اعلم أنه يجب على من تولى القضاء أن يعالج نفسه ويجتهد في صلاح حاله ، ويكون ذلك من أهم ما يجعله من باله فيحمل نفسه على أدب الشرع وحفظ المروءة وعلو الهمة ويتوقى ما يشينه في دينه ومروءته وعقله ، ويحطه عن منصبه وهمته فإنه أهل لأن ينظر إليه ويقتدى به ، وليس يسعه في ذلك ما يسع غيره ، فالعيون إليه مصروفة ونفوس الخاصة على الاقتداء بهديه موقوفة ،

ولا ينبغي له بعد الحصول في هذا المنصب سواء وصل إليه برغبة فيه وطرح نفسه عليه أو امتحن به وعرض عليه أن يزهد في طلب الحظ الأخلص والسنن الأصلح ، فربما حمله على ذلك استحقار نفسه لكونه ممن لا يستحق المنصب ، أو زهده في أهل عصره ويأسه من استصلاحهم واستبعاد ما يرجو من علاج أمرهم وأمره أيضا لما يراه من عموم الفساد وقلة الالتفات إلى الخير ، فإنه إن لم يسع في استصلاح أهل عصره فقد أسلم نفسه وألقى بيده إلى التهلكة ويئس من تدارك الله تعالى عباده بالرحمة ، فيلجئه ذلك إلى أنه يمشي على مشي أهل زمانه ولا يبالي بأي شيء وقع فيه لاعتقاده فساد الحال ، وهذا أشد من مصيبة القضاء وأدهى من كل ما يتوقع من البلاء ، فليأخذ نفسه بالمجاهدة ويسعى في اكتساب الخير ويطلبه ويستصلح الناس بالرهبة والرغبة ويشدد عليهم في الحق ، فإن الله تعالى بفضله يجعل له في ولايته وجميع أموره فرجا ومخرجا .

ولا يجعل حظه من الولاية المباهاة بالرئاسة وإنفاذ الأمور والالتذاذ بالمطاعم والملابس والمساكن ، فيكون ممن خوطب بقوله تعالى : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا }.

وليجتهد أن يكون جميل الهيئة ظاهر الأبهة وقور المشية والجلسة حسن النطق والصمت ، محترزا في كلامه من الفضول وما لا حاجة به ، كأنما يعد حروفه على نفسه عدا ، فإن كلامه محفوظ وزلله في ذلك ملحوظ ، وليقلل عند كلامه الإشارة بيده والالتفات بوجهه ، فإن ذلك من عمل المتكلفين وصنع غير المتأدبين ، وليكن ضحكه تبسما ونظره فراسة وتوسما وإطراقه تفهما ، ويكون أبدا مرتديا بردائه حسن الزي وليلبس ما يليق به فإن ذلك أهيب في حقه وأجمل في شكله وأدل على فضله وعقله ، وفي مخالفة ذلك نزول وتبذل ، وليلزم من الصمت الحسن والسكينة والوقار ما يحفظ به مروءته فتميل الهمم إليه ويكبر في نفوس الخصوم الجراءة عليه من غير تكبر يظهره ولا إعجاب يستشعره ، فكلاهما شين في الدين وعيب في أخلاق المؤمنين .