كتابة تعليق على مقالة :: شعرة القلب
ما بجانبه * مطلوب

نص التعليق
1sm.gif  2sm.gif  3sm.gif  4sm.gif  icon_arrow.gif  

بقية الصور

تعطيل الابتسامات
نص المقالة كنا ونحن صغار نسمع من كثير من الأمهات تعبيراً عن شفقتهن بأولادهن ذكوراً وإناثاً بأنَّ الواحد منهم شعرةُ قلب أمه، ولم نكن نعلم عن هذا التعبير: أحقيقةٌ هو أم مجاز؛ غير أنَّ هذا المصطلح يستخدمه النساء فقط دون الرجال ؛ لأنَّ الرجل قد لا يحسن التعبير عن الشفقة والحنان والحب تجاه أولاده في الزمن الماضي، وإذا أحسن ذلك فإخفاؤه عن أمثاله من الذكور مطلبٌ من مستلزمات الرجولة والفحولة آنذاك، ولو أنَّ رجلاً خرج عن هذا المسار التقليدي فسيكون نادراً؛ والنادر لا حكم له.

= وبعد انتشار التعليم بين أفراد المجتمع السعودي انحسر التعبير - لدى المرأة - بهذا المصطلح، حتى لا تكاد تسمعه إلا من الجدات والنساء الأميات، أو من قليلات الحظ من التعليم النظامي الذي أفرز تعبيراتٍ حديثةً بدلاً عن هذا التعبير مجهول المنبع.

= وإذا تذكرنا مضامين مقررات الصحة والعلوم والأحياء نجد أنَّ ما قرأناه عن القلب، وما شاهدناه من صوره فيها أو في شاشات التلفاز لا يعدو عن كونه قطعةً من اللحم مجوفةً، معلقةً في أعلى الصدر ناحية اليسار، يخرج من أعلاه وريدان وشريانان، وليس محلاً لإنبات الشعر.

= وبعد دخولنا مجال العمل الحكومي صرنا نسمع ذكر هذا المصطلح بين من يُسَمَّون بـ (المتَسَبِّبِين) من الرجال، وهم الباعة في الأسواق، أو أصحاب المؤسسات التجارية الصغيرة من قليلي الحظ في التعليم أيضاً؛ لكن هؤلاء المتاجرين لا يعنون به أياً من أولادهم، بل يعنون به: المال الذي يسعون لتحصيله صباح مساء، فصار لدينا معنيان لـ (شعرة القلب)؛ الأول أنثوي، والثاني ذكوري، وكلاهما تقليديان.

= وعندما أمضينا في العمل الحكومي ثلاثة عقودٍ نُمِىَ إلى علمنا أنَّ هناك معنىً آخر لم نكن نعلمه عن (شعرة القلب)، ألا وهو: الوظيفة. فقد نقل لنا أحد زملائنا: أنَّ نقاشاً حاداً حصل بينه وبين المسؤول الأول في قطاعه بشأن إلحاح الزميل على استجابة طلبه النقل، فقال له ذاك المسؤول: يا هذا! إنَّ الوظيفةَ شعرةُ القلب، فلا تدعني أنتفها.

عند هذا الحد تَبَيَّنَ لنا ثلاثة معانٍ لعنوان مقالتنا اليوم، ولن نتعرض للمعنيين التقليديين الأوَّلين، بل يهمنا في المقام الأول أنَّ التعبيرَ بهذا المصطلح دارجٌ بين قدماء المسؤولين، وأنهم وَظَّفُوا التعبير بهذا المصطلح في مجالٍ يتناسب مع نظرتهم للحياة وأسلوب تعاملهم مع منسوبيهم، فعملوا على تعديته إلى معنىً يتواءم مع تلك النزعات الاستئثارية والأساليب التهديدية والتعبيرات الوعيدية.

ويظهر من استعمال ذلك المسؤول لهذا الرمز أنَّ شعرة القلب - عنده - واحدة، وأنها لا تنبت إلا مرةً واحدة في العمر، فمن نُتِفَت شعرةُ قلبه فسيبقى قلبه بدون شعرة، إذ لو كانت تنبت بعد ذلك لما كان للتهديد بنتفها معنى، ولست أدري: إن كان يعتقد أنَّ سائر الناس من غير الموظفين لا يحملون شعرةً في قلوبهم، أو أنهم من المعاقين في نظره إن كانوا ممن فقدوا شعرات قلوبهم، أو ممن لا تُنبِتُ قلوبهم شعراتٍ أصلاً، أو أنهم من (مُردَانِ القلوب)، الذين يسمى الواحد منهم بـ (الكوسج) فيما نقل إلى اللغة العربية من الفارسية.

= كم تمنيت لو أنَّ علاقة صاحبي برئيسه كانت حسنةً حتى يسأله: إن كان هناك فرقٌ بين شعر القلب الخاص بالأولاد والخاص بالمال وبين الخاص بالوظيفة؟، وهل الفرق في طول الشعرة، أو في لونها، أو في مكان إنباتها؟.

لعلك أخي القارئ تريد: معرفة ما وراء هذه المقدمة؟، إنَّ وراءها - ولاشك - نقدٌ لبعض ممارسات المسؤولين تجاه مرؤوسيهم، فمثل الكلام - الذي قيل لصاحبنا - لا يمكن أن يصدر إلا عن شخصٍ وَعَدَ آخر بهبةٍ، ثم رأى منه ما دعاه إلى تهديده بعدم إنفاذ ما وعده به، وهذا الفعل - وإن كان عند العرب من خوارم المروءة - إلا أنه جائزٌ حكماً لدى جمهور العلماء؛ عدا السادة فقهاء المالكية الذين يذهبون إلى: لزوم الوفاء بالوعد، وأنَّ للموهوب مطالبة الواهب بتسليم الهبة قضاءً، ويُحكم له بها عندهم. رحم الله الجميع وكتبهم في عليين.

ولا يجوز لمسؤول أن يقول هذا الكلام ولا نحواً منه لأيٍ من مرؤوسيه؛ لأنَّ علاقة العامل والموظف برئيسه في العمل لم تترك - في العرف الدولي - سبهللاً بلا شروطٍ ولا حدود، وإلا لكانت الأمور إلى ما يُسَمَّى بقانون الغاب أقرب، ولنستعرض معاً بعضاً من أنظمة وقوانين دولتنا المباركة مرتبة ترتيباً تصاعدياً على النحو التالي:-
1/ نظام العمل والعمال: جاء في المادة (75) منه ما نصه (للعامِل الذي يُفصَلُ من العمل بغير سببٍ مشروع، أنَّ يطلُب وقف تنفيذ هذا الفصل، ويُقدِّم الطلب إلى مُدير مكتب العمل الذي يقع في منطِقة محل عملِه خِلال مُدةٍ لا تتجاوز خمسة عشر يوماً من تاريخ تسليم صاحِب العمل للعامِل قرار فصلِه).
وبعد تفصيل إجراءات الدعوى جاء ما نصه (ويجوز لِلَّجنة إذا رأت أنَّ فصلَ العامِل كان بغير سببٍ مشروع، أن تحكُم بإعادتِه إلى عملِه مع دفع أجورِه المُتأخِرة أو بدفع حقوقِه النِظامية وما يستحِقُه من تعويضٍ عمَّا لحِقهُ من أضرار، ويقع على صاحِب العمل عبء إثبات أنَّ الفصل تم بسبَّب مشروع) انتهى المقصود من المادة.

2/ نظام الخدمة المدنية: جاء في تعليمات وزارة الخدمة المدنية أنَّ المخالفة التأديبية: تعني إخلال الموظف بواجبات وظيفته، بحيث يكون عرضةً لتوقيع الجزاء التأديبي عليه، ونظراً لما يترتب على توقيع الجزاء من آثارٍ على حياة الموظف الوظيفية المعنوية والمادية، فإنَّ العديد من الأنظمة قد أحاطت توقيع الجزاءات التأديبية ببعض الضوابط التي يتعين على السلطة المختصة بالتأديب مراعاتها، وإلا أصبح قرارها معيباً جائز الطعن عليه أمام القضاء الإداري، بل أشارت التعليمات إلى أنَّ الوزير المختص ومن في حكمه لا يمكنه توقيع عقوبة الفصل بقرارٍ منشئٍ، وإنما ينعقد الاختصاص في ذلك إلى ديوان المظالم باعتبارها جهةً قضائيةً مستقلةً تتمتع بالحيدة، أو بأمرٍ ملكيٍ، أو بأمرٍ سامٍ، أو بقرارٍ من مجلس الوزراء. وأنَّ العقوباتِ التأديبيةَ مُحَدَّدَةٌ على سبيل الحصر، ولا تملك الجهة الإدارية الخروج عنها بتوقيع جزاءٍ غير منصوصٍ عليه، وإلا اعتبر تصرفها باطلاً وحرياً بالإلغاء؛ لمخالفته النظام.

= ومما جاء في التعليمات في حال لم تراع السلطةُ الإداريةُ الضوابطَ المنصوصَ عليها في نظام الخدمة المدنية عند توقيع الجزاء التأديبي، فإنه يحق للموظف أن يطعن عليه وفقاً للإجراءات التالية:
أ/ على الموظف أن يتظلم من القرار التأديبي أمام الجهة الإدارية التي أصدرته خلال (60) يوماً من تاريخ العلم به، وعلى الجهة الإدارية أن تبت في التظلم خلال (90) يوماً من تاريخ تقديم التظلم.
ب/ إذا أصدرت الجهة الإدارية قرارها خلال الميعاد المذكور بالرفض أو سكتت حتى انقضت مدة التسعين يوماً فللموظف التظلم إلى وزارة الخدمة المدنية خلال (60) يوماً من تاريخ العلم بالقرار الذي أصدرته الجهة الإدارية برفض التظلم، أو من تاريخ انقضاء مدة التسعين يوماً المحددة للإدارة دون البت فيه، وعلى وزارة الخدمة المدنية أن تبت في التظلم خلال (60) يوماً من تاريخ تقديمه لها.
ج/ إذا صدر قرار من وزارة الخدمة المدنية لصالح الموظف المتظلم، ولم تقم الجهة الإدارية بتنفيذه خلال (30) يوماً من تاريخ إبلاغه جاز له رفع الدعوى إلى ديوان المظالم خلال الستين يوماً التالية لهذه المدة، وإذا رفضت الوزارة التظلم، أو لم تبت فيه فمن حق الموظف رفع دعواه إلى ديوان المظالم خلال (90) يوماً من تاريخ العلم بقرار رفض التظلم، أو من تاريخ انقضاء مدة الستين يوماً المحددة لوزارة الخدمة المدنية.

3/ نظام القضاء: جاء في المادة (2) ما نصه (القضاة غير قابلين للعزل إلا في الحالات المبينة في هذا النظام)، ثم في الفصل الخامس من الباب الرابع من النظام جاء بيان الحالات المذكورة في إحدى عشرة مادة.

4/ نظام محاكمة الوزراء: جاء في المادة (15) ما نصه (تتولى مُحاكمة الوزراء أو من في مرتبتِهم وِفقاً لهذا النِظام، هيئةٌ تُشكَّل من ثلاثة وزراء يختارُهم مجلِس الوزراء بطريق (القرعة)، وعضوين شرعيين برُتبة رئيس محكمة كُبرى على الأقل. ولا يكون من بينِهم من يَمُتُّ للمُتهم بالقرابة، ويكون أكبر الوزراء سِناً هو رئيس هيئة المحاكمة).
وجاءت المادة (5) من النظام لتعتبر أنَّ (تَعَمُّدَ مُخالفة النُّظم واللوائح والأوامر التي يترتب عليها ضياع حقوق الدولة المالية، أو حقوق الأفراد الثابتِة شرعاً أو نِظاماً)؛ كل هذا من الجرائم التي يعاقب عليها مرتكبها بالسِّجن لمُدةٍ لا تقِل عن ثلاث سنوات ولا تزيد عن عشر سنوات، إضافةً إلى عزله من منصبه وحرمانه من الوظائف العامة ونحوها بحسب المادة(6) من النظام.

من كل ما مرَّ بنا نقطع يقيناً: أنَّ أمور الدولة محكومةٌ بنظمٍ وتعليماتٍ، وليست متروكةً لهوى المسؤول ونزعات الرئيس وشطحات المدير.

ولله در الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال لأصحابه ذات يومٍ (أرأيتُم إذا استعملت عليكُم خيرَ من أعلم، ثم أمرتُه بالعدل، أَكُنتُ قَضَيتُ مَا عَلَيَّ؟. قالوا: نعم. فقال لهم: لا، حتى أنظُر عمله أَعَمِلَ بما أمرتُه، أم لا).

وبهذا أخذت حكومتنا الرشيدة مثلها مثل سائر الحكومات المتقدمة في نظمها وتعليماتها، وكم سمعنا من أخبارٍ مشرفةٍ تُصدرها الدوائر الإدارية في ديوان المظالم تتضمن إبطال القرارات التعسفية وتعويض المتضررين عما لحقهم من أضرارٍ ماديةٍ ومعنوية من جرائها.

وحكومة خادم الحرمين الشريفين وفقه الله ملتزمةٌ إنفاذ تلك القرارات ضد مسؤوليها؛ بحيث لا خوف على شعرة القلب من النتف التعسفي؛ هذا إن وجدت. والله أعلم
-
-
-
-
-
-