(( حوار الأديان للتعايش لا للتهايش ))

نظاميات الحوار بين أهل الأديان مثل الحوار بين أتباع المذاهب ، ليس المقصود الأول منه جمع الناس على دين أو مذهب واحد، بل المقصود الرئيس هو التعريف بالدين أو المذهب، ومعرفة ما لدى كل فريق من شبهات أو منقولات عن الفريق الآخر، وتجليتها في سبيل الدفاع عنها، أو الاعتراف بها والعمل على إزالتها.



وإذا أمكن تحرير اتفاق مبادئ بين أتباع الأديان والمذاهب المتحاورة على أن يتبرأ كلُّ دينٍ أو مذهبٍ من كل ما يثير الأديان والمذاهب الأخرى - مما يخالف الحق والصدق واليقين - فتلك فائدة كبرى؛ يمكن اعتبار الوثيقة بموجبها مذكرةَ تفاهمٍ بين المذاهب والأديان وخطوطاً مشتركةً يتسنى للجميع الالتقاء بها والانطلاق منها للحوار في كل ما من شأنه عمارة الأرض؛ التي هي المهمة التي أوكلها الله جل جلاله إلى بني آدم، وجعلهم - لأجلها - خلفاء الأرض، واستعمرهم فيها لتحقيقها.



إنَّ الصراع بين القُوى الكبرى في العالم لا دخل له بأتباع الأديان، فالصراعات بين بني البشر منذ الأزل وحتى قيام الساعة صراعات مصالح بحتة، غير أنها تأخذ طابعاً دينياً في بعضها لأحد الأمور التالية:-

الأول/ حشد التأييد المعنوي للصراع، واستجداء الدعم المالي والبشري اللازمين لتحقيق مآرب مؤجِّجي تلك الصراعات.

الثاني/ قطع الطريق على المعارضين لإثارة تلك الصراعات برفع راية الدين في كل صراعٍ مقصود.

الثالث/ تهيئة الطريق لتحقيق مقاصد المثيرين لتلك الصراعات لدى المتعاطفين من أفراد الأمم المستهدفة.



وإنَّ تهذيب أسباب الخلاف بين بني البشر وتقليص الاختلافات وإزالة الشبهات وتوضيح المواقف: كفيل بتخفيف الاحتقان وتقليل التوتر وتذليل صعوبات التعايش السلمي فيما بينهم؛ ولو لفترةٍ من الزمن الذي يعيشه ويديره نخبة من العقلاء المنتصرين لهذه الغاية النبيلة.



فإذا ساد الجهل - بعد ذلك - وطغت العصبيات وَتَحَوَّلَ الناس عن هذا المنهج تبقى تلك الوثائق شاهداً على تلك الأزمنة المنحوسة، وَحُجَّةً لأزمنةٍ تأتي بعدها لتنهج نهجها، وهكذا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.



على أنه من اللائق اعتبار عدة أمور لإدراك معنى الحوار ومقصده وطريقته:-

أولاً/ ينبغي أن لا يفوتنا أنَّ الأنبياء من لدن أبينا آدم عليه السلام وحتى خاتم الأنبياء نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فيما صححه الألباني يرحمه الله كانوا فوق مائة وعشرين ألفاً، منهم أكثر من ثلاثمائة رسول، وأنَّ عدد الكتب المنزلة أكثر من مائة كتاب منزل، منها التوراة والإنجيل وآخرها القرآن الكريم، قال جل من قائل { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ }، وقال جلت عظمته { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ }.



ثانياً/ أنَّ كثيراً من أتباع الأنبياء لابد وأن يكونوا موجودين على وجه الأرض، بغض النظر عما تعرضت له تلك الديانات من تبديل وتحريف كما جاء في الكتاب العزيز، فقد قال عليه الصلاة والسلام في حق المجوس عبدة النار (( سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلَ الْكِتَابِ ))، ولذلك أخذ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي لله عنه أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَخَذَهَا مِنْ الْبَرْبَرِ.



ثالثاً/ أنَّ الأديان الموجودة اليوم - والتي لها تاريخ مكتوب قبل الإسلام، وكتب موروثة من تلك الحقب - تأخذ نفس الحكم الذي أخذه المجوس، روى مسلم في صحيحه عن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ له (( وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ ))، وذكر دعوتهم إلى الإسلام، ثم قال (( فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ )) الحديث. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.



رابعاً/ أنَّ الأديان التي لم تحدث بعد نزول الوحي على المصطفى عليه الصلاة والسلام ما كان لها أن تبقى عبر تلك الأزمنة لولا إخلاص أهلها، وإخلاص الأمم لتعاليم دياناتها له أصل هو أن أساس الديانة كان صحيحاً، يقول ابن تيمية رحمه الله ( إنَّ كل أمة مخلصة أصل إخلاصها كتاب منزل من السماء، فإنَّ بني آدم محتاجون إلى شرع يكمل فطرهم ).



خامساً / أنَّ انتشار عقيدةٍ ما وثبات أهلها عليها آلاف السنين لا تحرمها من صوابٍ في بعض تعاليمها عند من يتأمل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله ( كل ذي مقالة فلا بد أن تكون في مقالته شبهة من الحق، ولولا ذلك لما راجَتْ واشتبهت ).



سادساً / أنَّ ما اتفقت عليه جميع الشرائع السماوية، وما يجتمع فيه البشر كلهم مما فطرهم الله عليه أكثر مما اختصتهم به شرائع أديانهم على غيرهم، قال جل شأنه { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }، وقال تبارك وتعالى { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً }الآية، وقال عز من قائل { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ}، وقال عليه الصلاة والسلام (( يَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّيْ خَلَقْتُ عِبَادِيْ حُنَفَاْءَ، فَجَاءَتْهُمْ الشَّيَاطِيْنُ فَاِجْتَاْلَتْهُمْ عَنْ دِيْنِهِمْ ))، وقال صلى الله عليه وسلم (( كُلُّ مَوْلُوْدٍ يُوْلَدُ عَلَى الفِطْرَةِ )) الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام (( إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ ))، ويصح لنا من ذلك: أنَّ الرُّسُلَ صلى الله عليهم وسلم بُعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها، لا لتغيير الفطرة وتحويلها.



سابعاً / أنَّ ما صح من الأديان يمكن فهمه من الجميع وقبوله، وما لا يعقل منها فأهل تلك الأديان أحوج الناس إلى الاقتناع بكونه مما جاء عليه التحريف والتبديل عبر الأزمنة، وهو الذي يراد من أهل الديانات تحليله وإدراكه على وجهه الذي جاءت به مناهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكما قيل: الأنبياء يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته، لا بما يُعرف في عقولهم أنه باطل, فهم في الحقيقة يخبرون بِمَحارات العقول لا بِمُحالات القبول؛ ولذلك أمر الله رسوله بدعوتهم إلى إقامة كتبهم في قوله عز وجل { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } الآية.



ثامناً / أنَّ المقصود الأسمى من الحوار هو تقديس الرب جل في علاه؛ سواء: بتسبيحه وعبادته كما شرع، أو بقطع سبل الانحراف عن إجلاله وتعظيمه، وذلك لا يكون إلا باتفاق المتحاورين على احترام الأديان وأشخاص الأنبياء والرموز ذوي المكانة عند متبوعيهم؛ تحقيقاً لقول الله جلت عظمته { وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } الآية.



تاسعاً / أنَّ ما عدا بلاد الحرمين الشريفين من بلدان المسلمين تعيش فيها جماعات من غيرهم من أتباع الأديان غير الإسلام؛ كاليهود، والنصارى، والمجوس، والهندوس، والكونفوشيوس، والبوذيين، وهي الديانات الأكثر أَتْبَاْعَاً في العالم أجمع، ومن مصلحة المسلمين في تلك البلاد التعايش مع هؤلاء القوم بسلام، لا أن يتحرشوا بهم ويتهاوشوا معهم.



عاشراً/ أنَّ التسامح بين أهل الديانات يمنع النزوات الاستعمارية من بعض الحكومات، ويقطع النعرات الاستعلائية لدى بعض الطبقات، ويفتح الأبواب لفهم الإسلام على حقيقته؛ دون تعصبٍ لرأيٍ، ولا طمعٍ في رئاسةٍ، فينتشر بذلك الإسلام الحق؛ كما حصل من التجار الحضارمة في جنوب وشرق آسيا وفي شرق أفريقيا، وكما حصل من تجار الطوارق في غرب ووسط أفريقيا، وكما نأمل حصوله في جميع بقاع العالم من عقلاء المسلمين؛ لتتحقق نبؤة خاتم الأنبياء في قوله عليه الصلاة والسلام (( لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ؛ بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ )).



وحتى يتحقق هذا الأمر - إن شاء الله تعالى - فإننا لنأمل من إخواننا الرافضين مبدأ الحوار بين الأديان أو المذاهب أن يعيدوا النظر في مواقفهم، وأن لا يكونوا من الذين قال الله فيهم { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ }، بل من الذين قال الرب سبحانه فيهم { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }. والله الهادي إلى سواء السبيل

-

-

-

-

-

- | عدد القراء : 4598 | تأريخ النشر : الأحد 24 رجب 1429هـ الموافق 27 يوليو 2008م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=207
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع