(( ضمان التفريط ))

تشريعات قضائية لازمة لا تزال بعض النظم في بلادنا تحتاج إلى مراجعة ؛ لما لها من سلبياتٍ بالغة أوقعت البلاد وأجهزة الدولة في إحراجٍ كبير هي - بلا جدال - في غنىً عنه ، وبإمكانها أن تكون في منأىً عنه من البداية ، ومن ذلك :-

1/ بيع السيارات بالتقسيط :

فالبيع لا يمكن توثيقه في إدارات المرور ؛ إلا وقد كتب في وثيقة المبايعة أنَّ الثمن سُدِّد بكامله ؛ لامتناع رهن السيارة وبقائها تحت اسم بائعها مدة سداد الأقساط .

فظهر من أجل ذلك ما يسمى بـ ( التأجير المنتهي بالتمليك ) ، وعندما تورَّط الناس في هذا العقد بمئات الملايين خرجت هيئة كبار العلماء بفتوى تحريم العقد ، فحاص الناس ومعهم كثير من القضاة ، فمن أعمل الفتوى زاد في حجم المشكلة وَأَضَرَّ بالباعة ، ومن أخذ بقول المجيزين لهذا العقد عَرَّضَ حكمه للنقض من محاكم التمييز .

2/ التنازل عن أرقام الهاتف الجوال :

عندما أتيحت خدمة الهاتف الجوال لم تكن التعليمات تسمح بالتنازل عن الأرقام لغير المشترك إلا بعد مضي سنة من تشغيل الخدمة ، فاضطر الناس لبيع الشرائح والإبقاء على اسم المشترك الأول حتى نهاية العام الأول ؛ لتتفضل إدارة الهاتف بنقل ملكية الرقم إلى المشتري .

خلال مدة الانتظار اللازمة نظاماً تكون الشريحة تحت رحمة المشتري ، والبائع تحت رحمة الفواتير التي تمتلئ بالمكالمات وتزدحم بأرقام الأجور ، والمسؤولية الأولى على البائع أمام مقدم الخدمة .



قضيتنا في هذه الحلقة من هذا النوع وملخصها :-

= اشترك البائع في الخدمة بعشرة آلاف ريال ، منها : ثلاثة آلاف وخمسمائة ريال قيمة الشريحة ، والباقي أجور مكالمات مدفوع مقدماً وجوباً .

= استغنى البائع عن الخدمة فباعها على آخر ، واشترط عليه المبادرة بسداد الفواتير الزائدة عن مبلغ العشرة آلاف ريال حال صدورها .

= استنفد المشتري رصيد البائع ، ودفع من أجور الخدمة اللاحقة ما مجموعه أحد عشر ألفاً وثلاثمائة ريال على دفعتين خلال الشهرين الأوَّلَين من البيع .

= قبل انتهاء العام خاطبت إدارة الهاتف البائع بطلب سداد أجور الخدمة من آخر فاتورة وحتى فصل الخدمة عن الهاتف ، وكان مجموع الأجور المتخلفة يربو على المائة وأحد عشر ألف ريال ، وهددته الشركة باتخاذ جميع الإجراءات الرسمية في حقه إنْ هو تخلَّف عن السداد ؛ ومنها : فصل الخدمة عن جميع هواتفه الثابتة والجوالة .

= صادق المشتري على شرائه الشريحة واستخدامها مدة شهرين ، وادعى أنها تعطلت فذهب بها إلى الشركة فحجزتها لديها .

= بعد الكتابة للشركة أفادت بأن الشركة لم تحتجز الشريحة ، وأن أحداً لم يراجعها لإصلاحها ، وأنها لم تستخرج شريحة أخرى بدلاً عن الأولى .

= كما أفادت الشركة بقدر الأجور المسدَّدة من المشتري ، وكذا مقدار الأجور المطلوبة ، وأنها عن مكالمات دولية في أكثر من مائتي ورقة ، ومنها : كندا ، أمريكا ، بنقلاديش ، الإمارات ، البحرين ، لبنان ، الأردن ، الكويت ، سوريا ، المغرب ، هذا عدا المكالمات المحلية .

= بمواجهة المدعى عليه بما في خطاب الشركة تراجع عن دعوى احتجاز الشركة للشريحة ، وقال : إنهم ردوها علي فقمت برميها في الطريق ، وأضاف : لم أخبر البائع بذلك لأني لم أعثر عليها بعد رميها ، ولم أستخدم الشريحة منذ اشتريتها ولا مرة واحدة .



هكذا استقرت أقوال الطرفين في القضية وبتأملها وجدت الآتي :-

أولاً/ أقر المدعى عليه بالشراء والقبض في التاريخ الذي حدده المدعي .



ثانياً/ ذكر أنَّ الشريحة تعطلت بعد شهرين من الشراء ، ثم نفى استعمالها أصلاً لأنها تالفة منذ اشتراها كما زعم .



ثالثاً/ ذكر أنَّ الشركة احتجزت الشريحة ، ثم كَذَّب نفسه وقال : إنه رماها في الطريق .



رابعاً/ أثبتت الشركة أنها قبضت أجور المكالمات الصادرة من الشريحة مدة شهرين من تاريخ تسلُّم المدعى عليه الشريحة ، وأنَّ الخدمة لم تنقطع عن الشريحة حتى تاريخ 22/ 11/ 1418هـ ؛ أي : بعد أكثر من خمسة أشهر من المبايعة .



خامساً/ كانت هذه المراوغة من المدعى عليه بقصد التَّمَلُّص مما عليه من حقوق ، وللتغطية على استخدامه الشريحة في الاتصال بخطوط الصداقة الماجنة ، والتعتيم على تأجيره خط الهاتف الجوال على بعض العمال الوافدين للحديث مع من يريدون في تلك البلدان .



سادساً/ كان المدعى عليه وقت نظر الدعوى سجيناً في قضايا اختلاسٍ وسطوٍ وسلب المال بالقوة ، وهذا دليلٌ على تأصُّل الإجرام في نفسه ، كما أنَّ تناقضه ومراوغته قرينة على كذبه في ما أجاب به ، وكل ذلك يقوي جانب المدعي .



سابعاً/ كان موقف المدعي من المدعى عليه كالضامن له أمام الشركة ؛ لأنَّ الشريحة لا تزال بإسمه ، وهو المسؤول عن تكلفة استخدامها أمام الشركة ، ولذلك خاطبته الشركة بلزوم التسديد .



ثامناً/ من المقرر فقهاً : أنَّ للضامن أن يطالب مضمونه بإبراء ذمته من دين الضامن متى طُولب به ، ولو لم يسدد الدين .



من كل ما تقدم : فقد ترجح لي تحليف المدعي ( يمين التقوية والتوكيد ) استظهاراً للحق الذي لا يمكن العلم به بغير اليمين ، فحلف المدعي على أنه من حين تسليمه الشريحة للمدعى عليه وهو لا يعلم عنها شيئاً وأنه غير مسؤول في الحقيقة عن أيِّ شيءٍ من الأجور المطلوبة ، فحكمت على المدعى عليه بلزوم إبراء ذمة المدعي من أجور خدمات الهاتف المدعى بها لشركة الاتصالات ، وصدق الحكم من محكمة التمييز بالقرار ذي الرقم 78/ق /أ المؤرخ في 18/ 1/ 1420هـ .



والتشريع القضائي اللازم هو التالي :-

1/ تطوير توثيق تعاملات الناس في كل أمورهم ، كيلا يتحمل أحدٌ حقوقاً ليس مسؤولاً عنها في الأصل .

2/ الإسراع بتنظيم مكاتب التوثيق الرسمية والأهلية ، وإحكام أنظمتها بإخضاع جميع المصالح التبادلية لها ، واعتماد قراراتها من جميع الدوائر ذات العلاقة .

3/ تنويع مصادر الفتوى ، وعدم الاقتصار على هيئةٍ واحدة فيما يهم الناس في تعاملاتهم ، فقد يكون لبعض أعضائها سطوة - ولو أدبية - على باقيهم .

4/ تفريغ كبار العلماء من جميع الوظائف الإدارية ؛ حتى لا يؤثر مركز أحدهم على باقي زملائه .

5/ العمل بمبدأ : الأصل في المعاملات الحل والإباحة ، وعدم إبطال تعاملات الناس بالفتاوى اللاحقة لتلك التعاملات ، بل تبنى على الأصل المبيح وقت التعاقد ، وتطبق الفتوى الملزمة على ما يجيء بعدها ؛ من باب : ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي .

6/ فرض العقوبات المانعة من الاحتيال والتغرير ومن توريط الآخرين في التزاماتٍ مالية بغير حق .

7/ كل من يظهر منه سوء النية في أيَّ تعامل ، وينشأ لأجل ذلك دعوى منه أو عليه : فيعتبر كائداً لخصمه ، ويطبق عليه عقوبات مثيري الدعاوى الكيدية .

8/ تحميل المفرط غرم ما فات أو نشأ عن تفريطه لمن وقع عليه التفريط . والله أعلم | عدد القراء : 4881 | تأريخ النشر : الجمعة 9 ربيع الأول 1430هـ الموافق 6 مارس 2009م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=231
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع