(( الإسعاف القضائي والتفتيش ))
قضائيات
تترامى المحاكم السعودية في أرجاء الوطن الغالي ليكون أقصى بُعدٍ بين نقطتين ثلاثة آلاف كيلو متر من الشمال إلى الجنوب ، وألف وخمسمائة كيلو متر من الشرق إلى الغرب ، ولذلك : فإنَّ تعميم الشبكة المعلوماتية بين تلك المحاكم ومركز الإدارة القضائية في المجلس أو الوزارة أمرٌ مطلوبٌ وحتمٌ يجب الإسراع في تهيئته وتشغيله .
= من المؤكَّد أن قضاة الأطراف سيحتاجون إلى مهماتٍ إسعافية أثناء نظرهم قضايا البلاد التي كُلِّفوا بقضائها ؛ خصوصاً : أنَّ قضاة الأطراف في الغالب من القضاة الشباب حديثي العهد بالعمل القضائي .
= إنَّ القاضي في أول تعيينه يدرك الكثير من آليات التقاضي ؛ غير أن ما يخفى عليه من مُخرجاته أكثرُ مما يعلمه ؛ مما يجعله في حاجةٍ ماسةٍ إلى طلب الاستشارة ممن يثق بهم من زملائه ومشايخه .
= ومن واقع معايشةٍ شخصية : ظهر لي أن من يحتاج للاستشارة لا يَكتفي برأيٍ واحد ، فتجده يَمُرُّ على مجموعةٍ من زملائه ومن يكبرونه سناً وتجربة ؛ للتَّوثُّق من الرأي الذي يتلقاه من أولهم ، أو للعثور على من يشاركه في رأيٍ تردَّد في الجزم به ، أو للوقوف على مجموعةٍ من الآراء ليختار منها ما يناسب قضيته من منظوره ؛ غير أن المستشير يذكر لمستشاره أحداثاً ، وقد يُغفل أحداثاً يكون لها تأثير في الحكم الصحيح .
= ولذلك : فإن الاستفصال من المستشير عن قضيته كفيلٌ بمعرفة أبعاد القضية على نحوٍ أفضل ، وترك الاستفصال أو التقصير فيه سببٌ في اختلاف الرأي الذي يتلقاه القاضي المستشير .
= فكان لابد من إنشاء دائرة ( الإسعاف القضائي ) ؛ لتتولى في البداية مهمة الشخوص إلى محكمة القاضي المستسعف ، وتنظر في ضبوطه وأوراق معاملاته ، وتُشير عليه باستدراك ما فاته من إجراءات ، وتنصحه بالاطلاع على مظان ما يحتاجه من أحكامٍ من كتب أهل العلم ، أو من الأنظمة والتعليمات التي خفيت عليه ، وتُزوِّده بما يحتاجه من كتبٍ ولوائحَ وتعاميم .
- حتى إذا انتظمت شبكة المعلومات القضائية لتشمل جميع المحاكم والمكاتب القضائية : فيمكن حينئذٍ لدائرة الإسعاف القضائي الاستغناء عن الشخوص إلى محاكم المستسعفين من القضاة ، وتكتفي بالتواصل معهم عبر الشبكة ، وكأنهم معهم في مكاتبهم .
= إن دائرة الإسعاف القضائي سوف تقضي على كثيرٍ من الملحوظات والاستدراكات التي تستنبطها محاكم التمييز الحالية ، وسوف تجعل أحكام القضاة في المحاكم الابتدائية أكثرَ إتقاناً وضبطاً بعد انتظام العمل في المحاكم الاستئنافية ، مما يعود على القضاء السعودي وعلى القضاة السعوديين بالموثوقية والقوة والضبط .
= إن دائرة الإسعاف القضائي أنجعُ وأفضلُ على المدى البعيد والقريب من دائرة التفتيش القضائي التي حصرت مهامها في تطلُّب زلات القضاة ، والبحث عن الهفوات ، وكيل الاتهامات ، والنفخ في المخالفات .
= لقد كان التفتيش القضائي رائداً إبَّان رئاسة الشيخ محمد الفنتوخ ونائبه الفذ الشيخ محمد الدخيل رحمهما الله ، وكانوا هم ومن معهم من المفتشين القضائيين من خِيار الناس ومن ذوي المروءات السامية ، وقد لقيت منهم عدداً فعرفت فضلهم ونزاهتهم ونصحهم وغيرتهم ، وهم على ترتيبِ لِقائي بهم : الشيخ محمد الهويش ، والشيخ عبد الرحمن المعمر ، والشيخ عبد العزيز المخضوب عفا الله عنهم ، وشكر لهم ما أسهموا به في رُقِيِّ الجهاز القضائي والنُّصح لمنسوبيه .
- كما لقيت من المفتشين الدوريين كلاً من : الشيخ غيهب الغيهب ، والشيخ عبد الكريم الشيحة يرحمه الله ، والشيخ ناصر الفريدي ، والشيخ مسفر المسفر ، والشيخ علي الألمعي ، والشيخ عبد الرحمن العريني غفر الله له . وما عهدت أحداً ممن لقيته من هؤلاء المفتشين إلا ناصحاً أميناً مستقلاً برأيه . كتب الله أجرهم ورفع قدرهم
- ولا يزال في دائرة التفتيش القضائي اليوم من هم على سَمت ونهج أولئك الأخيار ؛ إذ لو خَلِيَت لَخَرِبَت . والله المستعان
= وسأذكر حادثةً لأحد أفاضل المفتشين السابقين الذين لم أسعد بلقائهم في مجال العمل ، وهي تُنبئ عن معدنٍ أصيلٍ ، وعن غيرةٍ صادقةٍ على الجهاز ومنسوبيه ، وعلى نصحٍ لولاة الأمر ولعامة المسلمين في هذه البلاد المباركة .
- ذكر لي الراوي وهو من القضاة أن فضيلة رئيس مجلس القضاء الأعلى الشيخ عبد الله بن حميد بعث المفتش القضائي الشيخ إبراهيم الناصر للتحقق من شكوى ضد أحد القضاة في إحدى المناطق الحدودية ، ولمَّا عاد المفتش إلى المجلس وجد رئيس المجلس وأعضاءه الدائمين مجتمعين ، فبادره فضيلة الرئيس على الفور بقوله : بَشِّر !. وهي كلمةٌ تدل على رغبةٍ صادقةٍ في سماع ما يُبَشِّرُ بسلامة القاضي مما نُسِبَ إليه ، ولا تُنبِئُ عن أدنى شُبهةٍ من حقدٍ ولا دَغَلٍ ولا سُوء طويةٍ في بعث ذلك المفتش .
- وكان الجواب من المفتش القضائي رمزاً ؛ بقوله : الذِّيب في القليب . أي : أن القاضي مُدَانٌ بما نُسِبَ إليه ، فَأَسِفَ الشيخ لذلك الخبر ، وحوقل ، واسترجع . يرحمه الله
- غير أن المفتشَ الفَذَّ أردف قائلاً : ولكنِّي أقنعته بطلب التقاعد فوافق ، وكتب بذلك خطاباً أحضرته معي . عند ذلك انفرجت أسارير الشيخ عبد الله بن حميد غفر الله له ، ودعا للمفتش بالتوفيق وللقاضي بالصلاح والهداية .
- لقد جمع المفتش القضائي ورئيس القضاة - في هذه القصة - بين المصلحتين العامة والخاصة ، فَكَفُّوا شَرَّ ذلك القاضي عن المسلمين ، وحفظوا للقضاء هيبته وللقضاة منازلهم ، والتزموا بأنظمة بلادهم طاعةً لولاة أمرهم ، فعاش كُلٌ منهم حميداً ، ومات من مات منهم مجيداً .
= حتى هذه النقطة : الوضعُ في منتهى السُّمو والرُّقِيِّ في التعامل ، والأمانة والصدق في النُّصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، إلا أنَّ ما عَكَّرَ تلك الأجواء هو انبعاثُ صيحةٍ مُنكرةٍ من أحد الحاضرين قائلاً بأعلى صوته : لا !، حتى نفضحه على رؤوس الأشهاد .
- خَيَّمَ الصمتُ والوجومُ على الحاضرين بعد سماع هذه الكلمةِ الحاقدةِ ، وذلك التعليلِ الأخرقِ المخالفِ للآداب الشرعية ، والأخلاق العربية ، والتعليمات المرعية ، ومنها المادة (63) من نظام القضاء الحالي ، وهي ذاتُ الرقم (79) من نظام القضاء السائد وقت الحادثة .
- فامتعضَ لذلك فضيلةُ الرئيس يرحمه الله ، وأظهر تحسُّره على الأمةِ التي فيها من يحمل تلك النزعات الهوجاء .
http://www.cojss.com/vb/showthread.php?8245
| عدد القراء : 4485 | تأريخ النشر : الأحد 7 صفر 1433هـ الموافق 1 يناير 2012م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=342
+ تكبير الخط |
+ تصغير الخط