اعتذر وإلا!

نظاميات منذ أن نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي الحباب بن المنذر رضي الله عنه يوم بدر؛ قائلاً له عليه الصلاة والسلام ( لقد أشرت بالرأي )، وحين قال خليفة رسول الله أبو بكر الصديق رضي الله عنه في أول خطبة له بعد مبايعته ( وإن أنا أسأت فقوموني )، ولما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ( رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إِلَىَّ عُيُوبِي )، منذ ذلك الحين : وهذا الدين الخاتم يقرر مبدأً فاضلاً؛ هو: لزوم اتباع الحق حيثما كان بطيب نفسٍ وعرفانٍ لمن أمر به.



وبالمناسبة: فإن لي صاحباً لم أره منذ ثلاثين عاماً وحتى الآن؛ حيث جرفته أمواج الحظوظ نحو عملٍ يَعِزُّ هو فيه على طالبه، غير أن له كتاباتٍ شائقةً في بعض الصحف، وكنت أكتفي بالتواصل مع خطه عن الاتصال بشخصه، عرفته ذا رأيٍ سديد وحزمٍ حديد، كتب مرةً في شأنٍ من شؤون القضاء فأصاب فيه الحق، بدليل اشتمال النظم القضائية الجديدة على ما كان يدعو إليه، غير أنه فوجئ باتصالات من ثلاثة - واحداً تلو الآخر - يطلبون مثوله أمامهم في مكاتبهم، وبعد حوارٍ من كلٍ منهم حول المقالة وخطر استغلالها من العلمانيين! والليبراليين!! طلبوا جميعاً من صاحبنا مطلباً واحداً - لابد أنهم قد اتفقوا عليه أو أُرشِدُوا إليه - وهو: لزوم تقديم الأعذار على ما بدر، وإظهار عظيم الأسف على ما صدر؛ خشية على مستقبله الوظيفي. هكذا زعموا !، وإلا فإن الأمر سيبحث مع مرجع عمله على مستوى عالٍ.



كانت هذه الواقعة صدمةً كبيرة لصاحبي سببت له جرحاً غائراً لم يكد يبرأ حتى الساعة، كيف! وهو الدكتور في الفقه المقارن من المعهد العالي للقضاء.



عندما أفضى إليَّ بحديثه هذا عبر رسالةٍ إلكترونية، قلت له: لديَّ من ذلك الأمر الكثير؛ بحيث تعاقب عليَّ الإحباط فأدمنته؛ حتى صار لي ترياقاً أفزع إلى ما يثيره بين الحين والحين.



وبعد أن واسيته وتوجعت له أسليته فذكرت له قصة شبيهة لحادثته حصلت لي؛ إذ بتاريخ 11/ 6/ 1405هـ كتبت اقتراحاً بشأن نقض أحكام القضاة من محكمة التمييز؛ مفاده: أن القضية التي يحكم فيها قاضي المحكمة ويستدرك عليه فيها قضاة التمييز بعض الملحوظات، ثم لا يرى القاضي وجاهة لتلك الاستدراكات، فإن التمييز تنقض الحكم وتحيل القضية إلى قاضٍ آخر؛ ليشرع في نظرها من جديد، مع ما في ذلك من إبطال الأحكام بمحض اجتهادات تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب، وما فيها أيضاً من إضاعة للجهد والوقت، وزيادة دائرة التنافر والخصام بين الناس.



وكان الرأي مني: أن يلحق بالنظام آلية جديدة لقرارات نقض الأحكام بلزوم عرضها على مجلس القضاء الأعلى تلقائياً؛ ليقرر المجلس أيَّ الفريقين أولى بإصابة الحق.



وحتى لا أكون متهوراً في طرح هذا الرأي، فقد راجعت آخر كتابٍ إحصائي لوزارة العدل فوجدت أن مجموع القضايا المنقوضة عام 1402هـ 55 قضية فقط، أي: أنها لو أحيلت جميعها للهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى لما زاد نصيب العضو الواحد منها إلا قضية واحدة في الشهر، فأدركت أن المطلب ممكن ولا ضرر منه على المعني به.



وحتى لا يُظن بي الانتصار لأفراد القضاة فقد ضممت نوعاً آخر من القضايا قريباً منه في النسبة؛ وهو ما تؤيده محكمة التمييز بالأكثرية.

فقد رأيت: أن يدقق كل حكم مصدق بالأكثرية تلقائياً من مجلس القضاء الأعلى؛ احتياطاً للحقوق وبراءة للذمة ورعاية لحق المحكوم عليه؛ ما دام أحد قضاة التمييز لا يرى تصديق الحكم بعدم موافقته على الحكم.



هذا كان هو الاقتراح، فما كان الموقف المعنيين منه ؟.



تلقيت اتصالاً ذات صباح مأحدهم، ، وبعد السلام المقتضب شرع في التأنيب والتقريع على طريقة رفع الاقتراح، ثم على قصر نظر كاتبه، وقال بالنص: أنت ترى بعين ونحن نرى بعينين !.

فبادرته بقولي: هل تقصد أني أرى في حدود المحكمة التي أعمل بها أو المنطقة التي فيها تلك المحكمة، وأنتم ترون على مستوى المملكة؟.

فقال بنبرة الواثق: نعم!.

فأجبته: إن من الواضح أن فضيلتكم لم يقرأ خطاب الاقتراح كاملاً؛ ففيه ذكرٌ لإحصائيةٍ على مستوى المملكة ومن الكتاب المعتمد من وزارة العدل.



عند ذلك شرع في الامتنان عليَّ بحفظ الأوراق وعدم عرضها على مجلس القضاء؛ حتى لا يصدر بشأني ما لا أحمد عقباه!.



وآخر قصة مماثلة: في ربيع هذا العام 1428هـ تلقيت اتصالاً من اثنين من الأفاضل؛ ذكرا أنهما يريدانني بشأنٍ هام، وكان هذا الشأن المساومةَ على ترك الكتابة في شؤون القضاء، والاعتذار عن كل ما كتبته في الصحافة، مقابل بعض المكاسب المادية القاصرة، قبل أن يصدر بشأني قرار إعفاءٍ للمصلحة العامة!، قد لا أستطيع بعده الحصول على ترخيص محاماة!. هكذا قالوا عفا الله عني وعنهم !.



كان ذلك في ليلةٍ مطيرة بقدر ما تبعث في النفس الأمل، وتحيى بها البلاد من الطلل، بقدر ما يريده مرسل هذين الفاضلين من إزهاقٍ لروح ذلك الأمل؛ دون ذكرٍ لإسم الله عليه وقت حلول الأجل.



ثم تمثلت لصاحبي بقول أبي الطيب:

أَلَحَّ عَلَيَّ السُّقمُ حتى ألِفتُهُ = وَمَلَّ طبيبي جانبي والعوائدُ




ولصاحبي ونفسي أقول: لو علم إخواننا أننا بما نكابده معهم لا نريد غير رضا الله أولاً، ثم النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم؛ كما أوصانا بذلك نبي الهدى عليه الصلاة والسلام لما كان لنا منهم ما كان.

ولذلك فإني قائلٌ لإخواننا أولئك ما قاله العبد الصالح وقد كَذَّبَهُ قَومُهُ وَشَجُّوه: (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ )). | عدد القراء : 4796 | تأريخ النشر : الأحد 23 جمادى الآخرة 1428هـ الموافق 8 يوليو 2007م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=53
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع