(( إبطال دعوى ))

تشريعات قضائية لازمة في الرحلة الأولى للبحث عن الغنى يواجه الباحث عقباتٍ عدة ، منهم : من يجتازها بحسن التدبير ، ومنهم : من يجتازها بالمكر والحيلة ، ومنهم : من يصطدم بها ، فيتعلم درساً يستفيد منه في قابل رحلته ، ومنهم : من يقع في شراكها ، فتقضي عليه ولو بعد حين .



والصنف الأخير هم أغلب ضحايا الصنف الثاني ، فالحياة - لمثل هؤلاء - أشبه ما تكون بغابة ؛ إما أن تكون مفترساً ، أو تكون فريسة .



والسعيد من سلك الطرق المشروعة في رحلته ، واتقى سبل الغواية وأساليب الخداع من غيره ، واتخذ لكل معضلةٍ حلاً ، واستفاد من كل مشكلةٍ درساً .



وحادثة موضوعنا من هذا النوع ، وملخصها كما يلي :-

= سيطرت هواجس الغنى على رجلٍ من الصنف الرابع لا يزال في مقتبل العمر ، فلم يسلك في طلبه الطريق المعبد ، بل رغب في اختصار الوقت لتحقيق أحلامه ، فلجأ إلى الشراء بالثمن الآجل ، وكلما حَلَّ أجل السداد ، اشترى شيئاً آخر بثمنٍ آجلٍ لسداد الدين ، وهكذا حتى تراكمت عليه الديون ، فوجد نفسه غير قادرٍ على السداد ولا على الشراء .

= أطبقت الهموم على الرجل ، فعاش في بيته غريباً عن زوجته وابنيه القاصرين ، يصارع غمومه وأحزانه ، ولا يقبل إشراك أحدٍ فيما يعانيه ؛ حتى توفي يرحمه الله وهو على تلك الحال أواخر عام 1403هـ .

= تسارع الدائنون في طلب الحجز على ما بقي من ممتلكاته ، فَتَمَّ لهم ذلك وأودعت الأموال في بيت المال ، غير أن المحجوز لا يكفي لسداد جميع الدين ، بل إنَّ جميع موجوداته لا تعادل عشر ديونه ؛ لمبالغة الدائنين في تحديد نسبة الأرباح لمديونياتهم عليه ؛ لما يعلمونه من حاله .

= هاجرت الزوجة البائسة بإبنيها إلى حيث يسكن أخوها الذي عالها بعد وفاة زوجها ، بعد تجريدها من كل ما تركه له زوجها من محلاتٍ ومزارع وأراضٍ .

= طلبت المحكمة من الدائنين إثبات مديونياتهم في مواجهة الورثة في بلد إقامتهم الجديد ؛ حتى يتسنى قسمة ما أودع في بيت المال بين جميع الغرماء بحسب أنصبائهم .

= بتأريخ 13/ 4/ 1407هـ تقدم رجل لمطالبة الورثة بسداد مديونية مورثهم ، التي تربو على خمسة ملايين ريال .

= ذكر المدعي تفصيل مطالبته على النحو التالي :-

1/ باقي قيمة مزرعة الكواكب ، وقدره 2,200,000 ريال .

2/ قيمة مزرعة الأوجام ، وقدرها 380,000 ريال .

3/ قيمة مواد كهربائية وسباكة ، وقدرها 3,000,000 ريال .

وعندما أجابت المدعى عليها - بنفي العلم بتلك المديونية ، وعدم أيلولة أي شيء من التركة إلى الورثة - أضاف المدعي طلباً عارضاً بتصحيح قدر المطالبة لتزيد على ستة ملايين ؛ بإضافة :

4/ قيمة بيت الدخل المحدود ، وقدرها 450,000 ريال .



= نظرتُ القضية ، وكان من ضمن ما اتخذته - بعد سماع المرافعة - الآتي :

أولاً : سألت كاتب العدل عن تلك الانتقالات فأفاد بما يلي :

أ/ انتقلت مزرعة الكواكب من المدعي لشخصٍ غير المتوفى .

ب/ انتقلت مزرعة الأوجام للمتوفى بثمن مقبوض ؛ كما جاء في ضبط وسجل وصك الانتقال .

ج/ انتقل بيت الدخل المحدود للمتوفى بثمنٍ أقل مما ذكر في الدعوى ، مقداره مائة وخمسة عشر ألف ريال ، وهو مقبوض أيضاً .



ثانياً : وافق المدعي على تصحيح قيمة البيت كما جاء في صك الانتقال ، وتعديل مجموع المبلغ المطلوب .



ثالثاً : ذكر المدعي أنه قبض قيمة مزرعة الأوجام والبيت بموجب شيكات لم تصرف لعدم كفاية الرصيد .



رابعاً : ذكر المدعي أن الشخص الذي انتقلت إليه مزرعة الكواكب كان قد اشتراها من المتوفى قبل الإفراغ له ، فاختصر المتوفى عملية الإفراغ ، لتكون من البائع عليه ( المدعي ) إلى المشتري منه مباشرة ، فحصل ذلك بأمره .



خامساً : أبرز المدعي سبعة شيكات من حساب المتوفى باسم المدعي ، قيمتها خمسة ملايين ومائتي ألف ريال فقط ، ومعها إفادة بعدم كفاية الرصيد .



سادساً : قدم المدعي ورقتي إقرار منسوبتين للمتوفى بالتزامه بدفع مبالغ الشيكات السبعة ، وجاء في الورقتين أنه تسلَّم مواد السباكة والكهرباء وتصرَّف فيها ، وفي الورقتين توقيعٌ منسوبٌ للمتوفى وتوقيعان آخران لشاهدين ؛ ذكر في الورقة اسمهما الرباعي .



سابعاً : ذكر المدعي أن شاهد الورقتين الأول ذكر اسم أبيه وجده وعائلته في الورقة خطأً !!!، وعندما أحضر الشاهد المراد أنكر أي علمٍ له بمضمون الورقتين ، وقرر أنه لا يعرف الكتابة مطلقاً ، ولا يوقع إلا ببصمة إبهامه ، ولم يحضر أياً من مبايعات الطرفين ، ولا يشهد على شيءٍ منها ؛ إلا أنه أضاف أن المتوفى أخبره مشافهة بأنه مطالب للمدعي بأكثر من عشرة ملايين ريال .



ثامناً : حضر شاهد الورقتين الثاني وشهد بأنه وقع على الورقتين وهو لا يعلم عن سببها ؛ غير أن المتوفى طلب منه ذلك ، بعدما ذكر له أنه تسلَّم الأشياء التي هذه قيمتها ، إلا أنه أضاف أن التوقيع كان في منزل الشاهد الأول وبحضوره !!!.



تاسعاً : طلبت من المدعي سماع شهادة مشتري مزرعة الكواكب والوكيل الذي أفرغ المزرعة ، واستخلفت لذلك قاضي مدينتهم .



عاشراً : جاء في شهادة الوكيل أن له في ذمة المتوفى سبعة ملايين ريال ، وعندما علم بشراء المتوفى مزرعة الكواكب من المدعي بثلاثة ملايين ومائتي ألف ريال ، اشتراها هو من المتوفى بمليون وثمانمائة ألف ريال !!!، ثم باعها على المشتري الأخير ، وأفرغها له من المدعي مباشرة ، بعدما أخذ توكيلاً رسمياً بذلك من المدعي ومن المتوفى .



حادي عشر : جاء في شهادة المشتري الأخير أنه اشترى من الوكيل تلك المزرعة بمليون وسبعمائة ألف ريال !! ، ولم يشترها من المدعي ولا من المتوفى ؛ وأضاف أنه يعلم بشراء المتوفى من المدعي أولاً ، ثم شراء الوكيل من المتوفى ثانياً ، وأن البائع عليه قد أفرغ له بوكالته عن المدعي مباشرة .



ثاني عشر : طلبت من إدارة الأدلة الجنائية في الأمن العام الإفادة عن صحة التوقيع المنسوب للمتوفى في ورقتي الإقرار ؛ بمضاهاته بما للمتوفى من توقيعاتٍ في البنوك والدوائر الحكومية التي تحتفظ بطلباتٍ له موقعةٍ بخط يده ما أمكن .



ثالث عشر : بعد سنتين تقريباً من الطلب وردنا التقرير الفني ، وفيه : أن التوقيعين مزوران بطريق التقليد ؛ لاختلاف طبيعة الجرَّات ومسار اليد في الكتابة .



ثالث عشر : ظهر لي مما تقدم بطلان ورقتي الإقرار بالآتي :

أ/ ثبوت تزوير التوقيع - المنسوب للمتوفى - عليهما .

ب/ إقرار المدعي بخطأ كتابة اسم أحد شاهدي الورقتين في ثلاثة أسماء من اسمه الرباعي !!!.

ج/ إنكار الشاهد - المزعوم تصحيح اسمه - شهادته على الورقتين ، ونفيه قطعاً التوقيع عليهما ؛ لأنه لا يعرف الكتابة أصلاً ، ولا يوقع إلا ببصمة إبهامه .

د/ تضارب شهادة شاهد الورقتين الثاني مع شاهدهما الأول ؛ حيث ذكر أنَّ الكتابة كانت في منزل الشاهد الأول وبحضوره .



رابع عشر : لم تَسلَم شهادة الوكيل والمشتري منه من القدح المعتدِّ به في رد الشهادة ؛ لأنَّ الوكيل يدَّعي شراءه المزرعة لنفسه من المتوفى قبل البيع ؛ حتى لا يطالب بالقيمة التي باعها بها ، وهو بهذا يجلب لنفسه نفعاً ، وأمَّا المشتري الأخير فبشهادته - ببيع المتوفى على الوكيل - يدفع عن نفسه ضراً ؛ حتى لا تنتزع المزرعة من يده .



= لكل ما تقدم حكمت ببطلان الدعوى ، وصدق الحكم من محكمة التمييز بالقرار ذي الرقم 162/ق/أ المؤرخ في 5/ 3/ 1410هـ ، وكتبت : بطلب مجازاة المدعي على افتراءاته في هذه الدعوى ، ومراقبة تعاملاته بما يكف أذاه عن الآخرين .



والتشريع القضائي المطلوب هو التالي :-

1/ الإسراع باعتماد نظام الشيكات ، وتبصير الناس بمغبة التورُّط في تحرير الشيكات بلا رصيد .

2/ التأكيد على البنوك بعدم التَّساهل في إصدار الشيكات للعملاء ؛ إلا وفق تنظيمٍ معتمد .

3/ الاهتمام بالتواقيع الإلكترونية ، واعتماد نظامها بعد استيعاب تحديثات النظام حول العالم .

4/ التأكيد على الجهات المختصة بالتعامل بحزم مع الدعاوى الكيدية والمزيفة ؛ بما يردع أصحابها والتوَّاقين لإقامتها عن ابتلاء الأبرياء . والله أعلم وأحكم





- | عدد القراء : 4596 | تأريخ النشر : الخميس 18 جمادى الآخرة 1430هـ الموافق 11 يونيو 2009م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=255
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع