المؤتمرات القضائية بين دعم الحيادية وشبهة التحيز

قضائيات منذ فترة ليست بالطويلة جداً انتشر عقد المؤتمرات والندوات القضائية في الداخل والخارج ، بعضها : تقيمه مؤسسات وجهات حكومية ، وبعضها : تكتفي تلك الجهات بالإشراف عليها ؛ ولو جزئياً ، وبعضها : تتفضل بمباركتها بحضور حفل افتتاحها ، وإضفاء شرف اسم المسؤول عليها ؛ دون التعرض لموضوعاتها ولا لنتائجها .



ولن نتحدث هنا عن المؤتمرات القضائية الحكومية البحتة ؛ لأن شبهة التحيز فيها غير واردة ؛ إلا في دوران هذه المؤتمرات في فلك مسؤول يعمد إلى استقطاب شخصياتٍ محددة في كل مؤتمر ، حتى إنك لتجزم بأشخاص أغلب المشاركين قبل الإطلاع على برنامج المؤتمر ، ومع ذلك : فالخير مفترض في الجميع الحاضر منهم والغائب .



سنتحدث عن المؤتمرات التي يقيمها القطاع الخاص ، وينظم لها المواعيد والإعلانات ، ويستضيف للمشاركة فيها شخصيات داخلية وخارجية على نفقته ، ويجعلها برعاية مسؤول قضائي أو شبه قضائي .

ولقد حضرت بعض هذه المؤتمرات ، وسمعت عن بعضها ، وإليك - أخي القاضي - خلاصة ما وقفت عليه منها :-



أولاً/ المؤتمر القضائي مشروع دعائي للمنظم ؛ سواء كان : مكتب محاماة ، أو مكتب استشارات ، أو مكتب هندسي ، ونحو ذلك .



ثانياً/ المؤتمر القضائي مشروع تجاري للمنظم ؛ بحيث يتم الإعلان عن المؤتمر ، ويحدد رسوم المشاركة فيه ، وهي - في الغالب - باهظة التكاليف .



ثالثاً/ المؤتمر القضائي فرصة لتلميع أسماء باحثين وأكاديميين وافدين لهم علاقة بمنظم المؤتمر ، يظهر ذلك من تكرار استضافتهم .



رابعاً/ المؤتمر القضائي وسيلة يتقرب بها المنظم من قيادات القضاء ؛ بتخصيصهم برعاية المؤتمر ، وتكريمهم على الملأ - بشهاداتٍ ودروعٍ وهدايا تذكارية - لقاء ذلك التنازل .



خامساً/ المؤتمر القضائي يسيره المنظم وفق برنامج مدروس ؛ لتحقيق نتائج محددة سلفاً ، بواسطة المشاركين المدعوين من المنظم في كل استضافة ؛ ولو كان هناك معارضة من المداخلين ، أو من المشاركين الرسميين ، كما قيل :-

ويُقضَى الأمرُ حين تغيب تَيمٌ = ولا يُستأمَرُون وهم شُهودُ


سادساً/ المؤتمر القضائي فرصة للمنظم ليعلن نتائج مؤتمره عبر وسائل الإعلام فور اختتامه ؛ دون مشاركة المسؤول - راعي الافتتاح - في تحديد تلك النتائج ، وبلا إشراف من الدائرة التي يشرف عليها ذلك المسؤول .



سابعاً/ المؤتمر القضائي ميدان للفرقعات الإعلامية ؛ بتضخيم سقطات التصريحات من بعض المشاركين ، واقتطاع ما له بهرج إعلامي ؛ بحذف أوله وبتر آخره ، وكل ذلك يصب في قالب الدعاية للمؤتمر الدعائي ومنظمه .



ثامناً/ المؤتمر القضائي مجال للاختلاف بين المشاركين في بعض الجزئيات ، فتنشأ عن ذلك المصادمات ، ويتطاول أطراف الجلسة أو الندوة على بعضهم ، فيظهر من أحدهم خوافي ومكنوناتٌ قاصرةٌ على قائلها ، فَتُحسب لدى المراقبين على من يمثلهم .



تاسعاً/ المؤتمر القضائي مسرح ينبهر به بعض المشاركين الرسميين ، فتنبعث فجأة لدى بعضهم روح الدعابة والفكاهة ، ليُصِمَّ الآذان بتعليقاتٍ وآراءَ محرجةٍ ، تُحسب خطأً على مرجعه .



عاشراً/ المؤتمر القضائي التجاري غاية في الإعداد والترتيب الدعائي ، ولكنه يعاني من فوضى إدارة الجلسات الموكولة إلى بعض المستقطبين من القضاة ، ولك أن تتوقع ما يحصل من تجاوزات في الوقت والتعليق وتوزيع المداخلات ونحو ذلك .



حادي عشر/ المؤتمر القضائي يحقق لمنظمه التاجر من وسائل الدعاية ما حرمه منه نظام المحاماة ؛ تطهيراً لمهنة المحاماة من التبذل والامتهان .



ثاني عشر/ المؤتمر القضائي يحقق لمنظمه - التاجر - مكانة أكبر مما كان عليه قبل المؤتمر لدى راعي الافتتاح ، فكيف به لو تكررت دعوته مراراً ، ولا سبيل لإنكار ذلك ، فقديماً قيل :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم = فطالما استعبد الإنسان، إحسان


هذه الأمور وغيرها كثير مما لا تنفك عنه المؤتمرات القضائية الدعائية تدعو إلى إعادة النظر فيها من القيادة الحكيمة واتخاذ القرارات - التي تكفل حيادية المسؤول ، وعدم تحيزه لأيِّ فئة - واستصدار قرارٍ بمنع إقامة المؤتمرات والندوات من غير الجهات الحكومية تحقيقاً لحيادية القطاع العام ؛ خصوصاً : المؤسسة القضائية التي تستلزم حيادية القاضي والمسؤول القضائي على حدٍ سواء .



= إن استغفال المسؤولين - من قبل هذه الجهات - واجترارهم لافتتاح المؤتمرات والندوات ما هو إلا امتطاء لمناصبهم ومكاسبهم الدينية والرسمية والاجتماعية ؛ لتحقيق مآرب تجارية ودعائية للمنظم الخاص .



= إن فطنة المسؤول لمثل هذه الحيل والألاعيب أمر لازم ومطلب جازم ، ينبغي على القيادة - وفقها الله - أن تنبه عليه جميع المسؤولين بدون استثناء ؛ حتى لا يقعوا في أحابيل التجار .



= إن هرولة المسؤولين نحو الدعوات إلى تلك المؤتمرات لدلالة على شعورٍ بالنقص يراد تكميله بالترؤس على أيِّ شيءٍ يتاح لهم ؛ ولو كان يخدم أغراضاً خاصة على حساب الوظيفة العامة والمنصب العام .



= إن قبول المسؤول لنفسه دروعاً وهداياً تذكاريةً من جهات غير حكومية أمرٌ لا يليق بمثله ، وهو في نظام الخدمة المدنية محظور ، ومن واجبات الموظف الامتناع عنه .



= يستطيع هؤلاء المسؤولين الاضطلاع بمهمة المؤتمر - بعد الاقتناع بجدواه - ، ويبقى للجهة المقترحة شرف الطرح وحق المشاركة في الإعداد .



ويبقى على الجهات الحكومية تجاه المؤتمرات والندوات التي تعقدها أن تراعي الآتي :-

1/ إتاحة الفرصة لمنسوبي الجهة - كلٌ فيما يخصه - بعدالة صادقة .

2/ حسن الإعداد للمشارك ومدير الجلسة - في المرة الأولى - بإخضاعهم لبرنامج تدريبي خاص قبل الانعقاد .

3/ تكوين لجنة علمية ماهرة لمراجعة المشاركات وتقويمها ، قبل طرحها .

4/ تخصيص جلسة مراجعة لجميع الأطاريح في المؤتمر والندوة ؛ لتحديد أوجه القصور لتلافيها ، وتعيين مواضع التميز للاستفادة منها .

5/ التأكيد على المشاركين بعدم الخروج عن موضوع المؤتمر ، ولا الانسياق مع أسئلة الحضور نحو موضوعات أخرى ، ولا الاحتكاك بالزملاء المشاركين ، ولا الانتصار للرأي بتفنيد الأقوال وثلبها ، ولا تقرير آراء عامة قد يُفهم منها : أن ذلك توجهاً عاماً لمرجعه ، وليس خاصاً بقائله .

6/ المبادرة بتخطئة المخالف ؛ حتى لا يتعاظم خطر تناقل المخالفة .

7/ محاسبة كل من يخالف التعليمات ، وعدم التورط معه في مؤتمرات وندوات لاحقة .



هذا ما جاد به الخاطر العابر بعد العلم ببعض الهنات الحاصلة في بعض المؤتمرات المعقودة هذه الأيام ، لعل النظر إليها وإلى ما يكملها يحقق قدراً من الضبط والانضباط أفضل من ذي قبل . والله المستعان



- | عدد القراء : 3860 | تأريخ النشر : الأحد 22 جمادى الأولى 1430هـ الموافق 17 مايو 2009م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=248
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع