشى صولته. بعد أن علمتُ أنَّ اللسان العربي لا يلتوي إلا ممن به عجمة أو من مُسترضَعٍ فيهم، ولستُ كذلك بحمد الله.

= روى مسلم: عَنْ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ قَالَ: تَحَدَّثْتُ أَنَا وَالْقَاسِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدِيثًا، وَكَانَ الْقَاسِمُ رَجُلاً لَحَّانَةً، وَكَانَ لأُمِّ وَلَدٍ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: مَا لَكَ لا تَحَدَّثُ كَمَا يَتَحَدَّثُ ابْنُ أَخِي هَذَا ؟!؛ أَمَا إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ؛ هَذَا أَدَّبَتْهُ أُمُّهُ، وَأَنْتَ أَدَّبَتْكَ أُمُّكَ. قَالَ: فَغَضِبَ الْقَاسِمُ .. ) الحديث.

= وروى الإمام أحمد: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِصُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَوْلا ثَلاثُ خِصَالٍ فِيكَ لَمْ يَكُنْ بِكَ بَأْسٌ. قَالَ: وَمَا هُنَّ ؟؛ فَوَاللَّهِ مَا نَرَاكَ تَعِيبُ شَيْئًا. قَالَ: اكْتِنَاؤُكَ بِأَبِي يَحْيَى؛ وَلَيْسَ لَكَ وَلَدٌ، وَادِّعَاؤُكَ إِلَى النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ؛ وَأَنْتَ رَجُلٌ أَلْكَنُ، وَأَنَّكَ لا تُمْسِكُ الْمَالَ. قَالَ: أَمَّا اكْتِنَائِي بِأَبِي يَحْيَى فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنَّانِي بِهَا؛ فَلا أَدَعُهَا حَتَّى أَلْقَاهُ، وَأَمَّا ادِّعَائِي إِلَى النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ فَإِنِّي امْرُؤٌ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ اسْتُرْضِعَ لِي بِالأَيْلَةِ، فَهَذِهِ اللُّكْنَةُ مِنْ ذَاكَ .. ) الحديث.

= بل إني لأحمد الله على توفيقه لوالدي في حسن تعليمي وتربيتي؛ طبقاً لما رواه الدارمي: عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَاللَّحْنَ وَالسُّنَنَ كَمَا تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ.



9/ لقد أسهبت في بيان صِحَّةِ مأخذي في جوابي على الملحوظة لتلك الدائرة بنصوصٍ من كتب اللغة، ومن تعاميم الوزارة بهذا الشأن، ومن تعبيرات أئمة المذاهب الأربعة عند الحديث عن: بيع الأوقاف أو عن: تصرفات الفضولي، ومن قواعد الفقه؛ مثل قاعدة: الإجازة اللاحقة كالإذن السابق؛ غير أنَّ القرارات بدأت تنهال منقوضةً على خلاف تعليمات التمييز في مدةٍ وجيزة؛ بل وصل الأمر بصاحبي إلى التهديد صراحةً بعرض الأمر على مجلس القضاء الأعلى، وقد حصل!.



10/ مع أني أوضحت الأمر مفصلاً لمقام المجلس، وألحقت بياناً بالقرارات السابقة المؤيِّدة لكلا التعبيرين بحسب الأحوال؛ إلا أنَّ الضرب بعصا النقل المصلحي هو جزاء مخالفة العصابة، ولو مع موافقة الإصابة. والله المستعان

-

-

-

-

-

-

- | عدد القراء : 5031 | تأريخ النشر : الاثنين 15 ربيع الثاني 1429هـ الموافق 21 أبريل 2008م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=194
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع