الدولة المدنية

عام تنقسم الدول من حيث النوع إلى دولة عسكرية ودولة مدنية ، ومن حيث الاستمداد إلى شرعية ومدنية ، ومن حيث الارتكاز إلى ملكية وجمهورية ، ومن حيث التبعية إلى مستقلة ومستعمرة وهكذا .



فالاختلاف يكون بحسب موضوعه ، ويتنوع بحسب الثقافات عبر العالم .



ومثل هذا الأمر يبحث قديماً ضمن مباحث علم الاجتماع ، وأما حديثاً فيبحث ضمن مباحث علم السياسة ، وكلا العلمين يخضعان لمدارس متعددة في تفسير مصطلحات كلٍ من العلمين وتحديد هوياتها .



فلم يستقر بعد تعريف محدد للدولة مجمع عليه لدى جميع الأمم ، بل إن التعاريف تخضع للظروف الراهنة وقت التأليف ، فهذا الدكتور محمد عمارة يجعل الدولة المدنية مقابل العسكرية ، ومن نقل عنهم الشيخ البريك جعلوها في مقابل الدولة الدينية .



وأظن ذلك تقليداً من هؤلاء للأوروبيين الذين بدأوا العصر الذي أسموه ( عصر النهضة ) بالانتفاضة على هيمنة الكنيسة ووصاية القساوسة والكهنة والباباوات في العصور الوسطى ، وتمردوا على الكنيسة ليحصروا سلطتها في صلوات وتراتيل الأحد ، وفي تعميدات المواليد والمتنصرين الجدد ، وفي إحياء مراسم الجنائز ، ومنح صكوك الغفران ، وتوثيق الزواج بين النصارى .



أما نحن المسلمون فلا نقول عن شيءٍ أنه ( حكم الله ورسوله ) ، وكذلك : لا نقول عن شيء أنه ( دين الله ) ما لم يكن منصوصاً عليه في الكتاب والسنة وأجمع عليه أهل العلم .



وما سوى ذلك فهو اجتهاد منسوب لحاكمه قد يصيب حكم الله فيه وقد يخطيء ، والدليل ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن بريدة بن الحسيب رضي الله عنه وفيه (( ... وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا )) .



والدولة الدينية الحقة هي الدولة التي يكون على رأسها نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو شهد لها نبي كما شهد المصطفى عليه الصلاة والسلام للخلافة الراشدة في عهد أبي بكر الصديق وعهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما .



أما من سوى ذلك ممن يستند في حكمه على أدلة الشرع الأربعة عشر مجتمعة فيمكن أن يطلق عليه الدولة الإسلامية أو الشرعية بمعنى القائمة على حكم الشريعة ؛ إذ لا يمكن الجزم بأنه سيصيب حكم الله في جميع أموره فكلنا يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا المعصومين من الأنبياء والرسل عليهم الصلوات والسلام .



وتحديد شيءٍ أنه من الدين مشروط بإذن الله جل جلاله ؛ كما قال تعالى ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) .

أما الشرع فأعم من ذلك ؛ لكونه يشمل مع الكتاب والسنة أموراً مبناها على النظر في الدلالات والمآلات والغايات ، والإصابة فيها بحسب الناظر فيها وبحسب الزمان والمكان ؛ كما هو مقرر في كتب أهل العلم .



ومسمى الدولة الشرعية اليوم قد لا يكون مقبولاً ؛ لأنه يأتي في مقابلة الدولة غير الشرعية ؛ مثل الدول الاستعمارية ، ومثل الاحتلال الأجنبي لبلدٍ ما لاستنزاف مقدراته أو العبث بمقدساته ونحو ذلك .



كما أن تسمية الدولة بالإسلامية غير لازم ؛ إذ يكفي عن ذلك النص في الدستور على نظام الحكم واستمداداته ومرجعية التشريع فيه دون الحاجة إلى التوصيف الذي لم يكن في عهد الخلفاء الراشدين ولا في دول الإسلام في القرون المفضلة .

وبهذا جاء النظام الأساس للحكم في المملكة العربية السعودية .



من ذلك كله : لا يمكن القطع بتفسيرٍ حاسمٍ للدولة المدنية إلا من منظور واحد من بين العديد من النظريات ، والقول الواحد لا يلزم إلا قائله ومن نحا نحوه ، وعلى من يدعو إلى شيء مما تختلف فيه المفاهيم أن يحدد مقصوده بما يدعو إليه ؛ لتكون دعوته مقيدة بتفسيره . والله أعلم . | عدد القراء : 4597 | تأريخ النشر : الثلاثاء 18 ربيع الثاني 1427هـ الموافق 16 مايو 2006م
طبعت هذه المقالة من ( مركز الدراسات القضائية التخصصي - قضاء )
على الرابط التالي
http://www.cojss.net/article.php?a=83
+ تكبير الخط | + تصغير الخط
اطبع