(( ولو أعجبكم ! ))

قضائيات كنت ألاعب طفلاً صغيراً بمحضرٍ من والده ، فلفت نظري أن الأب مشدوهٌ من استجابة ابنه لملاعبتي إياه ، وأفصح لي أنه كان يخشى من أن يكون ابنه من الثقلاء ؛ لأنه لا يمازح أحداً ، ولا يضحك إلا قليلاً ، ثم في لقاءٍ لاحقٍ أفضى إليَّ الأب بأن شكوكه في مستقبل ابنه الاجتماعي كانت في محلها ، والسبب في نظره : أنه حاول تقليد طريقتي في ملاعبة ابنه ، فصدمه الابن بقوله له : بابا !، أنت لا تعرف مثل عَمِّي الشيخ .

- فذكرت له : أن ما يراه ابنه مني ليس إلا إعجاباً لا يقوى على مزاحمة المودة التي يلتئم عليها الابن تجاه أبيه ، وأنه ما دام الأب يستثقل ابنه فإن ابنه سيبادله ذات الشعور ، وأنه لابد للأب من الاقتراب نحو ابنه ، واستمراء ما يراه من تثاقله حتى يتحول ابنه إلى ما يرغبه منه أبوه ، فلدى الأب من وشائج القربى ورابطة الدم ما يساعده على أن يتفوق على من سواه .



= إن حال هذا الأب كحال صاحب برنامج ( خواطر ) الذي ما فتئ يرصد أجمل ما عليه الشعوب من حولنا ، ويستحث مجتمعنا للحاق بتلك الشعوب المتحضرة ، بطريقة تثقيفية مقبولة لو أنها خلت من جلد الذات ؛ بلا إعابةٍ لمجتمعه ، ولا تنقُّصٍ لمؤسساته ، ولا مبالغةٍ في تمجيد الآخرين .



- إننا لا نزعم أننا في مصاف هؤلاء القوم أو أولئك ، ولكننا سبقنا كثيراً ممن حولنا ممن تقدمونا في الاتصال بالعالم الاستعماري المتحضر .

- لقد استفز البرنامج الكثير من متابعيه ؛ لأنه لم يراع الحس الوطني عند عرض المشاكل الداخلية ومقارنتها بمنجزات الخارج .



= لقد ظهر من حال صاحبنا الانبهار الزائد بما رآه في محكمتي دبي وأوسلو ، ونسي أن إمارة دبي أشبه ما تكون بمؤسسةٍ أو شركةٍ تجارية تُسوِّق لنفسها بمنجزاتها البراقة في الظاهر ، فهناك مبانٍ شاهقة ، وتقدمٌ تكنولوجي ، وخدماتٌ حضارية؛ الهدف منها : اجتذاب رؤوس الأموال لتحل محل الثروات الطبيعية المفتقدة في تلك الإمارة ، وذلك من حقهم ، لكن ما رآه صاحبنا في محكمة دبي ليس موجوداً في المحاكم الأخرى لذات الإمارة ، كما أنه ليس موجوداً بنفس الدرجة في سائر محاكم الدولة كلها ؛ مما يُقوِّي كون تلك المظاهر ليست إلا هدفاً تسويقياً بحتاً .



= إن ما أدهش صاحبنا ليس إلا نظاماً حاسوبياً جميلاً ، وأقمشةً براقةً حيكت على هيئة أرواب للمحامين والمترجمين ، ومجموعةً من المقاعد في ممرات المحكمة وفي فنائها الذي ينعم بأجواء غير محتملة أغلب شهور السنة .



- وكل هذا مما يمكن تأمينه لجميع محاكم المملكة بتعاقدٍ واحد خلال أقل من عامٍ ؛ فمثله ليس بالمستحيل ولا بالنادر .



= وبالمناسبة : فقد كان من ضمن برنامج عملنا في إعداد اللوائح التنفيذية لنظام السجل العقاري عام 1423هـ أن يزور فريق العمل دائرة الأملاك والأراضي في مدينة دبي ، فرأينا ما رآه صاحب الخواطر وأكثر منه ، ونقلنا تلك الصور إلى قيادتنا القضائية السلف ، ولا زلنا نأمل من القيادة الخلف أن تعمل على استيراد تلك المنجزات ، وتطويرها ممن هم أهلٌ لذلك من كفاءاتنا الوطنية كلٌ فيما يخصه .



- لقد رأينا نظاماً متطوراً في معالجة كل ما يخص العقار ، بدءاً من الاستعلام عن الموقع وما عليه من قيود ، وانتهاءً بتداوله وفق عملية مهنية متقنة ، مع العلم : أن عقارات دبي آنذاك قريبٌ من الأربعين ألف وحدة عقارية فقط .



- كانت الإدارة أشبه ما تكون بمركزٍ رئيسٍ لأحد البنوك عندنا ، وفيها من التسهيلات الخدمية ما تنافس عليه كبريات الشركات العالمية ؛ مما يوحي بأن المقصود الأول هو تنمية التجارة في تلك المدينة الواعدة عبر تسهيل جميع الخدمات المساعدة للتبادل التجاري .



= وعندما قمت بدراسة أولى لتطبيق نظام مدينة دبي العقاري على كامل التراب السعودي ظهر لي : أن تطبيق نظام السجل العقاري على أكثر من عشرة ملايين وحدة عقارية في السعودية سيحتاج إلى عشرين عاماً لإكماله ، ولكنه سيدفع بعجلة التنمية عقوداً نحو الأمام ، وبحسابٍ تقديريٍ بسيط لعوائد نظام السجل العقاري السعودي وجدت : أنه سيشكل ثاني أكبر دخل وطني بعد البترول ، ولعل هذا هو الذي دعا إمارة دبي إلى بذل المزيد من العناية بالتطبيقات الخدمية ذوات العوائد المجزية .



= إن الرسوم التي تتقاضاها محكمة دبي وسائر دوائر الإمارة كفيلة بتشغيلها على النحو الذي هي عليه وزيادة ، فمن يدخل مدينة دبي لا يجد أنه يدخل مدينة أو إمارة ، إنما يدخل سوقاً تجارياً كبيراً ، كل شيء فيه مدفوع الأجر ما عدا الهواء ، ولذلك لا غرابة أن تكون كما هي الآن .



= يقول علماء اللغة العربية : إن الزيادة في المبنى دليل على الزيادة في المعنى . ولو طبقنا هذه القاعدة على ما نحن فيه لأدركنا : أن كل زيادة في التطور المطلق لابد أن تأتي على حساب مدخرات الناس وأرزاقهم ، إن لم تأت على كثيرٍ من معتقداتهم وواجبات دينهم .



= ولعل صاحب الخواطر ومن على شاكلته يأذنون لي بهمسة ، لأقول لهم : هل ترضون لمكة المكرمة أو المدينة المنورة أن تكونا كمدينة دبي بما هي عليه اليوم ؟.



- إن مدينة دبي العربية اليوم أشبه ما تكون بشعب بَوَّان ، الذي قال فيه المتنبي :

وَلكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فِيهَا = غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ واللِّسَانِ



- ما هو حالنا إذا اندثرت اللغة العربية في مكاتباتنا ؟، أو اضمحلت كلغة تخاطبٍ بين أفراد مجتمعنا .



- كيف بنا إذا ضعنا نحن العرب بين أفواج الهنود وجماعات الروس والروم ؟.



= إننا لا نُهَوِّن من تطور تلك المدينة المتنامي ، ولكننا نلقي الضوء على دوافع ذلك التطور وإفرازاته ، حتى يعلم المبهورون بتطورها ما هم فيه من نعمة كبرى ، أقلها أن ما يدفعه المواطن السعودي من رسوم الخدمات لا يبلغ معشار ما تحتلبه أنظمة المدن المؤسساتية من جيوب أبنائها ، الأمر الذي يضطر معه من لا دخل له - يناسب تلك الجبايات - إلى السكنى خارج تلك المدن ؛ فراراً من رسوم الطريق وارتفاع الإيجار وغلاء الأسعار .



= إنه لا يمكن لمجتمعٍ الالتزام بانتمائه الديني والوطني مع الرغبة الجارفة في الاستثمار المفتوح في مصادر الثراء بلا قيود ولا شروط ، ولا مع النزعة الجامحة في الانسياق المقبوح نحو موارد الإثراء بلا ضوابط ولا روابط .





http://www.cojss.com/vb/showthread.php?p=30967 | عدد القراء : 4154 | تأريخ النشر : الأحد 14 رمضان 1432هـ الموافق 14 أغسطس 2011م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=323
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع