ابن دقيق العيد وما أدراك ما ابنُ دقيق العيد، الإمامُ المجتهد، مجدِّدُ الدِّين على رأس المائة السابعة، أبو الفتح تقي الدين محمد بن علي بن وهب بن مطيع(المتوفى سنة702هـ) المعروف كأبيه وجدِّه بابن دقيق العيد..
يقول فيه علاّمة الجزائر سيدي عبد الرحمن الثعالبي في خلاصة الفهرسة المسماة بـ "غنيمة الوافد وبغية الطالب الـماجد"(ق5/ب):
((كان ابنُ دقيق العيد -رحمه الله تعالى- إنسانَ عَيْنِ الزمان في العلم والعمل، تباهتْ العلماءُ بلقائه، وشَهِدَتْ النبلاءُ بفَضْلِ ذكائه، إنْ نَطَقَ فالصوابُ يبدو مِن خِطَابِه، وإنْ كَتَبِ فالسحرُ الحَلاَلُ في كِتَابِه. ومِن بَعْضِ رَسَائِلِه لنوّابه يقول: ((ما أنا وأنتم أيها النفر إلا كما قال حبيبٌ العجمي -وقد قال له قائل: لَيْتَنا لَمْ نُخْلقَ-، فقال: قد وَقَعْتُم فاحتالوا)).
ومن توفيق الله تبارك وتعالى أنْ يسّر لنا الوقوف على النصّ الكامل لهذه الرسالة المشارِ إليها في كلام الثعالبي، وهي ضمن دشت بالمكتبة الـــوطنية الجزائرية –حرسها الله-تحت رقم(2632).
وقد سبق لنص هذه الرسالة أن نُشر اعتمادًا على نُسخةٍ أخرى محفوظةٍ أيضا بالمكتبة الوطنية، وصدرت ضمن مجموعٍ للرسائل التراثيـة بتحقيق! د.جمال عزّونوعَنْوَنها بـ "نصيحة ابن دقيق العيد لأحد نوّابه في القضاء".
لكن لنا عليه جملةُ مؤاخذات:
1-لم يُشِرْ إلى رقم المخطوطة التي اعتمدها، حتى نتمكن من الرجوع إلى صورة الأصل لإعادة قراءة الكلمات التي لم يُوفّق لقراءتها قراءةً سليمة.
2-اختارَ على عادته ما يخالف النص، فأفسد فيه. ومن رام أن يتبيَّن فعليه بإجراءِ مقابلةٍ فاحصةٍ، بين نشرته وهذه النشرة.
3-اعتمد نسخةً أوّلها : ((ومن لطائفه ما كتب إلى نائبه بإخميم ..))، وصرّح ناسخُها في آخرها بأنه انتهى من نقلها((مع بعض إصلاح فيما أمكن))؛ أي بتصرف، خلافًا لنُسختنا هذه التي وَرَدَ فيها عبارة((..بما صورته)). لهذا لم أستحسن إيرادَ الفوارق الواقعة بين النصّين، لسيما مع تعذر الوصول إلى الأصلِ الخطي لنَشْرة الدكتور الآن.
4-عدلنا عن التسمية التي وضعها المحققُ لها، إلى تسميتها بـ "رسالة شيخ الإسلام ابن دقيق العيد إلى نوّابه في القضاء" لأنها أصحّ وأوثق، للعبارة الواردة في أولها وهي: ((..وبمثله كَتَبَ إلى كل نائب)). ويُؤيِّدُه تنصيص سيدي عبد الرحمن الثعالبي المعروف بدقَّته وتحرِّيه في النَقْل وهو قوله: ((ومن بعض رسائله لنوّابه..)).
والله المستعان.



نصّ الرسالة

(( لمّا تولى شيخُ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد قضاءَ القضاة بالدِّيار المصرية كتب إلى نائبه ببعضِ البلاد بوصيَّةٍ، والكتابُ من إنشائه، بما صورتُه، وبمثله كَتَبَ إلى كلِّ نائب:

}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ{[التحريم آية6].
صَدَرتْ هذه المكاتبة إلى المجلس السامي، وفّقه الله ُلقَبول النصيحة، وآتاه لما هو به قَصْدًا صالحاً، ونيّة صحيحة.
أصدرنـاها إليه بعـد حـمد الله الذي }يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ{[غافرآية:19]، ويُمْهِل حتَّى يَلْتَبِس الإمهالُ بالإهمال على المَغْرور، تُذكِّره بأيـَّام الله } وَإِنَّ يَوْمـــًا عِندَ رَبِّكَ كـَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ{ [الحج آية:47]، وتُحَذِّرُه صَفْقَةَ مَن باع الآخرة بالدنيا، فما أحدٌ سواه مَغبون، عسى الُله أنْ يُرشدَه بهذا التِّذْكار ويَنْفَعَه، وتَأخذَ هذه النصائحُ بحُجْزَتِهِ عن النار، فإنِّي أخاف أن يتردَّى فيخِرَّ من وَلاّهُ -والعياذ بالله- معه.
والموجب لإصدارها ما تلمّحْنَاه من الغَفْلة المُسْتَحكمة على القلوب، ومن تقاعُد الهِمَم عن القيام بما يجب للرب على المربوب، ومن أُنْسِهم بهذه الدار وهم مُزْعَجون عنها، وعِلْمِهم بما بَيْن أيديهم من عَقبة كؤود وهم لا يتخففون منها، ولاسيما القضاة الذين يحملون أعباءَ الأمانة على كواهل ضعيفة، وظهروا بصُوَرٍ كبارٍ وهِمَمٍ نَحيفة.
ووالله إنّ الأمرَ لعظيم، و الخَطْبَ لجسيم، ولا أرى أنّ مع ذلك أَمْنًا ولا قرارًا ولا راحةً، اللّهم إلا رجلاً نبذ الآخرة وراءه، واتخذ إلهه هواه، وقَصر همّه وهمته على حظِّ نفسه ودنياه، فغايةُ مَطْلَبِه حبُّ الجاه، والرغبة في قلوب الناس، وتحسينُ الزّي والمَلبس والركبة والمجلس؛ غيرَ مستشعرٍ خِسَّةَ حاله، ولا ركاكةَ مَقْصَدِه، وهذا لا كـلامَ معه، }فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى{[الروم آية:52]، }وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُور{ِ [فاطر آية:22].
فاتــق الله }الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ{[الشعراء آية:218]، وأَقْصِرْ أَمَلَك عليه، فإنّ المحروم مِنْ فَضْلِه غيرُ مَرْحوم.
وما أنا وأنتم أيّها النّفَر إلا كما قال حبيبٌ العجمي -وقد قال له قائل: ليتنا لم نُخْلَق- فقال:
((قد وَقَعْتُمْ فاحتالوا)).
وإنْ خَفِيَ عليكَ بعضُ هذا الخَطَر، وشَغَلتْك الدنيا أنْ تَقْضي مِن معرفته الوَطَر، فتأمل كلام النبوّة: ((القضاةُ ثلاثة))؛ وقولَه r مُشفقا: ((لا تأمّرن على اثنين، ولا تليّن مالَ يتيم)).
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومَا أنَا والسَّيْرَ في مَتْلَفٍ
يُبَرِّحُ بالذَّكَرِ الضَّابِطِ

هيهات!جفّ القلمُ، ونَفَذَ أمرُ الله، ولا رادّ لما حكم.
إيْـه، ومن هنالك شمَّ الناسُ من فم الصدِّيق t رائحةَ الكَبِد المشوي .
وقـال الفاروق: ليت أمّ عمر لم تلده .
واستسلم عثمان، وقال: من أَغْمَدَ سيفَه فهو حُرّ .
وقال عليّ -والخزائنُ بين يَديه-: من يشتري منِّي سيفي هذا ؟ ولو وجدتُ ما أشتري به رداء ما بِعْتُه
وقطع الخوفُ نِيَاطَ قلبِ عمر بن عبد العزيز فمات من خشية العَرض
وعلّق بعضُ السلف في بيته سوطاً يؤدِّب نفسَه إذا فَتَر.
فترى ذلك سُدًى، أمْ وَضَحَ أنّا نحنُ المقرّبون وهمُ البُعَداء؟!
وهذه أحوالٌ لا تُؤخذ من كتاب السّلم والإجارة والجنايات، نعم! إنما تُنال بالخشوع، وبأن تظمأ أو تجوع وتحمي عينيْك الـهُجوع.
وممَّا يُعِينُكَ على الأمر الذي دعوتُ إليه، ويزوِّدُك في مسيرك إلى العرض عليه، أنْ تجعل لك وقتًا تَعْمُره بالفكر والتدبير، وأناءً تجعلُها معدة لجلاء قلبك، فإنَّه إن استحكم صَدَاه صَعُب تلافيه، وأعرض عنه من هو أعلم بما فيه.
واجعلْ أكثرَ همومك الاستعداد للمعاد، والتأهب لجواب الملك الجواد، فإنه يقول }فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ . عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ{[الحجر آية92-93].
ومهما وجدتَ من همَّتك قصورًا، واستشعرتَ من نفسك عمّا يذلِّلُها نفورًا، فاجأرْ إلى الله، وقِفْ ببابه واطلبْ منه، فإنه لا يُعرض عمّن صَدَق، ولا يَعْزُب عن علمه خفايا الضمائر }أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ{[الملك آية:14].
فهذه نصيحتي إليك، وحُجّتي بين يَدَي الله -إنْ فرّطتَ- عليك.
أسأل الله لي ولكَ قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا ونفسًا مطمئنةً، بمنِّه وكرمه [وخفي لطفه، والسلام].انتهى)).
جاء في آخر النسخة التي اعتمدها د.عزون تعليقٌ من الناسخ نصُّه: [واستمر الشيخ في القضاء إلى أن توفي في صفر سنة 702هـ].

خاتمة التحقيق
نسوق في الختام نصًّا له علاقة بموضوع هذه الرسالة، تناقله أصحابُ التواريخ عن الحافظ ابن سيد الناس -وكان خَصِيْصًا بالشيخ ابن دقيق العيد-، نُعْفِيه من التعليق وذلك بقصد أن يتأمَّله القارئ في ضوء هذه الموعظة البليغة لنوّابه في القضاء؛ وذلك ما جاء في "أجوبته لسؤالات الحافظ الدِّمياطي عن أحفظ من لقي من الحفّاظ في الحديث النبوي" (ص179) ،يقول في حق شيخه ابن دقيق : (( ..لكنّه وَلِي في آخر عمره خطّة القضاء، فآده حِفْظُ الخطّة، وقيَّد عن المباشرة نفسَه، وأطلق في الاسْتِنَابة خطَّه، فربما استأمن من لا ينوء بالأمانة حملُه، وربما حسّن ظنَّه بمن ساء فعلُه، فلو اقتصر على الفتيا والدرس، ولم يَلبس أعمالَه الصالحة بهذا اللَّبْس، والولاية التي كان أشرف منها في كلِّ نَفْس، لكان ثوريَ زمانه، وأوزاعِيَ أوانِه، والعبدُ لا يَنْتَفي من مَقدور، ولا يَقْتَفِي إلاَّ ما هو عليه في الكتاب مَسْطور)). رحم الله الجميع