آليات تطوير العمل القضائي 3-5

نظاميات في الحلقتين السابقتين تعرضنا لذكر سبعٍ من آليات تطوير العمل القضائي هي : اللقاءات القضائية الرسمية ، البحوث والدراسات ، التفاعل الفوري مع الشكاوى المعلنة والنقد ، الحضور الإعلامي القضائي ، الزيارات الداخلية ، الاحتكاك الخارجي ، برامج التدريب .

ولإيفاء موضوع هذه الحلقة حقه من البيان اضطررت للإسهاب فيه على حساب بقية الآليات .



الآلية الثامنة : منهجية التقييم .



إنَّ للتقييم أثراً كبيراً في تطور العمل في أيِّ قطاع ؛ فمتى كوفئ المستحق كان ذلك نابعاً من سلامة تقييمه ، ودافعاً له نحو تحقيق المزيد ، ومتى حوسب المفرط كان ذلك زاجراً له ورادعاً لأمثاله وحافزاً لتغيير السلوكيات الشائنة .



وبقدر المكافأة يتحقق التطور ، وبقدر المحاسبة يتأكد التغير . ولذلك فإن اختيار أمثل طرق المكافأة والمحاسبة من قبل الإدارة هو محور ارتكاز عملية تطوير الأداء .



ولا يلزم من تخلف المكافأة توقف عملية تطوير الموظف نفسه أو في عمله ؛ إلا أنَّ تطوُّره سيكون محدوداً ، وليس إلى المستوى الذي تتطلع إليه القيادة أو المعنيين بالقطاع كله من أصحاب الحاجات .



وإذا كانت الإدارة لا تأبه بمحاسبة المتهاونين فإنَّ الأمر يسوء ؛ حتى مع تشجيعها المستحقين ، وقل على الإدارة السلام مع انقلاب الموازين وانتكاس الفطر ؛ بتحسينها فعل المسيء وتقبيحها فعل المحسن .



وللبيان فإنَّ التقييم الوظيفي لا يعدو خمسة أساليب هي على الترتيب التنازلي :



الأسلوب الأول/ أن يقال للمحسن : أحسنت. ويقال للمسيء : أسأت.

وهذا هو أفضل أساليب الإدارة ، وأصحابها - إن وجدوا – هم أفضل المديرين على الإطلاق ، كيف لا ، وهذا هو العدل الذي أمر به المولى جل وعلا في قوله :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }



غير أنَّ هذا الأسلوب مطلبٌ عزيز ، يطمح إلى تحقيقه الكثير من ذوي الرئاسات ، ويدعيه المغرورون منهم ؛ ودون تحققه من الجميع خرط القتاد وتفتت الأكباد . والله المستعان



الأسلوب الثاني/ أن يقال للمسيء : أسأت. ولا يقال للمحسن : أحسنت؟.

وهذا حال نوعين من الإدارات :-

النوع الأول/ الإدارات الحازمة العاجزة عن مكافأة المحسنين من موظفيها مادياً ، ويقال لهؤلاء : إنَّ للتشجيع المعنوي أثره الباهر في تأدية تلك الأدوار قد يفوق غيره من المكافآت المادية المحسوسة ؛ كما قال الشاعر :

لا خيل عندك تهديها ولا مال = فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
.



النوع الثاني/ الإدارات المتهيِّبة من النابغين النابهين من موظفيها ؛ إما : خشيةً من تحوُّل المناصب إليهم ، أو : خوفاً من خوض التجارب المجهولة ، ويقال لهؤلاء : لو لم يكن لكم من إنجاز في إدارتكم إلا اكتشاف تلك الطاقات لكفاكم ، فاعملوا ، وكلٌ ميسرٌ لما خلق له .



الأسلوب الثالث/ أن يقال للمحسن : أحسنت . ولا يقال للمسيء : أسأت؟.

وهذا واقع كثيرٍ من الإدارات المجتهدة ، التي ترزح تحت وطأة وسيطرة إداراتٍ عليا ؛ يكون لذوي النفوذ والوساطات أثرهم في الإلزام بالتغاضي عن الموظفين المسيئين والمتخاذلين .



ومع ذلك فهاتان الإدارتان من أنواع الإدارات المقبولة في شتى أجهزة الدولة ، والنقص الذي يعتري الأولى منهما أو الضعف الذي يعتري الثانية لا يضرهما ؛ لكون ذلك خارجاً عن إرادة القائمين عليهما .



الأسلوب الرابع/ أن يقال للمسيء : أحسنت!. ولا يقال للمحسن : شيء؟.



الأسلوب الخامس/ أن يقال للمحسن : أسأت! . ويقال للمسيء : أحسنت!.



وهذان الأسلوبان هما حال القائمين على الإدارات من ذوي الأهواء والعصبية الجاهلية والعنصرية المقيتة ؛ ممن لا يستسيغون مرارة الحق ويتناسون حلاوة العاقبة ، من الذين لا يقضون بالحق ولا هم به يعدلون ، ترمد أعينهم من تصويب أبصارهم إلى أعمال من لا يرغبون ، وتنصرف نواظرهم عند وقوعها على فعل من لا يرهبون ، لا يدرون ولا يدرون أنهم لا يدرون ، ولا يأملون في دراية ما يجهلون ، هم الذين يعلمون الحق فيحكمون بخلافه ، ممن قضى الله عليهم أن يسلكوا مسلك الجهل والمعاندة ، ميزان التقييم عندهم : إن لم تكن معي فأنت ضدي ، ومبادئ إقامة القسط لديهم : التبعية والقربى ، والاعتبار منهم ليس إلا لدواعي الهوى والنفس والشيطان . أعاذ الله من هذه الثلاثة العباد ، وأراح الله من أهلها البلاد .

قال جل من قائلٍ سبحانه :

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )) .

فالأمر في هذه الآية الكريمة لعموم المؤمنين : بالقيام بالقسط وبالشهادة لله على كل حال ، والنهي فيها لهم عن : اتباع الهوى ، وهذه الثلاثة هي متطلبات تحقيق العدل ، وهي مرتكزات منهجية التقييم العادل .



ولتطبيق ذلك في سبيل تطوير العمل القضائي يلزم اتباع المنهج الآتي :-

أولاً/ إعادة النظر في كوادر التدقيق في محاكم التمييز ( الاستئناف ) فما فوقها ؛ بالإبقاء فيها على المؤهلين لنقد وتمحيص الأحكام ، وسبر وتقييم الحكام ( القضاة ) ؛ فبهم تتطور الأعمال ، وتتبدل الأحوال ؛ لوثيق صلاتهم بقضاة المحاكم فيما يُعرض عليهم من القضايا .



ثانياً/ انتقاء المبرزين من القضاة - في نظر القضايا وطرق الاستدلال - للعمل في التفتيش القضائي ؛ سواءٌ : الدوريّ منه ، أو الدائم ؛ فهم الذين يستفيد منهم القضاة الخاضعون للتفتيش ، ويتطور بهم العمل القضائي ، ويمكن التعويل عليهم في واحدة من عمليات التقييم المطلوب ، بعد إعادة صياغة لائحة التفتيش القضائي بما يتلاءم مع الأنظمة الطارئة .



ثالثاً/ ترسيخ ثقافة النصح والتقويم لدى جهتي التفتيش والتدقيق ، واطِّراح طرق الاستدراج والمخادعة عند التفتيش أو التحقيق أو التدقيق ؛ فتطوير العمل القضائي لا يتحقق بالتقييم عبر ثقافات تصيد الأخطاء وتضخيم السقطات والنفخ في الأغلاط ، ولا يمكن للتقييم أن يكون مطابقاً للحال مع اعتقاد السوء أو افتراض الأسوأ ، أو الاعتبار الآثم في : أنَّ الأصل في القاضي التهمة حتى تثبت براءته ؛ كما يقول به من لا خلاق له .



وليعلم المدققون : أن لا وجود لتقييمٍ ولا تقويمٍ مع نقدٍ فيه تصريحٌ أو تلميحٌ بتسفيهٍ أو تجريح ، وأنه لابد أن تتضمن قرارات التدقيق والتحقيق الإشادة بالجوانب الإيجابية ، والإفادة بجوانب القصور ، وأن تشتمل على تعليلات الملحوظات ، وأدلة الاستدراكات ، وما ينبغي للقاضي أن يفعله تجاه ذلك ؛ ليستفيد منه في حاضره ومستقبله ، ويفيد به غيره ممن يتباحث أو يتدارس معه أو يستشيره في مثل ما حصل له ، فيتعدى التوجيه والإرشاد بقرارٍ واحد إلى أكثر من مستفيد ، وينعم به أصحاب القضايا ، وينضبط به العمل شيئاً فشيئاً .



رابعاً/ تدوير الإشراف الإداري على المحاكم وعلى الدوائر القضائية بين أعضائها من القضاة المؤهلين ؛ كما هو حال عمادات الكليات ورئاسات الأقسام فيها ؛ لتجديد الأفكار وطرق الإدارة ، مع ما في ذلك من التدريب على الإدارة واكتشاف المواهب الإدارية ، علاوةً على أنَّ تطوير العمل القضائي المتحقق بتقييمٍ معتمدٍ على الجهد الفردي – أياً كان مستواه - لا يرقى إلى التطوير الناتج عن تقييمٍ بجهدٍ جماعيٍ أو متنوِّع ؛ فالتقييم القطبيُّ لا ينضبط ، ولا يصلح في كل زمان ، ولا يتطور به العمل بالوجه المطلوب .



خامساً/ توحيد أساليب المراقبة ، وتحديد مسارب التدقيق ، وتوزيع علامات التقييم ؛ لتقريب هوة الخلافات ، وتضييق شقة الاختلافات ، ولأنَّ تقارب درجات التقييم ، وتماثل مواضع التمحيص مدعاة لتقبل الملحوظات ، وسرعة استدراك الأخطاء ؛ الذي ينتج على إثرهما دفع عجلة التطور والتنمية المنشودة ، وتحريك آليات الترقية لأساليب الأداء المطلوبة .



سادساً/ إخضاع جميع التقييمات لطلب التدقيق والمراجعة ؛ لأنَّ استشعار المسؤول أنَّ قراره قطعيٌ وتقييمه نهائي لن يجعله في منأىً عن الحيف والجور في الحكم ؛ وما لم يعلم الناقد أنَّ قراره عرضةٌ للاعتراض والمناقشة فلن يكون متأنياً في تدقيقه ، متوقياً في تحقيقه ، متثبتاً في حكمه .



إنَّ أهداف التقييم من تطوير العمل القضائي المطلوب لن تتحقق بغير هذه الأمور التي يمكن اعتبارها منهجاً أولياً للتقييم الفاعل في عملية التطوير القضائي . والله الموفق | عدد القراء : 4532 | تأريخ النشر : الثلاثاء 27 ذو الحجة 1427هـ الموافق 16 يناير 2007م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=59
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع