العدل أساس الأساسات

قضائيات اتَّفَقَ حُكَمَاءُ العَرَبِ والعَجَمِ على أنَّ : المُلْكَ بِنَاءٌ ، وأنَّ لِكُلِّ بِنَاءٍ أساساً ؛ وهو : السُّلطان ، فإذا قَوِيَ الأساسُ دام البِنَاءُ ، وإذا ضَعُفَ الأساسُ انهار البِنَاءُ . ولأنَّه لابُدَّ في المُلْكِ مِن سُلطانٍ ، فلابُدَّ للسُّلطانِ مِن أعوانٍ ، ولابُدَّ للأعوانِ مِن مالٍ ، ولابُدَّ للمالِ مِن مواردٍ ، ولابُدَّ للمواردِ مِن عِمَارَةٍ ، ولا عِمَارَةَ إلا بِعَدْلٍ ؛ ومن ذلك : صار العَدْلُ أساساً لسائرِ الأساسات .



والمُلْكُ كالحِصنِ الذي به ثُغُورٌ ، وأعوانُ المَلِكِ على هذه الثغورِ حُرَّاسٌ ، فمن عَدَلَ منهم قام بما عليه ، وحَفِظَ ما وُكِلَ إليه ، ومن ظَلَمَ فَرَّطَ بأمانته ، وعَجَّلَ بزوال دَوْلَتِهِ .



والعَدْلُ يُتَصَوَّرُ من السُّلطانِ في نَفْسِهِ ، لكنَّه قد يَتَخَلَّفُ مِن بعضِ أعوانِهِ ؛ فيكون ذلك منسوباً إليه ، فكُلُّ خيرٍ مِن أعوانِ السُّلطانِ فَضْلُهُ له ، وكُلُّ شرٍ مِنهم عَيْبُهُ عليه ؛ كما تقولُ العربُ : بَنَى الأميرُ القصرَ ، وَضَرَبَ الحاكمُ عَمْرَاً . والحاكم لم يَبْنِ ولم يَضْرِبْ ، وإنما الذي ضَرَبَ وَبَنَى هم أعوانُه .



ولذلك : فإنَّ على السُّلطانِ : أن يَتَفَقَّدَ أداءَ نُوَّابِهِ وطَرَيقَتَهُم في سياسةِ مصالحِ دَولَتِهِ ، وأن يَحرِصَ على معرفةِ قِيَامِ أعوانِهِ بالعَدْلِ فيما وَلاَّهُم فيه ؛ أكثرَ مِمَّا يَحرِصُ على أداءِ نوافلِ العبادة .



وعليه : أن يسمعَ لِمَن لديه شِكَايةٌ أو مَظْلَمَةٌ في حقِّ نائبِهِ أو وزيرِهِ وَنَحْوِهِمَا ؛ فذلك أساسُ حُكمِهِ في الدنيا ، وسَبَبُ نَجَاتِهِ ورِفعَتِهِ في الآخرة .



ولا يُشترطُ في العادِلِ أن يكونَ مؤمناً كاملَ الإيمان حتى تقومَ وِلايَتُهُ ، بل العَدْلُ هو أساسُ المُلْكِ ، وهو نظامُ كُلِّ شيءٍ ، فإذا أُقيمَ أمرُ الدنيا بِعَدْلٍ قامت ؛ وإن لم يكن لِصَاحِبِهَا في الآخرةِ مِن خَلاقٍ ، ومتى لم تُقَمْ بعدلٍ لم تَقُمْ ؛ وإن كان لِصَاحِبِهَا مِن الإيمانِ ما يُجْزَى به في الآخرة ، بل إنَّ الباغيَ يُصرَعُ في الدنيا بِبَغْيِهِ ؛ وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة حُكْمَاً .



وعلى الحاكمِ أن يعلمَ :

أنَّ الدنيا تدومُ مع العَدْلِ ؛ ولو مِن فَاسِقٍ أو كَافِرٍ ، ولا تدومُ مع الظلمِ ؛ ولو مِن مُسْلِمٍ ، وأنَّ الله يَنْصُرُ الدولةَ العَادِلَةَ ؛ وإن كانت كافرةً ، ولا يَنْصُرُ الدولةَ الظالمةَ ؛ وإن كانت مؤمنةً ،

وأنَّ الناسَ يَرضَونَ بالعَدْلِ حتى في المكروهات ؛ إذا عَمَّت الجميعَ بلا تمييزٍ ، ولا يرضون بالظلمِ والجورِ ؛ ولو في العطايا والهباتِ ؛ وفي المثل : ظُلمٌ بالسَوِيَّة عَدْلٌ في الرَّعِيَّة .



ولا ينبغي لحاكمٍ أن يُقِرَّ ظالماً على ما هو فيه أيَّاً كان اعتبارُهُ ؛ فَضَرَرُهُ على الدولةِ أشدُّ من ضررِ الخارجِ عليها بسلاحٍ ، وعِلاجُهُ عَزْلُهُ .

ولِيَعْلَمَ كلُّ ذي وِلايَةٍ : أنه مسؤولٌ عَمَّن تحت يَدِهِ ؛ فكما أنهم إذا عَدَلُوا فهو الذي عَدَلَ ؛ فكذلك : إن ظَلَمُوا فهو الذي قد ظَلَمَ ، ولا يرفعُ عنه الاتِّصَافَ بتلك الصِّفَةِ إلا تغييرُ ما فعلوا ، وتبديلُ ما صنعوا ؛ فإنَّ من عَزَلَ ظالماً لِظُلْمِهِ فقد عَدَلَ ، كما أنَّ من أزاح عادلاً لِعَدْلِهِ فقد ظَلَمَ .



ومن قامَ بالعدلِ والحقِّ - من أهل الولايات - مَلَكَ سَرَائِرَ رعاياه ، ومن قام فيهم بالجورِ والقهرِ لم يَمْلِك إلا الأجسادَ ، ولم يَرَ إلا المُتَصَنِّعَ ، والقلوبُ عليه مختلفةٌ ؛ فإنَّ السرائرَ تَطْلُبُ مَنْ يَملِكُهَا بالإحسان . وقد أُثِرَ عن نَبِيِّ اللهِ سليمانَ عليه السلام قَولُهُ (( لا يَحْفَظُ المُلكَ مِثلُ العَدْلِ والرَّحمةِ )) .



وأشدُّ أنواعِ الظلمِ ما يَصدُرُ مِمَّن وُكِلَ إليه العدلُ بين الناسِ ، فمن حَرَمَ مُستَحِقَّاً ليُعطيَ ذا قرابته فقد جَارَ ، ومن مَنَعَ عَامِلاً حقَّه في وقته فقد بَغَى ، ومن مَطَلَ صاحبَ حَاجَةٍ إنفاذَ ما يَسْتَحِقُّهُ فقد ظَلَمَ ، ومن قَطَعَ أسبابَ الرزقِ عن أحدٍ فقد طَغَى ، ومن اجتمعت فيه تلك الصفاتُ فقد تَجَبَّر .



وقديماً قيل : شَرُّ الناسِ من ظَلَمَ الناسَ لِنَفسِهِ ، فكيف بمن ظَلَمَ الناسَ للناس !!!.



ولا شكَّ أنَّ كُلَّ هذه الهَنَاتِ مُتَصَوَّرَةٌ من كُلِّ ذي وِلايَةٍ ؛ غير أنها تُغتَفَرُ إذا قَلَّت ، وكان الفاعلُ مُحسِنَاً في غالبِ أمرِه ، بِخِلاَفِ ما لو زادت تلكَ النَّقَائِصُ ، أو كان الفاعلً مُسِيئَاً في غَالِبِ أحوالِهِ ؛ كاَلماءِ إذا وقعت فيه نجاسةٌ قليلةٌ - وكان الماءُ قد بَلَغَ القُلَّتَينِ - فإنها تُحتَمَل .



غير أنَّ الأمرَ يختلفُ إن زادت النجاسةُ فَغَيَّرَت أوصافَ الماءِ ؛ رِيحُهُ أو لَونُهُ أو طَعمُهُ ، كما يختلفُ الأمرُ إذا كان الماءُ المُتَنَجِِّسُ قليلاً راكداً . نَعُوذُ باللهِ مِن الرَّانِ وزيغِ القلوبِ .



فَلْنَعْقِلُ هذه المواعظَ والتَّجَارِبَ والحِكَمَ السَّالِفَةَ المنقولةَ عن أهلِ العِلمِ والرَّأيِ والمشورةِ ؟.



ومِسْكُ الخِتَام تعطيرٌ وتذكيرٌ بوعدٍ من خادمِ الحرمينِ الشريفينِ الملكِ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ العزيز ِآلِ سعودٍ حيث قال حَرَسَهُ اللهُ :-

(( سَنَبْذُلُ كُلَّ مَا يُمْكِنُ بَذلُهُ مِنْ أَجْلِ إِصْلاَحِ حِالِ الأُمَّةِ وَتَحْقِيْقِِ وَحْدَتِهَا إِنْ شَاءَ الله )) .

فهل نسمعُ ؟ ، ونطيعُ ؟ ، ونكونُ عوناً لولاةِ الأمرِ فيما يَرمُونَ إليه ، ويُنَادُونَ به ، ويُشَدِّدُونَ عليه ، ويأملون من وُلاتِهِم الإعانةَ على تحقيقَه ؟ ، أَمْ نَبْقَى أُسَارَى لِتَرَاكُمَاتِ الثقافةِ الغَابِرَة والنَّرجِسِيَّةِ المُكَابِرَة والسَادِيَّة الدَابِرَة ؟. | عدد القراء : 4657 | تأريخ النشر : الأربعاء 20 شعبان 1427هـ الموافق 13 سبتمبر 2006م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=69
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع