رَجُلاَنِ بِرَجُلٍ

قضائيات صَدَقَ اللهُ العظيمُ ( وَالخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً )، لقد كان رُكُوب هذه الدوابِ وقتَ نزولِ الوحيِ حاصلٌ في جميعِ البلدان، أما في عصرنا الحاضر ومع تطوُّر الكثيرِ من الصناعات وتعدُّد أنواعِ المركبات فقد بقيت الخيلُ - المذكورةُ في الآيةِ الكريمةِ أولاً - على ما هي عليه رَكُوبةً وزينة؛ لأنها كما قال الصادقُ المصدوقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ )، وتكاد وظيفةُ البغالِ تنحصرُ في جَرِّ عرباتِ المصطافين والسياحِ داخلَ الحدائقِ والمتنـزهات، أما الحميرُ فقد أهملت في الكثيرِ من البلاد - منذ عقدين من الزمانِ أو ثلاثة - فلا تكاد تراها في المزارعِ والحقول كما كانت أولاً، ونتيجةً لذلك استوحشت هذه الحيواناتُ من الناسِ، ولجأت إلى الشِّعابِ وأقاصي الأودية، تَرِدُ الماءَ وتأكلُ الكلأ، حتى راجَ لها - مؤخراً - سُوقٌ في إحدى الدولِ المجاورة وازداد الطلبُ عليها من قِبَلِ رُعاة الأغنام هناك، فبادر لاصطيادها قومٌ من ذوي الدخل المحدود، يبيعونها ويستعينون بثمنها الزهيدِ على صروفِ دهرهم والإنفاقِ على عيالهم. كان الله في عون الجميع.



وفي إحدى رحلاتِ الصيد هذه: خرج رجلٌ وشقيقه ومعهم بعضُ أقاربهم، فاتخذوا مكاناً للتخييم في بطن الوادي، وانطلق الرجالُ منهم للبحث عن غايتهم في سيارتين يُطَارِدُونَ الهدفَ من جانبيه، مُشتتين تركيزه باستخدام أبواقٍ خاصةٍ لإزعاج الطرائد، حتى إذا حصروا أَحَدَهَا بين السيارتين تدافعَ إليه الشبابُ فربطوه وحملوه في ظهر السيارة إلى حيث يبيعونه.



كانت أصواتُ تلك الأبواقِ سبباً في إزعاجِ حيواناتٍ أهليةٍ مملوكةٍ لأحدِ رجالِ البادية في شِعبٍ مجاورٍ، الأمرُ الذي حدا به إلى تقديمِ شكواه مرةً أو مرتين إلى أقربِ مركزٍ دون فائدة، وعندما نَفَرَ قَعُودٌ له من تلك الأصواتِ وَكُسِرَتْ رِجْلُهُ من جراءِ ذلك حَمَلَ الرجلُ سلاحه مصطحباً ابنته الراشدةَ وابنه البالغَ، واتجه إلى مكانِ الصوت، ثم تَرَجَّلَ عن سيارته وَقَصَدَ إحدى السيارتين العائدتين للمصطادين فَكَسَرَ الزجاجةَ الخلفية لمقصورةِ القيادة، ثم عاد بعدها إلى سيارته وقبل أن يواصلَ سَيْرَهُ صاحَ بِهِ صاحبُ السيارة مستفهماً منه عن سببِ كسرِ زجاجةِ سيارته، فبادره البدويُّ بإطلاقِ النارِ عليه من بندقيةِ صيدٍ بيده أطارت غُترته مِن على رأسه ولم تُصِبْهُ، فأخذ الصيادُ حجراً من الأرض وتَوَجَّهَ ناحيةَ سيارةِ الجاني ليكسر زجاجتها قصاصاً، وقبل أن يتمكنَ من ذلك أطلقَ عليه الجاني رصاصته الثانية التي أطارت برأسه ونثرت دماغه مِن حوله.



كُلُّ ذلك بمرأى ومسمعٍ من شقيقِ القتيل؛ الذي وَقَفَ مراقباً ما تنتهي إليه تلك المحاورة، ولما رأى ما حصل لأخيه وأيقنَ أنَّ أخاه قد مات وأنْ لا أمل يُرجى من إسعافه أسرع إلى سيارته وأخرج سلاحاً مماثلاً للسلاح الذي قُتِلَ به أخوه، فَصَوَّبَهُ نحو الجاني - وكان قد ابتعد قليلاً عن مكان الجناية - فأطلق عليه خمسَ رصاصاتٍ لم يخطئ الجاني في واحدةٍ منها، فمات على إثرها. تغمَّد الله الجميعَ برحمته، وغفر لهم ما جَنَتْهُ أيديهم، وجعل ما أصابهم كفارةً لخطاياهم. إلى هذا الحدِّ انتهت القصةُ .



وبعد استكمالِ التحقيقات، وعرضِ القضيةِ على المحكمة العامة بحائل للنظر في طلبِ ورثة القاتل الأولِ الاقتصاص من قاتل مورثهم ( شقيق الصياد القتيل )، وبعد سماع الدعوى وجواب المدعى عليه وأخذِ إفادة ولدي الجاني القتيل بما تقدم ذكره من ثلاثةِ قضاة حَكَمَ الأكثريةُ على المدعى عليه بالقصاص؛ لأنه غيرُ وارثٍ لشقيقه القتيل فلا حَقَّ له في استيفاءِ القصاص، وأبقى حُكمُ الأكثريةِ لورثةِ أخيه الحقَّ في المطالبةِ بديةِ قتلِ العمدِ في مالِ قاتل مورثهم؛ لتعذرِ الاقتصاصِ منه بموته.



هذا هو حُكْمُ الأكثريةُ، وكان لي وجهةُ نظرٍ حيال الحكم، مُلخصها: أنه بعد تَحَقُّقِ كونِ القتلِ الأول جاء عمداً عدواناً بشهادة ولدي القاتلِ على فِعْلِ أبيهما، وبعد تَحَقُّقِ شروطِ القصاصِ وشروطِ استيفائه من الجاني لو كان حياً، وبعد إثباتِ إجماعِ ورثةِ المجني عليه على إجازةِ فِعلِ عَمِّهِم المدعى عليه بالاقتصاصِ من قاتلِ مورثهم، ولأنَّ القاتلَ الثانيَ شقيقٌ للمجني عليه وقد حَصَلَ قَتْلُ أخيه أمامَ ناظريه فلا يَسَعُ مَن في مِثلِ حالته غيرُ ما فَعَلَهُ، ولأنَّ الأخَ الشقيقَ من العصبةِ الذين يلحقهم العارُ بقتلِ عاصبهم، والذين هم أولياءُ الدَّمِ المستحقين القصاصَ في مذهب الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، ولما ذكره الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم من أن القاتل الأجنبي لو قال: قتلته إنفاذاً لطلب ورثة الدم وصدقوه فلا قصاص ولا دية ولا أدب. لكل ذلك فقد رأيتُ: أن القتلَ الثانيَ يكون في مقابلةِ القتلِ الأول، ولا ديةَ لورثةِ أيٍ من القتيلين، ولا قصاصَ على شقيقِ المجني عليه، وأنَّ لوليِّ الأمرِ تأديبَ المدعى عليه على افتياته باستيفاءِ القصاصِ من قاتلِ شقيقه دون إذنِ الإمام؛ حفظاً للنظام العام، ومنعاً لفوضى الأخذ بالثأر. انتهت وجهة نظري مختصرةً.



شاء الله لحكمِ الأكثريةِ أن يكتسبَ القطعيةَ - بعد محاولاتٍ فاترةٍ لِثَنيِ الأكثريةِ عن الحكمِ بالقصاص - من محكمةِ التمييز ومن مجلس القضاء الأعلى، وقضى اللهُ جَلَّ جَلالُهُ أن لا يحصلَ ذلك؛ إذ بمجردِ أنْ علمت والدةُ المجنيِّ عليه وشقيقه المحكوم عليه بالقصاصِ بِخَبَرِ الحكمِ لم تترك باباً إلا طَرَقَته لِعَرضِ أمرِ ابنيها المغدورين، حتى وصلت إلى ملكِ القلوبِ وبلسمِ جراحِ الأُمَّة خادمِ الحرمين الشريفين الملكِ عبدِ الله بنِ عبد العزيز آل سعود متَّع اللهُ به؛ الذي تَحَقَّقَ أولاً من كونِ الحكمِ لم يصدر بالإجماعِ من قضاةِ المحكمة عن طريق إمارة المنطقة، ثم صدرت التوجيهاتُ الساميةُ الكريمةُ بمعالجةِ الأمر بما تقتضيه المصلحةُ العامة، فأثمرت الجهودُ المخلصةُ عن تنازلِ أحدِ الورثةِ المحكومِ لهم بالقصاصِ إلى الديةِ، وَعَتُقَ القاتلُ بفضلِ الله ورحمته.



ملحوظة:

في هذه القضيةِ عبرةٌ لمن أرادَ أن يتخطى القنواتِ الرسميةَ في سبيلِ تحصيلِ حَقِّهِ؛ فلولا شهادة ولدي القاتل الأول بتفصيل ما فعله والدهم قبل الاقتصاص منه لأمكن أن تتغير مجريات القضية إلى الأسوأ بالنسبة لشقيق القتيل الأول. نسأل الله السلامة. | عدد القراء : 4627 | تأريخ النشر : الأحد 7 رجب 1428هـ الموافق 22 يوليو 2007م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=50
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع