(( الحكم بالاستحسان ))

تشريعات قضائية لازمة عندما خضعت للمقابلة الشخصية لتسجيل رسالة الدكتوراه في المعهد العالي للقضاء عام 1415هـ كان لي مع رئاسة القسم الموقر ثلاث جولات على غير العادة .

الجولة الأولى : مثلت أمام كل من : وكيل المعهد فضيلة الشيخ سعود البشر ، ورئيس قسم الفقه المقارن الشيخ حسن الشاذلي ، وكان الامتحان عن أحكام فقه المعاملات وأحكام الأسرة والجنايات .

الجولة الثانية : قابلت فيها فضيلة رئيس القسم آنف الذكر ومعه رئيس قسم السياسة الشرعية الدكتور فاروق إبراهيم ، وكان الاختبار في أحكام أصول الفقه .

الجولة الثالثة : كان روادها فضيلة الوكيل وفضيلة الشيخ عبد الرحمن الدرويش والشيخ محمد النجدي ، وكانت لتسميع المطلوب حفظه من أجزاء كتاب الله جل جلاله .



في الجولة الثانية كان لي موقف غريب مع الدكتور فاروق ، فبعد السبر عن أحكام الأصول والقواعد الفقهية من كلا الرجلين خلال حوالي الساعة سألني الدكتور فاروق : هل حكمت بدليل الاستحسان خلال عملك في القضاء .

فأجبته على الفور : نعم !.

وإني إذ أحمد الله جلت عظمته على التوفيق في استذكار القضية المسؤول عنها فور طرح السؤال ، فإني لأحمد المولى جل ثناؤه على التوفيق في نظر هذه القضية قبل السؤال عنها .



وقضيتنا هذه تتلخص في الآتي :-

= تزوج رجل من أهل مدينة الهفوف بامرأة من أهل مدينة المبرز بالأحساء ، وأنجبت منه بنتاً وابناً .

= شاء الله لهذا الزواج أن لا يدوم ، فطلق الرجل امرأته ، وترك لها الولدين في حضانتها ، والتزم بدفع نفقتهما مدة سبع سنوات .

= تزوجت المرأة من رجل آخر ، ولم يدم هذا الزواج أكثر من سنة ، ومع ذلك فلم ينغص الزوج الأول على المرأة بطلب حضانة ولديه منها بعد زواجها .

= عندما بلغ الولدين سن الالتحاق بالدراسة النظامية طلب الزوج ضم ولديه إليه ؛ ليشرف عليهما ، وليؤدبهما بما يحتاجان إليه في مثل سنهما .

= رفضت أم الطفلين تسليمهما لوالدهما ؛ بحجة أنها قد طلقت ، ولم تعد ذات زوج حتى يؤخذ منها ولداها .

= كانت المسافة بين سكن الزوج وبيت أهل الزوجة حوالي 25 كيلاً .

= عندما خيرتُ الولدين بين والديهما اختارا أمهما .



= بعد دراسة هذه القضية وقفت على اختلاف أهل العلم في صيرورة الولد بعد طلاق أمه :-

- فمن قائل : هو عند أمه مطلقاً .

- وقائل : هو عند أبيه مطلقاً .

- وثالث يقول : البنت لأمها والابن لأبيه .

- ورابع يقول : يخيران بعد السابعة .

- وخامس يقول : إنما يخير الغلام فقط .

= وكل ذلك الاختلاف يصب في قالب القائلين : إن الاعتبار بمصلحة المحضون ؛ أياً كان ذكراً أو أنثى ، وذلك يختلف باختلاف والديه .



نظرت إلى هذه القضية بأبعادها الستة :-

الأول : أن الوالد يريد مصلحة ولديه بعد تجاوزهما الطفولة المبكرة ، لحاجتهما للمتابعة والرعاية اللتين تليقان بهما في سن الطفولة المتأخرة .

الثاني : ثبت لدي أن الوالد المدعي أهل للحضانة ، وأن والدته تقيم معه في منزله ، ولديه من يقوم على خدمة ولديه .

الثالث : أن وجود الولدين في حضانة الأم من غير مصلحتها ؛ فهو سبب عزوفها عن الزواج ، ولا أستبعد أنه سبب طلاقها من زوجها الثاني .

الرابع : أن تنقل الولدين بين منزلي الوالدين ( 25 كم ) خلال اليوم الواحد مرهق لهما ولاشك .

الخامس : أن تنقل الولدين بين والديهما خلال اليوم الواحد مكلف للوالد وشاق عليه ، ومتعذر على الوالدة لا تقدر على احتمال نفقاته .

السادس : أن تنقل الولدين - طيلة أيام الدراسة - بين منزل والدهما ومنزل والدتهما والمدرسة سيؤثر ولاشك على دراستهما ، ولا تتحقق منه مصلحتهما .



لكل هذا - ورغم اعتراض الأم - فقد رأيت : أن الأصلح للولدين بقاؤهما عند والدهما أيام الدراسة ؛ من مساء يوم الجمعة وحتى عصر يوم الأربعاء ، على أن يتولى الوالد إيصالهما لوالدتهما عصر الأربعاء وإعادتهما لمنزله ليلة السبت ، وأن يبقيهما لدى والدتهما طيلة أيام الإجازات الرسمية .

استحسنت هذا التوزيع بدلاً عن ما جاء في كتب المذهب من أن : الغلام بعد تخييره يكون عند والده نهاراً وعند أمه ليلاً متى اختار أمه .

وكان السبب في هذا الاستحسان : أنه جمع بين تقسيم الأوقات بين الوالدين كل بما يناسبه ، وأنه قد روعي فيه مصلحة الوالدين من حيث مهمة تنقل الولدين فيما بينهما واستئناسهما بفلذتي كبديهما .

كما روعي فيه مصلحة الولدين من حيث مستقبلهما الدراسي واستقرارهما في مكان واحد أطول مدة ممكنة .



وأعود لأكمل قصتي مع الدكتور فاروق إبراهيم الذي سأل عن الحكم بالاستحسان ، لأقول : ما إن قصصت القضية على الأستاذين الفاضلين حتى لمعت عينا الشيخ حسن الشاذلي بابتسامة رضى وإعجاب .

أما الآخر فاستنكر ، وقال بحدة لا تفارقه عفى الله عنه : وهل حكمك هذا صحيح ؟!.

فأجبته قائلاً : لقد اكتسب الحكم القطعية من محكمة التمييز .

فردَّ على الفور : ولو !!!.

عند ذلك تدخل الشيخ حسن الشاذلي فنهره بقوله : يقول لك الحكم صدق من محكمة التمييز . الله !!!.

فاكفهر وجه الرجل وهو كظيم ، وخرج من المجلس مغاضباً ، ثم صرفني الشيخ حسن طالباً مني العودة للجولة الثالثة في أقرب وقت يناسبني .



والتشريع القضائي المطلوب هو الآتي :-

1/ تقنين أحكام الحضانة وسائر أحكام الأسرة ( الأحوال الشخصية ) ؛ حتى يكون كل فرد على بينة من أمره في قضاياه الأسرية ، فلا يكون هناك مجال للشحناء والبغضاء والقطيعة بين أفراد الأسرة الواحدة .

2/ تشجيع القضاة على إعمال الذهن فيما يتناسب مع قضايا الناس ، فلا يحجر على أحدهم فيما يسعه الخلاف ، وما لا يخالف الكتاب والسنة ، ريثما يكتمل عقد القانون السعودي الشامل لجميع مناحي الحياة إن شاء الله تعالى .

3/ إعادة النظر في أحكام الفقه المبنية على الأعراف السائدة في عصر الفقيه المجتهد ؛ لتتناسب مع كل عصر وفي كل مصر بحسبهما ، وهي المعروفة : بالمتغيرات من أحكام الشريعة .

4/ لزوم رعاية مصلحة الولد والوالد في أحكام الحضانة ، فكل منهم كما أنه يُلزم بما يجب عليه من واجبات ، فلا ينبغي أن يُحرم مما له من حقوق . والله الموفق







- | عدد القراء : 4801 | تأريخ النشر : الاثنين 16 جمادى الأولى 1430هـ الموافق 11 مايو 2009م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=241
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع