(( المؤسسة القضائية وخلل الرماد ))

قضائيات تعيش البلاد الأوروبية أسوأ عصورها من حيث التنمية السكانية ، وتضاؤل النمو الأسري فيها ، فالشباب هناك عازفون عن الزواج ، مستغنون بالصداقات الآثمة خارج نطاق التكوين الأسري ، الأمر الذي جعل بعض تلك البلاد تضطر لتشجيع الهجرة إليها من بعض مستعمراتها ؛ خوفاً من انحدارٍ جارفٍ في أعداد السكان ، ومن تلاشي القوة البشرية ، ولتحقيق معدلاتٍ أكبر في مجالات التنمية المختلفة .



فقد وصلت نسبة كبار السن في بعض بلدانهم إلى 80% ، وصارت المدارس الابتدائية شبه خالية من المواطنين الأصليين ، ولا يكاد يعمرها إلا أبناء المهاجرين الأفارقة والآسيويين .



كان هذا الضمور السكاني أحد نتائج انتشار المذهب الإلحادي والفكر الإباحي ، المدعومين من دعاة التَّفسُّخ والفجور ، ومن أرباب الأموال المستثمرين في مواخير الدعارة ونوادي العراة ونشر المجلات الجنسية ، وفي ترويج المخدرات .



لقد أدرك ساسة القوم هناك أنَّ ذلك مُؤْذِنٌ بخرابٍ عام ، قد يأتي على مستقبل القارة أجمع ، فيكفي أن تَحُلَّ هناك أزمةٌ عامة - كالأزمة المالية الحالية - لتنزاح الستور ، وتنكشف العيوب ، ويموج الناس كقطيع الأغنام وقد حضرته الذئاب ، لا يَلوي أحدٌ على أحد .



وصدق الله العظيم { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } .



إنَّ العقلاء في كل مجتمعٍ ومن كل دينٍ لا ينفكون عن التحذير من مغبة إهمال الضبط الاجتماعي ، وينادون بسرعة إدارة دفة المجتمع نحو الأفضل ؛ بلا إفراط ولا تفريط ، ويدعون إلى تنقية المجتمعات من دعاة التطرف من الجانبين الديني والإباحي ؛ كما قال الشاعر :


وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ = كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ




وكان التحذير من هؤلاء العقلاء يرتكز على إحكام السيطرة على رجال الأعمال ومراقبة أنشطتهم ؛ لأنهم لا يتورعون من ممارسة كل ما فيه زيادة نماء أموالهم واتساع ممتلكاتهم وزيادة ثرواتهم ؛ ولو على حساب أخلاق مجتمعاتهم ، أو السلامة الصحية العامة ، بل على أمن بلدانهم من بعضهم ؛ كتهريب الأسلحة وبيع المعلومات لأجهزة الاستخبارات المعادية .



كل ذلك في سبيل تحقيق أو استرداد أمجاد الغنى والجاه ؛ اللذين يفتكان بالأديان كما تفتك السباع في قطعان الأغنام ؛ كما قال رسول الله فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم (( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه )) .



والمؤسسات القضائية تتحمل العبء الأكبر في وضع النظم والقوانين الرادعة والزاجرة عن جَرِّ المجتمع نحو الانحلال ، أو الاستهتار بِمُثُلِ ومبادئ المجتمع الصالح ، أو التعدي على حريات وحقوق الآخرين في العيش الكريم ، أو إلى الإساءة المؤدية للانفلات الأمني .



وأيُّ مجتمعٍ ينفتح نحو أمرٍ ما - دون إعداد العُدَّة لضبطه ، وتوجيه مساراته نحو الأسلم - سيواجه فتناً ومصائب تجبره على تقديم التنازلات تلو التنازلات ، حتى يجد المجتمع نفسه وقد دهمته الأحداث فسيرته نحو الهاوية ، بدلاً عن أن يُسَيِّرَها لمصلحة أفراده وجماعاته في حاضره ومستقبله .



إنَّ سلوك هذا الطريق لا يعني : الوقوف الجامد أمام مستجدات الصناعة وجديد الاختراعات وفريد الاكتشافات ، بل يعني : تبصير المجتمع بحسن الممارسة وسلامة الاستخدام ، وتحذيره من الإساءة والتعدي .



إنَّ المملكة العربية السعودية دولةٌ شابة فتية من بين دول العالم، فيكفي أن نعلم أن 70 % من السكان دون سن الثلاثين ، و 50% منهم دون سن الخامسة عشرة .



وهذه الملايين من الشباب تَعَلَّم أغلبهم الكثير عبر الشبكة العنكبوتية ( الإنترنت ) ، وأدمنوا مشاهدة القنوات الفضائية ، ومارسوا شتى التصرفات المستقيمة والشاذة عبر الاتصالات الهاتفية ورسائل الجوال وتبادل مقاطع الفيديو ، في سرية تامة خارج قدرة رب الأسرة على الرقابة ، بل تناقلوا لأنفسهم اللقطات المنحلَّة ، وزيفوا على أضدادهم الصور المسيئة باستخدام أنواع التِّقانة الحاسوبية .



واستطاع لصوص المعلومات سرقة خصوصيات الناس ؛ عبر شبكة الإنترنت ، ومن خلال هواتفهم الجوالة عند طلب إصلاحها أو تطويرها ؛ بتعمدهم اختلاس وتخزين محفوظات الزبائن في هواتفهم ، وكشف عوراتهم ، واستغلالها في مساومتهم على نشرها ؛ بالمال تارة ، وبهتك العرض تارات .



هذه التجاوزات الخطيرة - المنذرة بانتشار الأمراض والعقد النفسية ، أو بالانحلال والتفكك الأخلاقي - يقف القضاء أمامها موقف المتفرج ؛ لا يحرك ساكناً بالمبادرة بوضع الخطط والبرامج والنظم والقوانين ، فقد تعودوا في المراحل السابقة على انتظار ما يؤمرون بإنفاذه ليأتمروا به ، ولم يأخذوا هم بزمام المبادرة ؛ لتكون النتائج أكثر شمولية وأعمق أثراً من المواقف السلبية الكسولة .



إنَّ المرحلة القادمة للأمة تستدعي نشاطاً مكثفاً من القيادتين الأمنية والقضائية في تتبع كل ما يهم الناس ، وتتطلب استنفار الطاقات في وضع القوالب التنظيمية لتسيير أمور المجتمع نحو النماء والعطاء والسلامة .



= إننا لا نجد من يُعِدُّ العدة لاستقبال أفواج الأبناء والبنات الدارسين في أوروبا وأمريكا وغيرها من البلاد غير المسلمة ، وما يمكن أن يأتوا به من معتقداتٍ وعادات وأفكار لم يكونوا عليها من قبل ؛ مما يتنافى مع تعاليم دينهم الإسلامي .



= إننا لم نسمع ببرامج لحماية هؤلاء من تلك الحبائل والأشراك ؛ التي إن لم تجلب شيطاناً متمرداً على أمته ، فستجعل الأمة تفقد طاقةً من طاقاتها المؤمل فيها المشاركة في النهضة والبناء .



= إننا لا نرى من يأخذ بيد الشباب للإسهام في تطور بلادهم ؛ بدلاً عن ممارسة التفحيط ، والتشاحن الكروي ، والمعاكسات في الأسواق ، وتقليد من لا خلاق لهم في لباسهم وتحركاتهم وقصات شعورهم وأساليبهم في التحدث والمزاح ونحو ذلك .



لقد أدركنا جميعاً - بلا استثناء - حاجتنا إلى التغيير ، لكن البعض يفهم أن هذا التغيير إلى ما يحلو له هو أن يفعله دون ضوابط ، لا إلى ما يحتاجه وطنه ومجتمعه ومستقبل أمته العربية والإسلامية .



إنَّ دعوات التغريب قد بدأت تؤتي ثمارها الفاسدة على بعض الشباب والشابات ، فصاروا يتبارون في مضامير الانحدار نحو هاوية التقليد الأعمى ، ويتنافسون في إبراز هوياتهم المتمردة ، وإظهار نتاجهم الفكري المتعفن ، فزايد بعضهم على بعض في لبس عباءة الإلحاد في أشعارهم ؛ بسب الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، أو بالاستهزاء بأفعاله سبحانه أو بشرائع دينه ، أو بتضمين الروايات مشاهد الفاحشة الكبرى ، وعرضها على أنها ظواهر اجتماعيةٍ عامة ، وهم - ولاشك - لا يتحدثون إلا عن أنفسهم أو من خالطهم .



لقد تواعد القوم في سرهم وجهرهم بالمضي قُدُماً نحو تحقيق التغيير من منظورهم .



إن هؤلاء الدعاة التغريبيين لا يريدون الاقتصار على الحرية الإعلامية الحالية ، بل ينادون بأمورٍ أخرى يأخذونها شيئاً فشيئاً من مبدأ ( خُذ وطالب ) ، وفي الوقت ذاته ترى ثقات الأمة يريدون أخذ الجميع ولا شيء غير الجميع ، وهم لم يُقدموا للساسة المشروع البديل الملائم للوضع الحاضر والمستقبل .



سيظل مُنَظِّرُو التغريب مستمرين في مساعيهم ؛ لتحقيق الإنجازات الأليمة ، وتكوين قاعدة شعبية كبرى ؛ ليصيروا بها أغلبية ، تستطيع اتخاذ القرار ، وإلزام سائر المجتمع بما يبتدعونه من قرارات وتغييرات ، يسلخون بها جلد المجتمع ، ويُلبسونه ما يُريدون من ألبسة وأقنعة ، أو يتركونه عُرياناً من كل زينة الله التي جعلها لعباده في خلقهم وأخلاقهم .



وصدق القائل :



أَرَى خَلَلَ الرَّمادِ وَمِيضَ نَارٍ = ويُوشِكُ أَنْ يكُونَ لها ضِرامُ


فإِنْ لَمْ يُطْفِها عُقَلاءُ قَوْمٍ = فإِنَّ وَقُودَها جُثَثٌ وهامُ


فإِنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى = وإِنَّ الحَرْبَ أَوَّلُها كَلامُ


فإِنْ يَكُ قَوْمُنا أَمْسَوْا رُقُوداً = فقُلْ: هُبُّوا، فَقَدْ حانَ القِيامُ


فَإِن هَبُّوا فَذَاكَ بَقَاءُ مُلكٍ = وَإِن رَقَدُوا فَإِنِّي لا أُلامُ


تَعَزَّوْا عن زَمانِكُمُ وقُولُوا = على الإسْلامِ والعَرَبِ السَّلامُ
| عدد القراء : 5257 | تأريخ النشر : الاثنين 19 ربيع الأول 1430هـ الموافق 16 مارس 2009م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=234
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع