من أين لك هذا؟.

نظاميات يتذاكر بعض الناس في مجالسهم أحوال كثيرٍ من المسؤولين؛ خصوصاً القضاة وكتاب العدل، ومما يتندر به - هؤلاء المشتغلون بأحوال العامة والخاصة - ما يرونه من تَغَيُّرِ أحوال بعض الموظفين؛ من الحاجة إلى الجِدَة، ومن القِّلَّةِ إلى الكثرة، ومن الكفاف إلى الغنى، بل الغنى الفاحش، في زمنٍ قصيرٍ لا يمكن لمثلهم أن يجمع هذا الحطام من مرتبٍ شهريٍ ونحوه.

ولأنَّ بعض تلك الحالات قد فاقت التصور، مما يعني أنَّ هناك خللاً أحدث ثقوباً في قِربَةِ الغِنَى، جعلتها تُمِطُر صاحبها بما فيها من ذهبٍ وفضةٍ، يُسَاعِدُ أحدهم على تحقيق ذلك عَدَمُ وُجُودِ نظامٍ يُؤَمِّنُ له ما يحتاجه دون النظر لما في أيدي الناس، وَعَدَمُ تَوَافُرِ قانونِ مُحَاسَبَةٍ يجعله يحتاط لكل ما يُدخله في جعبته أو في حساباته الداخلية والخارجية.



وبالمناسبة: أذكر أنني قمت بزيارة إلى أحد المرضى بتضخم الزائدة الدودية من زملاء الدراسة، فأخبرني أنه سيجري عملية استئصالٍ لها صباح الغد، وعلى الرغم من بساطة العملية وسهولتها عند العامة، وأنَّ نسبة نجاحها 99.99% إلا أنَّ صاحبنا كان قلقاً جداً، يخشى أن يكون هو الواحد في العشرة الآلاف الذي لا تنجح عمليته من تلك النسبة المئوية، فيموت من التخدير، أو من انفجار الزائدة قبل استئصالها، أو من طروء نزيفٍ أثناء العملية، فبالغت في طمأنته بضرب الكثير من الأمثلة الناجحة على ذات النحو من عمليته وأبلغ منها دون فائدة.



ومع أني كنت أزوره برفقة والدي يرحمه الله غير أنه طلب مني البقاء بالقرب منه عندما قرر والدي المغادرة، فبقيت عنده حتى منتصف الليل، وقبيل رحيلي أباح بما أهمه، وأنه ليس الخوف من العملية ولا من الموت خلالها أو بسببها، بل إنه قلقٌ من ممارسةٍ آثمةٍ حاكت في صدره وَكَرِهَ أن يَطَّلِعَ عليها الناس.

كان رجلاً بسيطاً جداً لا يجد قوت شهرٍ بأكمله، يسكن أعزباً في بيتٍ من الطين أشبه بالخرب؛ استأجره مع مجموعةٍ من الطلاب المغتربين بمبلغٍ زهيد، وكان لا يملك دراجةً تُقِلُّهُ إلى الكلية، بل يركب رديفاً مع من يَمُرُّ به من زملائه على دراجاتهم في أحسن أحواله.



وكان وقت لقائي به يقبض مرتباً يقل عن مرتبي الشهري، إلا أنه من كبار الملاك ومن أصحاب الأرصدة، تظهر آثار النعمة عليه في جميع أموره، فَذَكَّرتَهُ بحاله الأولى، ثم قارنت بينها وبين حاله الحاضرة، ثم قلت: له هل النتيجة في الواقع معقولةٌ بحسب هذه المقدمات. فقال: إني متردد في الحكم على ما أفعله، والذي كان سبباً في تغير أحوالي إلى الزيادة والنماء أكثر مما عليه أفضل أصحابي حالاً وأكثرهم مالاً.

ثم شرع في بيان السبب، وأنه: إنما يقوم بخدماتٍ للآخرين، وهي وإن كانت من صميم عمله، إلا أنه يؤديها لهم خارج وقت الدوام بمقابلٍ؛ لا يأخذه على أنه رشوة ولا عطية ولا هدية ولا هبة؟!!. فقلت له: بماذا تسميه إذاً. فقال: أنا لا أعرف أيَّ شيءٍ عن هذا الطريق قبل اتصالي بهؤلاء المنتفعين، فهم الذين أخبروني به وحللوه، بل ذكروا لي أسماءَ مشاهيرٍ يتعاملون معهم بذات الطريقة. فقلت له: هم كمن يشرب الخمر يسمونها بغير اسمها، فيستحلونها بذلك. فقال لي: هل عرفتها؟. فقلت له: أمَّا حكمها فواضح، وأمَّا نوعها فظاهر، وأما آحادها فلا أزال أجهلها. فقال: إنهم يُقرضونني مالاً وَيُسهِمُونَ به لي معهم، حتى إذا صُفِّيَت المساهمةُ أخذوا رأس المال وأعطوني أرباحي.

فقلت له: لماذا لم يفعلوا هذا الفعل مع زملائك فلان وفلان. فسكت مبهوتاً، فأضفت قائلاً: هل تعرف قصة الصحابي الجليل عبد الله بنِ اللُّتْبِيَّة الأزدي رضي الله عنه فقال لي: نعم أعرفها، وهذا ما يُقلِقُنِي بشأن صنيعي.



والقصة أوردها للقراء الكرام روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ (( اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا. ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلا أعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي )). والحديث متفق عليه



إنَّ مما اشتملت عليه قوانين الكثير من دول العالم الغربي قانوناً اسمه ( من أين لك هذا؟ ) يلتزم بموجبه الموظفُ العام الإفصاحَ عن جميع أمواله الثابتة والمنقولة، وكذا أفرادُ أسرته من زوجات وبنين وبنات، وعندما يظهر لجهاز الرقابة على مثله أنَّ هناك تغيراً في حاله أو زيادةً غير مُسَبَّبَةٍ في أمواله أو في أموال أيٍ من أفراد أسرته: فإنَّ القانون يُخضِعُ الموظفَ للتحقيق والمحاسبة.



لقد فاز الغرب بهذا القانون وضعاً وتطبيقاً، مع أنَّ هذا القانون إسلاميُّ النشأة بدليلين هما:

الأول/ ما جاء في الحديث السابق ونصه (( فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ )) حيث لم يكتف المصطفى عليه الصلاة والسلام بِتَسَلُّمِ ما جاء به العامل، بل حاسبه على ما قام به من عمل، فأظهرت تلك المحاسبة أنَّ هناك مالاً يريد الاستئثار به لنفسه؛ لأنَّه قد أعطيه هديةً من الذين أُرسِلَ إليهم، مما جعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينبهه إلى دليلٍ عقليٍ على خطئه فيما ذهب إليه من استحلالٍ لذلك المال، ولم يكن الصحابي الجليل يعلم عن ذلك - لا محالة - وإلا لما فعل ما يُغضِبُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضي الله عن جميع الصحابة وأرضاهم.



الثاني/ ما رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن نافعٍ مولى ابن عمر رضي الله عنهم قال: كتب خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أن زِدنَا في أرزاقنا، وإلا فابعث إلى عملك من يَكْفِيكَه. فاستشار أبو بكر في ذلك، فقال عمر: لا تَزِدهُمْ درهماً واحداً. قال: فَمَن لِعَمَلِهِم؟. قال: أنا أكفيه، ولا أريد أن ترزقني شيئاً. قال: فتجهز. فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فقال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله!، إنَّ قُربَ عمرَ منك ومشاورته أنفعُ للمسلمين من شيءٍ يسيرٍ، فَزِد هؤلاء القوم، وهو الخليفةُ بعدك. فعزم على عمر أن يُقيم، قال: وزادهم ما سألوا، قال: فلما وَلِيَ عُمرُ كتب إليهم: إنْ رضيتم بالرزق الأول، وإلا فاعتزلوا عملنا. وقال: وقد كان معاويةُ - يعني : ابنَ أبي سفيان - اِسْتُعمِلَ مكان يزيد، قال: فأمَّا معاويةُ وعمروٌ فرضيا، وأما خالدٌ فاعتزل، قال: فكتب إليهما عمر: أن اكتبا لي كُلَّ مَالٍ هُوَ لَكُمَا، ففعلا، قال: فجعل لا يَقْدِرُ لهما بعدُ على مالٍ إلا أخذه، فجعله في بيت المال.

لقد استكتب الخليفة الفاروق رضي الله عنه عُمَّالَهُ بما يملكونه من أموال، ثم صادر كل مالٍ زائدٍ عما سبق إثباته لهم وخرج عَمَّا يُمكِنُ أن يكتسبوه بعد ذلك.



فالذي يُزايد على أصالة هذا القانون وإسلاميته لابد إمَّا جاهلٌ مغرور أو مكابرٌ ممرور أو مستفيدٌ مأزور، فمتى نرى من قيادتنا - الصالحة من فضل الله - ما يُعَزِّزُ تطبيق هذا المبدأ الإسلامي الحق، حتى لا يكون لأحدٍ علينا فضلاً، ولا لأحدٍ منا على بعضنا حولاً ولا طولاً.



ملحوظة: هل تعلمون أنَّ عزم الدولة على البدء بتطبيق هذا القانون سيحل نسبة كبيرة من مشكلة البطالة بين شبابنا؛ لأنَّ كثيراً من أشباه صاحبنا من الموظفين سيتقاعدون عن العمل؛ كيلا يُعرَفَ مقدار ما يملكون، أو لئلا يُحجَرَ عليهم فيما يَجنُون.



وللذين يريدون معرفة نهاية قصتي مع ذلك المريض: هي - باختصار - أنني خرجت من غرفته على الفور أشبه بالمطرود؛ لأنَّ مثلي لا يُحسِنُ معاملة الذين يريدون فتاوى مُفَصَّلَةً على المقياس المطلوب. والله الموفق



-

-

-

-

- | عدد القراء : 5618 | تأريخ النشر : الأحد 4 جمادى الآخرة 1429هـ الموافق 8 يونيو 2008م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=200
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع