السوابق القضائية
قضائيات
تَتَفَاوَتُ كُتُبُ الفقهِ - في ما بينها - من حيثُ الترتيبِ والتبويبِ ، غير أنَّ الملحوظَ في بعضها احتواؤه على كمٍّ هائلٍ من الفروعِ الفقهيةِ المقرونةِ بأحكامها ؛ بعضُ هذه الفروعِ واقعٌ فعلاً ، وأغلبها مما يفترضه الفقيهُ ويجعلُ له حُكماً يراه مُناسباً باجتهاده ؛ احتياطاً لإمكان حصوله .
والذي يهمنا من تلك الفروعِ الفقهيةِ : النوازلُ التي احتاجت بيانَ حكمها ، فَقَرَّرَ الفقهاءُ لها حُكماً أو أكثرَ كُلٌ بحسب اجتهاده ، ومثلُ ذلك : الحوادثُ القضائيةُ التي حَكَمَ فيها القضاةُ من جميعِ الأقاليم .
وما جاءت المدوناتُ والموسوعاتُ الفقهيةُ - المبسوطُ فيها الكثيرُ من الفروعِ الفقهية - إلا عن طريقِ تَتَبُّعِ هذه الأحكامِ والفتاوى وجمعها عن الأئمةِ والمجتهدين وقضاةِ الأمصارِ في سالفِ الأعصار ، يتميزُ اللاحقُ من تلك المدوناتِ على ما سبقه بالإضافاتِ والافتراضات والتفريعات والتقييدات التي لم تكن فيما قبلها وهكذا .
وكما هو حاصلٌ في الفقه الإسلامي كذلك هو واقعٌ فعلاً لدى فقهاءِ القانون ؛ غير أنَّ الفارقَ الفريدَ بين الصنفين هو اعتبارُ رجالِ القانون ( السوابقَ القضائيةَ ) مصدراً من مصادرِ الحكم التي يمكنُ الاستنادُ إليها في القضايا اللاحقة ؛ ما دامت الحوادثُ متطابقةً في أركانها وشروطها .
وعلى ذلك : يختتمُ القاضي تسبيبه حكم الحادثةِ اللاحقةِ بنحوٍ من هذا النص ( .. .. ، وحيث سبق الحكمُ في مثلِ هذه القضيةِ بالحكم الصادر من .. برقم .. وتاريخ .. لذا فقد حكمتُ في هذه القضية بـ .. ) ، ثم يَذكرُ حكماً مشابهاً لذلك الحكمِ بعد مراعاةِ الفوارق في الأسماءِ والمقاديرِ والأمكنةِ ونحوها .
ومع أنَّ السوابقَ القضائيةَ مصدرٌ من مصادرِ الحكمِ في القانونِ ، إلا أنَّ ذلك لا يعني : أنَّ الحكمَ السابقَ لازمٌ وواجبُ الأخذِ به كالنصِّ المقدَّس ؛ بل إن مُفارقته جائزةٌ لا محالة ، ولكن وَفْقَ إجراءاتٍ نظاميةٍ واجبةٍ ومحددة وبشرطِ بيانِ سببِ تلك المفارقة من أصولِ وقواعدِ القانونِ العامة ، وهي ما نُسميه في الفقهِ الإسلامي : قواعدَ الأحكام من : العملِ بالمقاصد ، ودرءِ المفاسد وتقليلها ، وجلبِ المصالح وتكثيرها ، ودفعِ الضرر ، وجلبِ التيسير ، وتحكيمِ العادات والأعراف - وإن تغيرت - فيما تُحَكَّمُ فيه ، وسائرِ فروعِ هذه العمومات .
وقد روعي هذا المبدأُ القضائيُّ العادلُ في نظامِ القضاءِ السعوديِّ الصادرِ عام/ 1395 هـ ؛ بالنصِّ على إجراءاتِ عدولِ أيِّ دائرةٍ من دوائرِ ( محكمةِ التمييزِ ) عن اجتهادٍ سَبَقَ أن أخذت به هي أو دائرةٌ أخرى في أحكامٍ سابقةٍ ، وفيها : أنَّ الدائرةَ لا تقوى على مُخالفةِ اجتهادٍ سابقٍ بالتصديقِ أو بالنقضِ إلا بعد تَحَقُّقِ صدورِ قرارِ الإذنِ بالعدولِ عن الاجتهادِ السابقِ من الهيئةِ العامةِ لمحكمةِ التمييزِ وبأغلبيةِ ثُلثي أعضائها على الأقل ، وبشرطِ تأييدِ قرارهم من معالي وزيرِ العدل .
فإن لم يُوافق معالي الوزير على قرارِ العدولِ أو لم يُقرِّر الأغلبيةُ الإذنَ بالعدولِ المطلوب : لزم عرضُ الأمرِ على مجلسِ القضاءِ الأعلى للفصلِ فيه ، ويُعتبر قراره نهائياً ؛ كما في المادتين/14-20 . هذا ما وَرَدَ في نظامِ القضاءِ الصادرِ قبل أكثرَ من ثلاثين عاماً ؛ توحيداً لإجراءاتِ جهاتِ التدقيق ، وحتى لا يكون تغييرُ الاجتهاداتِ وسيلةَ الحكمِ بالهوى ، وذريعةَ النقضِ الفوضوي للأحكام .
غير أن النظام لم يذكر إجراءات عدول مجلس القضاء الأعلى عن اجتهاداته السابقة ، ومحكمةُ التمييزِ الموقرةُ لا يزال يَحْصُلُ منها : أن تُصَدِّقَ إحدى دوائرها أحكاماً تارةً وتنقضَ ما يُماثلها تارةً أخرى ؛ لمجرد تَغَيُّرِ اجتهادِ أحدِ أعضائها ، أو لطروءِ عضوٍ جديدٍ عليها استطاعَ التأثيرَ على بقيةِ أعضاءِ الدائرة ، بل قد يَحْصُلُ النقضُ والتصديقُ لحكمينِ مُتماثلينِ من دائرتينِ في وقتٍ واحد ، فضلاً عن الاختلافِ الحاصلِ بين محكمتي التمييزِ في الرياضِ ومكةَ المكرمةِ مما لا يخفى ، كُلُّ ذلك دون أن تجدَ المادةُ/14 - في الحالين - أيَّ تطبيقٍ لمضمونها ؛ لا مِنْ رئاسةِ المحكمةِ ، ولا مِنْ أمانتها العامةِ ، ولا مِنْ الجهاتِ القضائيةِ العليا .
قد يقولُ قائلٌ : لعلَّ السببُ في ذلك خفاءَ الأمرِ على ذوي الاختصاص ، أو : خفاءَ طريقةِ حَلِّهِ عليهم ، أو : عجزَهم عن تطبيقِ ما احتواه النظام .
والجواب : أن لا وجهَ لتبريرِ مخالفةِ النظامِ بِأَيٍ من الاحتمالاتِ الثلاثةِ ؛ لأنَّ وجودَ التناقضِ وظُهُورَهُ وَدُخُولَهُ ضمن مسؤولياتِ رئاسةِ المحكمةِ وأمانتها يمنعُ الاحتمالَ الأول ، ولأنَّ النصَّ على طريقةِ الحَلِّ في سبعِ موادَ من نظامِ القضاء ( 15-21 ) يمنعُ الاحتمالَ الثاني ، ولأنَّ عَقْدَ الهيئةِ العامةِ للمحكمةِ - لبحثِ العدولِ عن الاجتهادِ السابقِ - ليس بعسيرٍ ، والأمرُ يقتضيه حتماً ، فامتنعَ به الاحتمالُ الثالث .
فلم يبقَ إلا الجزمُ : بأنَّ الثقافةَ النظامية الضعيفةٌ لدى المعنيين بهذا المرفقِ الهام تجعلهم في حلٍ عند تعطيلِ تطبيقِ ما لا يرونَ أهميته من موادِ النظام ؛ وإن كان منصوصاً عليها على أنها موادُ آمرةٌ واجبةُ التنفيذ لازمةُ التطبيق .
وأعظمُ من هذا : أنَّ السوابقَ القضائيةَ المعاصرةَ لا تصلحُ أن تكونَ مستنداً في الحكمِ على ما يماثلها ؛ أسوةً بما يستندُ عليه القضاةُ اليومَ من أقوالِ الفقهاءِ وأحكامِ القضاةِ في القرونِ الغابرةِ في مسائلَ مَقِيسَةٍ ؛ إذ ما إن يستشهدُ قاضٍ ما بسابقةٍ قضائيةٍ مُعَاصِرَةٍ مُكتسبةٍ القطعيةَ من مرجعها إلا وتُبَادِرُ إليه جهاتُ التدقيقِ منكرةً عليه احتجاجه ، مُعَلِّلَةً : بأنَّ لُكِلِّ قضيةٍ ظُروفها ؛ دونَ أدنى بيانٍ لوجه الاختلاف .
وأدهى من هذا : أنه عند الاستدراكِ على حُكْمِ القاضي لا ينفعه أنْ يستندَ في جوابه عنها بنصوصِ موادِ الأنظمة أو فقراتِ اللوائحِ المعتمدة ، لأنَّ الردَّ عليه سيكونُ غالباً : بلزومِ الرجوعِ إلى ما جاء في قرارِ الاستدراكِ والعملِ بموجبه ؛ دونَ بيانِ الموقفِ مِنْ جوابِ القاضي ولا مِنْ دليله ، وكأنَّ القاضيَ لم يُوْرِد جواباً عن ذلك الاستدراك ، ومصير الحكم النقض إن بقيَ القاضي على حكمه ، والضحية هم أطراف القضية .
من كُلِّ هذا : أقطعُ يقيناً بضرورةِ إعادةِ هيكلةِ الجهازِ القضائي ، وبلزومِ تهيئةِ القياداتِ القضائيةِ بالدوراتِ التثقيفيةِ النظاميةِ ، وبحتميةِ تأمينِ أجهزةٍ رقابيةٍ متخصصةٍ يُمكِنُ اللجوءُ إليها عند الحاجةِ .
وحتى اكتمالِ تلك النتائجِ ينبغي : أن يتِمَّ رَصْدُ كُلِّ السوابقِ القضائيةِ الهامة ، عَبْرَ مسحٍ كاملٍ لضبوطِ وسجلاتِ جميعِ محاكمِ المملكة ، وبعد تنقيحها وتصفيتها تُضَمَّنُ في ( القانونِ السعوديِ ) القادمِ إن شاءَ اللهُ تعالى . واللهُ الموفق .
| عدد القراء : 12012 | تأريخ النشر : السبت 24 رجب 1427هـ الموافق 19 أغسطس 2006م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=37
+ تكبير الخط |
+ تصغير الخط