لفصل الرابع
مراحلُ تبليغ الدعوة
وحقائقُها
الفصل الرابع
مراحلُ تبليغ الدعوة، وحقائقُها
المرحلة الأولى: الإعداد والتمهيد.
المرحلة الثانية: ارتباط المجاهد بالحياة الزوجية، وحالة تأسيس مدارس التعليم.
المرحلة الثالثة: تنظيم وتطوير التعليم.
المرحلة الرابعة: تقرير أوصاف أسلوب الدعوة.
المرحلة الأولى:
الإعداد والتمهيد
هذه المرحلة بدأت باختيار المكان، فكانت قرية الذاري المنطلق الأول في هذه المرحلة من عمر دعوة إبراهيم – عليه رحمة الله –.
لقد أحكم خطة الإعداد باختيار الشباب من أسرته، ثم من خيرة أبناء المنطقة، مستقطباً لهم بالترغيب في العلم، والترهيب من الإعراض عنه، وتعظيم مكانة العلماء عند الله، وتحقير مكانة الجهلاء وسوء عاقبتهم عنده سبحانه.
ثـم بدأ معهم بغرس العقيدة (عقيدة التوحيد) وبيان أنواعها، ولازم كل نوع: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
كما أنه بدأ معهم بانتهاج سلوك تربوي خاص، حيث شبه تعامله معهم بتعامل زارع فسائل أشجار السيقان.
كما سلك في معاملتهم سلوك الفرَّان مع عجينة الخبز.
وكمعاملة مدارس الحضانة مع أطفالها.
ومن تعامله مع الشباب أنه كان يأتي الراعي في غنمه وفي بـهائمه هنا وهناك من أماكن الرعي؛ فيقف عنده ويحادثه، ثم يلقنه: " مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومَن نبيُّك؟ "، ثم يلقنه الإجابة: " ربِّيَ الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – "، أو بإجابة: " ربي الله الذي رباني بنعمه، وهو معبودي ليس لي معبود سواه ".
أو بسؤال: " أين الله "؟ ثم يلقنه الإجابة: " اللهُ في السماء، وهو ربي الذي رباني وربَّى جميع العالمين بنعَمه، وهو معبودي "..
وكل من أعدهم من الشباب وأوصلهم إلى التمهيد لم يكونوا بأقل من تحفيظهم الأصول الثلاثة بمضامينها ومشتملاتها، وتحفيظهم فقه العبادة في أبسط صورها.
وقد شمل هذا الإعداد معظم ناحية خيران من قضاء الشرفين؛ مثل قبيلة الحدادة، والحشارجة، وبني الطيب، وبني حملة، وجزء من قبيلة الخميسين، وغيرهم.
ولقد حدثني أحد طلابه من أبناء قرية المشايم ( )، فقال:
" مَرَّ بي الشيخ يوماً وأنا في الرَّعْي، فمشى حتى وقف إلى جانِبي وسلم عليَّ، فرددت عليه السلام، وكأني قصرت فيه، عند ذلك بقي يعلمني ألفاظ السلام، وألفاظ الرد، حتى حفظت، ثم بدأ يشرح لي معاني تلك الألفاظ إلى أن حفظتها ".
قال: " وسألني: من ربك "؟
قال: " فقلت: ربي ربي ".
قال: " فابتسم الشيخ، ثم قال لي: قل: ربي الله الذي رباني بنعمه، وهو معبودي ليس لي معبود سواه ".
قال: " فقلتها بعده، حتى حفظتُها، وسألني: صبيُّ مَن أنت؟ وأخُ مَن "؟
ولَمَّـا لم أُجبْ بعد تردد، قال لي: " قل: أنا صبيُّ التوحيد، وأخُ مَن أطاع الله ".
قال: " فقلتها بعده، حتى حفظتُها، ثم تركني وهو يمسح على رأسي ويدعو لي ويقول: بلغ أباك السلام ".
قال: " ثم بقيتُ أفكر فيه وأتابع سيره ببصري حتى وصل إلى راعٍ آخرَ من أبناء قرية البسيط ( )، فوقف عنده مثل ما وقف عندي ".
قال: " ولَمَّا رجعتُ إلى البيت أخبرتُ أبي بما حصل، فشرح لي عنه، وبقيتُ أتلهف لرؤيته حتى وفقني الله للدراسة عنده، إلى أن تخرجتُ أقرأ وأكتب، وأكْبَرُ من ذلك أحمل عقيدة الإيمان..
إنه والله كان المجاهد في الحق حتى أنقذ البلاد والعباد من الوثنية والشرك والعادات والتقاليد السيئة ".
ثم أضاف قوله: " والله ما كنا نعرف عقيدة التوحيد، ولا حسن الأخلاق حتى عرفنا الله عن طريق الشيخ/ إبراهيم بن يحيى – رحمه الله وغفر له –، وكم كان رفيقاً بنا حريصاً على هدايتنا، لكن شدته ضد المتعصب والمعاند ".
وبإعداد هؤلاء الشباب لان جانب الفريق المتردد والمتشكك والمقلد، وهُزم طغيان الجاحد والصادِّ والمُضاد، واختفى لفيف الحاسد والحاقد والمتصلب الجامد.
ولقد كان هذا الإعداد الشبابي نافذاً من خلال برنامج عملي وتطبيقي وتربوي خاص، بدأ بتربية الفرد وإعداده، وقصد الانتهاء بإقامة الحكم لله وحده، وإفراده بالعبادة، ثم الانطلاق في الأرض لإعلاء دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة، دون إثارة أي خلافات فرعية أو نعرات جاهلية، وهذا ما حدده واقع العمل التنفيذي، حيث أبعده من أن يكون مجرد إرادة استكثار وإظهار قوة وهيمنة، لمصلحة شخصية أو ذاتية معينة، أو للفت الأنظار إليه.
لكنه أثبت إرادة أسلوب الدعوة التكويني بدءاً بالشباب المسلح بالعقيدة ومستلزماتها، والإيمان بها في القصد والإرادة.
ثم الإيمان بالصفات الشخصية للرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – كذلك الإيـمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، ثم سلوك الجهر بالدعوة لإقامة أركان الإسلام، على طريق القدوة أو الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وآله وسلم –.
كذلك التركيز على مكارم الأخلاق وآثارها السامية في حياة الفرد والمجتمع، ومتابعة الشخصية المثالية في القدوة الحسنة والسلوك الرفيع النافع عن طريق الدلالة والإرشاد.
كذلك فإن من أبرز أهداف هذا الإعداد تأسيس القاعدة الصلبة للجماعة التي ستقوم بأعباء الدعوة إلى الله في الحاضر عن طريق النصرة والتأييـد وفي المستقبل عن طريق التحمل والأداء.
إن الشباب هم أداة تحويل أي مجتمع إلى المنهج الإسلامي بعد تربيتهم وإعدادهم على ما تربى عليه وأعد شباب الجماعة الأولى في مكة المكرمة يوم إعلان محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – نبوته ورسالته.
ثم في المدينة المنورة يوم وصوله إليها مهاجراً.
إن كل داعية وكل مرب يلزمه احتضان الشباب ليقف بهم ضد كل تيارٍ عاتٍ.
وهذا هو الذي أخذ به شيخنا – رحـمه الله –، وحسبه في الاعتبار، وهو يقصد بإعداده إعادة الإسلام الغائب عن منطقة أهله وبلد قومه.
والغياب أشد من الغربة – كما قدمنا – والتي أخبر عنها رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – بقوله: »بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطُوبى للغرباء« رواه مسلم.
وقد استمرت هذه الرحلة قرابة سنتين لأن الدخول إلى النفوس لترسيخ العقيدة النقية الواضحة التي جاء بها النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – تحتاج إلى جهد وجهاد وصبر ومصابرة وتضحية، كما تحتاج إلى تصنيف الناس كل بحسب المؤثرات في نفسه والتي حوله.
فالداعية المسلم الرباني ينبغي أن يعرف من أين يبدأ وإلى أين ينتهي، فالبدء بالأصل قبل الفرع، والقاعدة قبل البناء، والتخلية قبل التحلية، والمربي هو الذي يبدأ بتعليم صغار العلم قبل كباره.
وداعيتنا هذا يمتلك من العلم كباره.. وإنه لَنِبراس، لم ينطلق من فراغ، وإنما سلك في دعوته مسلك المقتدي بالداعية الأول والمربي الكبير محمد - عليه الصلاة وأزكي السلام - في كامل تواضعه وعظيم أسلوبه.
»يا حصين، كم تعبد من إله«؟
قال: سبعة في الأرض، وواحد في السماء.
قال: »فإذا أصابك الضر، فمن تدعو«؟
قال: الذي في السماء.
قال: »فإذا هلك الناس، فمن تدعو«؟
قال: الذي في السماء.
قال: »فيستجيب لك وحده، وتشرك معه غيره؟ يا حصين أسلم تسلم، عَرضٌ وأخذٌ وعطاءٌ وإقناع«.
وفي دعوته – صلى الله عليه وآله وسلم – لقريش خير قدوة: »أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً ستخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مُصَدِّقِيَّ«؟
قالوا: ما جرَّبنا عليك كذباً.
قال: »فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد« ( ).
قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيْرَةٍ أنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي.
ولا مساومة في العقيدة، ولا نصف حلول.
»والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه« ( ).
فالشدة في موضعها لا تتنافى مع أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، بل هي من الحكمة.
كما أنه لا عجلة في الدعوة في حق من لم يستجب مهما أبطأت النتيجة، فالمثابرة لازمة، والاستعانة على وعثاء الطريق بطول الصبر والاحتساب وحسن التأسي برسول الله – صلى الله عليه وآلـه وسلم –، وصدق الاعتـماد على الله – عزَّ وجلَّ –، فذلك طريق النجاح، إِنَّهُ مَنْ يتِقِ وَيَصْبِر فَإِنَّ الله لا يُضِيْعُ أَجْرَ المُحْسِنِيْن ( ).
وفي ختام هذا المبحث لا يسعنا إلا أن نتعرف على حال المستجيب والصادِّ، والصفة اللازمة لكل منهما، ونكتفي بهذا عما تقرره الأيام والأحداث من سنة الله في خلقه حتى عصرنا الحاضر على مستوى الشعوب والقبائل، فأنت ترى إذا خرجت إلى أيِّ ريف أو قرية ووجدت داعية يدعو الناس إلى التمسك بمبادئ الإسلام، تجد حوله الفقراء ومن في حكمهم وفي نفس الوقت تجد المصادة والمعاندة في الكثير الغالب من ذوي النفوذ والوجاهة في المجتمع، ومن أصحاب المصالح ومن في حكمهم تجدهم يصدون عن الحق ويتألمون من ذلك الداعية خوفاً على مصالحهم، ومن تأثيره على أتباعهم الذين قد تختل بهم موازين نفوذهم أو تهتز هيمنتهم وسطوة كبريائهم، وعزتهم الآثمة بخروجهم عنهم بفهمهم، فيكون رد الفعل منهم في مواجهة الداعية ودعوته توجيههم التُّهم ضده، والدعاوى الكاذبة عليه ومجابـهته وهتك عرضه وإهانة كرامته.
ولم يكن قليلاً ما واجهه رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم –، وما كان لدعوته أن تحف بالورود، وصدق الله العظيم في تصويره حال المضادِّين: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيْهَا لِيَمْكُرُوا فِيْهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( ).
المرحلة الثانية:
ارتباطُ المجاهد بالحياة الزوجية
وحالةُ تأسيس مدارس التعليم
سبق أن ذكرنا عن طريق الإشارة الضمنية خلوَّ المنطقة من أي تعليم عدى تلك المدرسة الـخاصة بتعليم البياض (القاعدة البغدادية)، تدرس على طريقة: حدي الإبل، الفقيه (المتعرف) يحدوها بلحن خاص والطلبة بعده يرددون، أو على شكل الزامل بصوت مزعج في هيئة طابور جماعي.
وذلك هو كامل المنهج التعليمي في هذه المدرسة الموحدة، على مدى الحياة وتكاليف الدراسة يتحملها الطالب إلى أن يتخرج منشِّداً أبواب البياض: (محتويات تلك القاعدة ومستلزماتها)، والقليل النادر يتخرج يقرأ المصحف تعتعة وبعبعة ونَتْوَعَة، ولا يخفى أن هؤلاء هم الذين كان على أيديهم استقدام عوائق الجاهلية مسببات غربة الإسلام، ثم غيبته عن مناطق تواجدهم ومجتمع نفوذهم.
ولهذا لم يكن سهلاً على إبراهيم – رحمة الله وبركاته عليه – إيجاد الغائب، ثم إرجاعه، دون بذل جهد، وتضحية جهاد، وحسن تربية، ودقة تجنيد، وفن إعداد.
ولَمَّا التزم طريقه على مدى سنتين مصاحباً الصبر والاحتساب وجد لدعوته قبولاً وصدى إعلام، وإيجابية استقبال، ورجالاً محتفين ومناصرين.
ولقد كان بذلك تشجيعه على تنفيذ خطة التعليم النظري بعد أن نجح في خطة التعليم الشفوي غير المعلن.
فبِدْءاً بتأسيس مدرسة دار التوحيد الأهلية تحت شجرة (فلة الدرب) ( ) على سفح منطقة جبل حديد، قلب مناطق ناحية خيران إلى فتح مدارس الفروع، حسب الحاجة..
ولَـمَّا كان هذا المكان هو الوسط بين قرى مناطق المديرية فقد جـمعت المدرسة غالبية شبابـها الذين رأى من خلالـهم ثـمار جهده وبركة جهاده، وقد كثروا حتى كان يسمع للمدرسة أزيز كخلية طاب رحيقها، فشكر لله فضله واستراح بذلك ضميره، وسكنت نفسه، وهدأ باله.
وعليه: بدأ يعيد شريط تفكيره الـمبرمج واجب ارتباطه بالحياة الزوجية، وصولاً إلى تحقيق المودة والرحمة المستفادة من دلالة القرآن ( )، ثم وصولاً إلى تحقيق التكاثر الهادف بدليل السنة ( ).
وقد وُفِّق في اختيار شريكة حياته بتحقيق سبب أمومة أبنائه من خيرة بيوت أسرته وأخلق فتيات بني عمومته ومن أحسب وأنسب أهالي منطقته.
وقد عاشا زوجان سعيدان مدة عشر سنوات تقريباً حتى توفاه الله تعالى، وقد أنجبا خلالها أربعة من الولد: ثلاثة ذكور، وبنت واحدة.
توفي عنهم وهو في أوج شبابه، وأم أولاده كانت لا زالت في مقتبل عمرها، إذ لم تكن تتجاوز الخامسة والعشرين حين توفي عنها.
لكنها أبَتْ أن تتزوج بعده، وبقيت ترعى أطفالها وتربيهم وتعلمهم حتى شَقُّوا طريقَهم وعرفوا مصالحهم، وسعت في زواجهم وبقيت تتعهَّد سيرتهم وتقوِّم حالهم إلى أن بلغت من الكِبَر عِتياً.
ولا زالت لأحفادها خير جدة، وأحزم راعٍ مصلحٍ حريص.
إنها المرأة الفاضلة الكريمة، والصابرة البارة المحتسبة/ مريم بنت منصور بن أحمد بن حسن بن أحمد بن حسن بن عبد الله بن محمد بن ناصر بن علي بن عبد الله بن صالح.
إنـها تلتـقي بنـسب إبراهيم في الـجد/ صالح بن يحيى بن صلاح إلى مثنى بن شرف الدين الطيب، على ما سبق تقريره.
إنها المرأة المثالية في بناء الأطفال وتربية الأجيال على القيم والمبادئ الإسلامية الصافية والفطرة الإلهية فطرة الله التي فطر الناس عليها، ثم تركها للآباء في الأبناء يُهَوِّدُونَهم أو يُنَصِّرُونَهم أو يُمَجِّسُونَهم، كما قال الصادق المصدوق – صلى الله عليه وآله وسلم –: »كل مولود يولد على الفطرة، …«، الحديث( ).
إنها – رضي الله عنها، وغفر لها، ورفع ذكرها، وأعز قدرَها – ربَّتْ أطفالاً، وأقامت أخلاقهم، وعمرت قلوبهم بالإيمان، ثم كانت المرأة المثالية في الإرادة، والتضحية، وحسن التربية، وجميل الرعاية، والثقة بالله في لازم الجزاء العظيم لمن يرعى يتيما ويحرص على كفالته، ثم يتعهد تعليمه وتقويمه إلى أن يبني حياته ويعمر مستقبله.
وقد فعلت مريم ذلك كله ابتغاء مرضاة الله يوم توفي إبراهيم – رحمة الله وبركاته عليه – وترك أولئك الأطفال لا راعي لهم سـوى الله ثم أمهـم الشابة – رضي الله عنها –، والتي ما كان يتجاوز عمرها ما ذُكِر: (عقدين ونصف)، وبقيت منذرة نفسها لهم، ولم تأخذ زينتها، وقد كانت في أوج شبابها وردة مرغوبة مطلوبة؛ لكنها أبَتْ، فأنذرت ووفَّت.
ولقد كانت دعوتها مستجابة وهي ترفع بها إلى الله: " اللهم إني نذرت لك ولدي هذا؛ فعلِّمه، وفقِّهه في الدين، وارزقه الإخلاص في القول والعمل يا رب العالمين، اللهم تقبله مني بدعوتي كما تقبلت من مريم بنت عِمران دعوتها ".
ولا أدري إلا أن الله تقبل منها وقد وفقني في طلب العلم حين هيأ لي ظروفي رغم شديد العوائق وكثرتها من يوم بدأت الطلب حتى تخرجت في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة – على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام –، بعد أن تخرجت في مدرسة تحفيظ القرآن في الرياض، ثم في معهد الحرم المكي إلى أن التحقت في المعهد العالي للقضاء في صنعاء وتخرجت فيه، ولا زلتُ أطلب العلم وأتفقه فيه بواسطة مكتبتي الصغيرة الجامعة، وهي لا زالتْ تتعهدني وتعينني
بأفضل الدعوات..
ولقد كان فضل الله عليَّ بتلك الدعوة عظيماً يوم لهث الناس مفتونين بكل شغف لتنظيم أنفسهم في الحزبيات التعددية الموصوفة بالحرية الديموقراطية، كل حزب بما لديهم فرحون، وهم في غمرتهم يعمهون، كما أخبر الله تعالى عنهم في سورة المؤمنون.
وعصمني الله منها بفقه ما علمني سبحانه، وإني لأراها بما علمني ربي، أشد خطراً على وحدة المسلمين من الشيطان وأوليائه من دعاة الرِّدَّة.
كما قال الإمام الشهيد/ حسن البنا في (رسائله)، وسيد قطب في (الظلال)، والمودودي في (الحكومة الإسلامية)، ومحمد قطب في (واقعنا المعاصر)( ) بهذا المعنى،
وغيرهم.
وقد ثَـبَّت الله رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ووقع في الحزبية قوم آخرون، لم يـدركوا بأنها فكرة يهودية وضعوها لتجزئة الأمة الإسلامية أُسَرِيَّاً بعد أن نجحوا في تجزيئـها إلى دويـلات تتناحر على حدودها المصطنعة بفعل أعدائها.
وإن مما هو معلوم لدى الخاصة والصفوة في الجماعات الإسلامية بأن من أصول منهج الإخوان المسلمين ودعوتـهم حظر الـحزبية، فهي تبدأ بالتأثر وليد الشبهة، وتنتهي بالعمالة وليدة الشك.
لذلك فإنه يجب البعد عنها، وعن الهيئات، حتى لا يكون التزامها وسيلة لإدراك الشك المنافي لليقين.
يقول الدكتـور/ إسحاق أحمد فرحان – أستاذ التربية، رئيس الجامعة الأردنية –( ): " ومما ساعد على استعار أوار الأزمة الفكرية التي يعاني منها الشباب ظهور الحزبيات الغربية على فكر أمة الإسلام، و(معتقدها الموحَّد)؛ مما شتت الشباب بين الحماس لهذا الحزب أو ذاك، وأصبح كل حزب بما لديهم فرحين، وتناسوا قول الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيْمَاً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَّرَقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "( ).
المرحلة الثالثة:
تنظيمُ وتطويرُ التعليم
عشرُ سنوات هي عمر دعوة إبراهيم – رحمه الله – بين أهله، وفي أطراف نواحي بلده تحقق له فيها تعميمُ منهجه، وبناءُ جيلٍ طَهَّر مستقبلَه بإزالة غشاوةِ جهله.
لم يُسَلِّم دورَه في الدعوة بعد الزواج إلى من خرَّج من الشباب، ولكنه استعان بهم على زيادة نشاطه؛ حيث قام بفتح مدارس أخرى فرعية في المنطقة من أجل تعليم الكبار وتسهيل تحصيلهم وقطع حجتهم بعد أن نقل المدرسة الأم من ظل شجرة تُمِيدُها الرياح إلى تَلَّةٍ في ناحية قريته، يحيطها سورُ داره، ويعلوها سقفُ منـزله.
وأول مدارس الفروع: مدرسة في قرية الحشارجة، (في مَنـزِلَة المسجد).
وأخرى: في الحدادة، بقرية المحدادة، (داخل حرم مسجدها).
وثالثة: في قرية المشايم.
ورابعة: في بيت الحداد.
وخامسة: في بيت الشارف، من بني حملة.
وسادسة: في قرية المساهم، من دير الحِسِي.
والمدرسة السابعة: في المحرق، (مقر سوق السبت).
والثامنة: جنوب الخميسين، في قرية بني سراج، (وهذه أول مدرسة فرعية قام الشيخ علَى تأسيسها خارج قبيلته، وأقام على التدريس فيها أحد طلابه/ علي هادي نور سراج الخميسي، بالتعاون مع الأستاذ/ عبد الله بن علي الخميسي).
وهذه المدارس كلها فروع للمدرسة الأصل سابقة الذكر.
ومنها ما أشرف عليها بنفسه، ومنها من تولَّى التدريس فيها طلابه الأوائل، خيار شباب المنطقة( ).
كما أنه لم يكن افتتاحها في وقت واحد، وإنما على مراحل، حسب الحاجة والظرف المناسب.
ومنها ما تأخر إلى ما بعد حياته.
ومنها ما انتهت بموته لظروف خاصة.
وما كانت المدارس وحدها وسيلة البلاغ، وإنما أيضاً الدروس الخاصة، وخطب الجمعة، ثم أحاديث المجالس واللقاءات في المناسبات.
أما المنهج الذي تلقاه الدارسون في هذه المدارس فهو: (القرآن الكريم)، وما يتصل بحق التلاوة نظريـاً وعمليـاً؛ فالقرآن الكريم تشرحه علومه، مثل: (التفسير)، و(أسباب النـزول)، و(أحكام التجويد بشرح تحفة الأطفال)، و(مقدمة ابن الجزري).
ثم علم العقيدة، وتطبيقها من خلال الكتب المقررة، مثل: (تطهير الاعتقاد)، و(لمعة الاعتقاد)، و(فتح المجيد)، و(العقيدة الواسطية).
ومقررات الحديث: (الأربعين النووية)، و(رياض الصالحين)، و(مختارات من كتب السنة).
وفي السيرة النبوية: (مختصر السيرة)، و(نور اليقين)، ومرجعهما/ (سيرة ابن
هشام)، و(زاد المعاد).
ومن الفقه: (زاد المستقنع)، و(سفينة النجاة)، و(العمدة).
ومن المراجع: (نيل الأوطار)، و(سبل السلام)، و(الإلمام بأحاديث الأحكام).
وفي اللغة العربية: (ملحة الإعراب)، وكذا (بعض شروح المقدمة الآجرومية).
وغير ذلك من كتب العلوم الشرعية الميسرة والمبسطة حسب القدرة الاستيعابية للدارسين.
وكان جُلُّ التركيز على علم العقيدة؛ لحاجة الناس إليها، ثم القرآن الكريم وتجويده، كذلك فقه العبادات، مثل: تعليم الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وتعليم الأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية الشريفة.
ولخطب الجمعة والدروس الخاصة والمناسبات منهج آخر يحدده المقام والحال كمَّاً وكيفاً، ولكل مقامٍ مقال، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم فهماً واستيعاباً.
فقد كان ذلك سبيله وطريقته.
وقد أوصلتْ هذه الوسائلُ عامةَ الناس إلى درجة فقه الحال.. وأقلهم إلى درجة القناعة بأهدافها من خلال فهم ضابطَين من أصول التربية:
أحدهما: أخلاق الفرد.
وثانيهما: أخلاق المجتمع.
ولكل منهما تأثير خاص في إبلاغ دعوة الله، وإصلاح المدعوِّين.
لكن بقي الحاسد والحاقد والجاحد من الخاصة في حالة استنفارٍ، وتوجُّسٍ، واستصحابِ لوازم الوحشية استعداداً للمواجهة، والصد للدعوة وصاحبها، والدفاع عن الباطل والضلال المحسوب في ميزان جهلهم هُدَى.
والذي أثار حرج صدورهم، وأشعل غيض قلوبهم، وأزحم ضيق نفوسهم: شديد إقبال الناس على التعليم خروجاً من الجهل بإلحاق أبنائهم بمدرسة دار التوحيد وفروعها، واستجابتهم لدعوة الحق، ونبذ الشرك والوثنية، ومحاربة ذواتها وصفاتها بالهدم والقلى.
وحيث كان بإزالة تلك الأوحال الجاهلية زوال مصالحهم، وبإنهائها نهاية سيطرتهم ونفوذهم، بأفعال الطلامس (الطلاسم) والتمائم والأسحار.
ثم كان بذلك تصنيف مُفْتَعِلِي التجهيل بكشف غرورهم وتوصيف سوء عاقبة أمرهم، وتبيان انقلاب حالهم، وذلك بما صوغوا من معاملة غيرهم بمبدأ الفوارق والامتيازات اللدُنِّـيَّة دون ما مراعاة لواجب التواضع ولا للازم وضع جاهلية انتساب الفخر.
ولا لترك غائلة طعن أحساب حمالة احتساب الكفر المحفوف بها أدلة الشرع المانعة والمحذرة.
وما أجاز الإسلام لأفرادٍ ولا لجماعاتٍ الترفع والنظرة لأنفسهم بالفوقية والشُّرْفة العلية، وأنهم الـتِّبْر، ومَن عداهم البَعَر دون نظرة سلوك التقوى، وقد كان واجبُهم صونَ نتيجتها لينالوها بالتزكية الإيجابية على حد مفهوم قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وما كان حاجتهم تقتضي ادِّعاء إحرازها بواسطة تغرير التزكية السلبية على حد مفهوم قول الله تعالى: وَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى، والتي يقتضي بدعواها تعمد حظر النهي عن تزكية النفس الواقع به قتلها، وقد ظن بها وضَمِن لها إحراز التقوى وسعادة الدارَين..
وكل الذين يزكون أنفسهم بالعموم أو بالخصوص بأن لهم الحسنى دون من سواهم: فإنهم ظالمون..
أو أن الـجاه والشرف والمجد والعلم والفهم ليس لغيرهم، ومن سواهم لا ضير أن تجهل البقر – نعرة جاهلية يتمتع بها ويلتزمها شلة هذا الوصف من أبناء حواء جوارح الجهل المركب، وبعض المنهزمين من شواذ آدمية الأسر والأفراد على مستوى مناطق تواجدهم، ثم هم يجدون تشجيعاً ممن سواهم –.
والعجب أن كان سند عونهم ممن عليه جارٍ تصنيفهم وواقع به توصيفهم.
وعليه كان لا بد من مواجهتهم بمثل سوء أفعالهم، وكبح جماح غرورهم، وكسر شوكة نفوذهم، وتحطيم شبح رهبة إرهابهم.
كما سنعرف من خلال مجريات المرحلة التالية.
المرحلة الرابعة:
تقريرُ أوصاف أسلوب الدعوة
لقد كانت هذه المرحلة من أشد مراحل الدعوة فتنةً وبلاءً لإبراهيم – رحمه الله وغفر له – بل هي المرحلة المهمة في حياة دعوته، حيث استقبلته بالامتحان الصعب الشديد.
فالمرحلة تـحوي مجموعة أنواع من المعبودات غير الله – كما سبق الإشارة إليه – كذلك تحوي بشراً من العابدين بفعل التجهيل القاضي بالجهل (سلباً) في الوسط العام.
ثم تحوي كذلك مريدين مرشدين ومنشئين للجهل قاصدين (إيجاباً) في المستوى الخاص.
وأخيراً يشمل احتواؤها مُعرِّفِين ومُزَكِّين بحقهم ممن هم بنفعهم مستنفعين، وممن مصلحتهم ضالتهم؛ فهم يأخذونها متى يجدونها، ومهما دارت فإنهم معها يدورون.
وقد حق بهذا احتدام وطِيس المواجهة بين الشر والخير، والضلال والهدى، كما هو السنة القائمة للابتلاء.
وفي الأخير يحق الله الحق بكلماته، ثم هو الغالب على أمره، ولن يصلح عمل المفسدين.
ولقد بدءوا أولاً – وهم الظالمون – بمصادرة جميع كتبه بحجة وهَّابيتها، ثم استدعائه للسجن في مركز الناحية بحجة تعرضه لهدم قباب الأولياء، وإقلاق راحتهم البرزخية، بأخذه الرايات والسرج وإتلافها، ومنع المتمسحين بقبورهم، وإعلانه أن ذلك شرك ولن يغفر الله للمعتقدين فيهم، ولا للمتبركين بهم.
لكن! ألقمَهم الحجة، وأسطعَهم البرهان من القرآن والسنة، وأرهب سطوتهم بما استقطب من أعوان، وبما شحذ من أذهان، وربَّى من صبيان، وعلَّم من فتيان، وبما جمع حوله من شُبَّان.
إنه غضِب لله يوم عارضوه في تغيير المنكرات الوثنية والعادات السيئة، ثم قاوموه منتصرين لبقائها، عند ذلك أعلن دعوتهم وواجب مواجهتهم، وبدأ يغير كل منكر بيده ضرورة بعد لسانه؛ فوثب على هدم القباب بادئاً بأصغرها أو أقلها شأناً في نظر رُوَّادها، مثل: المشهد المسمى: (قبة قبر سيد شالف)، في غارب البركة، من منطقة جبل حديد.
وهذا الضريح تقتصر حدود أهميته أنه لم يخصص له يوم معين في السنة أو الشهر أو الأسبوع، ويُكتَفى منه بالزيارة العادية التي لا تكلف سوى وضع راية من نوع معين ومسرجة صغيرة يوضع فيها قليل من السمن أو زيت السمسم أو الشمع البلدي، ثم أقل طلب من الحاجة الملحة والبكاء عنده، فلم يزل يهدم قبته حتى سواه بالأرض بمساعدة مجموعة من طلابه وأعلن تحريم زيارته وتأديب من يفعل ذلك.. محذراً.. ومنذراً.. حتى لم يجرؤ على زيارته بعد هذا أحد.
قال من حدثني عن حضوره حال الهدم( ): " ولقد حصلت على مسرجةٍ بعد الهدم، وكنت أنتفع بها في الإضاءة، وأعتقد أنها لا زالت محفوظة في بيتنا لاعتبارها من التحف الأثرية ".
قالوا: " وهذه المرة سلم من مؤاذاة السادة والقادة والعرَّافة.. لكن أجمعوا له أمراً وحسبوه القاضية.
لقد فكَّروا وقَدَّروا، فقُتِلوا، كيف قَدَّروا؟ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ المَاكِرِيْنَ ( ).
إنه مستـمر في هـدم القـباب وإزال،ة شبحها المخيف مهما كلفه ذلك..
وكانت هناك قبة أعظم شـأناً، وهي: (قبة قبر القبَّة) – هكذا كان اسمها –، وموقعها على إطلالة مركز الناحـية عـلى قمـة الجبل، وكان يستقبلها مُصلَّي العيدين بالتـولية شـطرها، وامتيـازها عن سـابقتها بهذه التولية والوجهة.
وإن حظ ضريحها واجب الوقوف عليه والتبرك به بعد الصلاة من كل فرد في هاتين المناسبتين، وراقد القبة يُدعى: (المبروق)، شُـيِّدت منارته، وضُـيِّق بابها حتى لا يدخلها إلا مطأطئ الرأس، حانِيَ الظهر، منكسرَ الخاطر، مجهشاً بالبكاء، مقبِّلاً ترابها، حاثياً منه على رأسه وجسده.
فعمَّها إبراهيم بالهدم، وطمَّها بالتسوية كسابقتها.
عند ذلك ثارت حفيظة النظام، ووجَّه بالكيد لدعوته ولازم التربص به، والقضاء على نشاطه وحركته، فما هابهم ولم يصيبوه بتدبيرهم الذي كان فيه تدمير غرورهم وكبح جماح تآمرهم.
وقد كان لهذا الحدث إيجابيته حيث قام معه أهله مناصرين – عن طريق العصبية على الأقل – ومنهم من كان معه على كل حال ( ).
وتخاذل الحاقدون منهم والحاسدون؛ فلم يجرءوا على الإعانة عليه حينها.
فانتصر وأعلن تحذيره وتهديده لكل من تسول له نفسه إعادة بنائها أو التمسح بها، أو إعلان ضررها أو نفعها، حتى قطع دابر حجة القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
ثم توجه إلى (حَيْد عِمران) فمنع الذبح له والسفح عليه ودعاءه وطلبه ورجاءه، وأبطل دعوى ضره ونفعه والنذر لِجِنِّه المزعومين وكبيرهم المدعو: أحمد عِمران، والذي يقدم له الناس أنواع العبادة، ويأتونه بالقرابين من أنحاء المناطق وأبعدها في ناحية خيران (المديرية) وما حولها وأبعد ما حولها من مناطق السهل والجبل.
وكبار السِّن حتى الآن يتحدثون عن حوادث حصلت لأناس وهم يقدمون قرابينهم من أنواع بهيمة الأنعام، فهم يروون: أن مرة جاء سبعة من الرجال بقربان (ثور كبير) صِفَتُه: أسود، وهم يذبحونه تحرك بهم على قمة الحَيْد (الصخرة) العالي مائة وخمسين متراً تقريباً هواءً وفضاءً خارجياً، فرمى بهم وهو معهم فساروا في الهُوِي، مرة يرتطمون ومرة يهوون، حتى وصلوا أسفله أشلاءً لحماً ودماً وعظاماً متناثرة.
وأخبار أخرى عن حوادث مماثلة تهاوت من قمة هذا الحيد إلى أسفله بفعل الشرك بالله وبأسباب رفس القرابين للمتقربين، ثم نتيجة زل القدم بفعل السمن واللبن والبيض ( ).
فمنع إبراهيم – رحمة الله وبركاته عليه – ذلك كله، وأبطل مفعوله، وأنهى أثره، بعد جهادٍ طويل، وتحملٍ غيرِ يسـير، ومقاومةٍ شـديدة، وصبرٍ وجَلَدٍ بكل ثقة بالله واحتساب لجزائه وثوابه.
وبمثل منعه لعبادة حَيْد عِمران منع عبادة مالط المسحلة (صخرة أخرى)، وتعتبر القربى إليه نادرة بالدجاجة والبيضة وإساحة السمن واللبن.
لكن (صخرة الركية) المعبود فيها أنثى من نوع الجن والمسمى: (مريم) أو (حيدرة)، وقرابتها لعِمران – بزعم عابديها – أنها بنت أحمد عِمران، واختصاصها – بزعمهم – أنها تمنح البنين والبنات، وتَشفي وتُبرئ الأكمه والأبرص بأخذ حفنات من تراب حولها وحثيه على رأس المريض وسائر جسده كما هو الحال في الاغتسال بالماء.
وبمثل ما أبطل وأنهى عبادة عِمران أبطل وأنهى عبادة مريم (صخرة الركية).
وعُبَّادُها كانوا يدَّعون رؤيتها ومواجهتها لهم وتحدثها معهم بما يريدون، وهي تلبي مطالبهم وتقضي حوائجهم.
وحديث الناس عنها كثير.
ثم أنه عاد إلى ملاحقة هدم القباب، وتسوية القبور، وإتلاف الرايات والسرج عليها.
وبمثل ما فعل في (الشالفي) و(المبروق) عمل على إزالة (قبة الشالفية) في بيت الشاوري و(منارة ذراع القشابة) ومنع زيارتهما.
أما (قبر ابن الطير) فكان من الأهمية بمكان لدى أهل البلد، وقد كانوا يعقدون له النذور، ويشدون إليه الرحال، ويعكفون عليه ويذلون ويخضعون له، ويسوقون إليه القرابين والهبات، وهو يمتاز بقبة ومشهد، وسادِنٍ يستقبل الزوار ويتسلم منهم كل ما يقدمون، وهو يعلن على لسان صاحب القبة قبول الزائر ورضاه عنه، وقبول قربانه وتلبية طلبه واستجابة دعائه وكشف ضره.
ومقرُّه: طُفيان، على حدود خيران مسروح مع أفلح الشام، وفيه فتنة القبيلتين بعبادتهم له من دون الله.
ولما عزم إبراهيم – رحمه الله وغفر له – على إزالة منكره وهدم قبته استعد بحمل وسائل الهدم باصطحاب شباب من طلابه ورجال من أحبابه أشداء.
وقد أعلن يومه ليُعلم استعدادا للمواجهة، واختار وقته، ثم بدأ باجتثاث بوابة الضريح من أساسها، واستئصال القبة من خلفها، فانهار مجموع التشييد كُتْلة واحدة، فكبر الله، وأعلى صوته، ورددها من معه وهو يتلو قول الله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقَاً ( )، اقتداءً برسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وهو يهدم أصنام المشركين حول الكعبة.
وما تركه حتى ساواه بالأرض، وأتلف راياته وسرجه معلنا تحريـم زيارته ومحذراً سوء عاقبة المشركين.
وما أحدٌ اعترضه في هدمه مواجهة عند ذلك.
وبينما هو في طريقه عائداً مع مجموعته الشبابية المؤمنة وفي مكان يسمى: (شِعب الجوف) لاقتهم امرأة تحمل فوق رأسها صحناً مغطىً وتقود هدياً بحبلٍ في يدها.
فغضَّ وأمر أصحابه بالإغضاض والتنحي عن طريقها حتى تتجاوز ففعلوا.
إلا أنها – ولما حاذتهم – بدأت بالسلام، وتكلمت مخبرة بوُجْهَتِها، وأن ما تحمل وتقود هو قربانٌ للطير كانت قد أوجبته على نفسها بالنذر.
عند ذلك تكلم الشيخ مرشداً لها وواعظاً بما يلزمها من نذرها هذا ويحق عليها به شرعاً.
وأن فعلها هذا شرك واستعرض لها الآيات والأحاديث( )، لكنها أبَتْ وأعرضت، وأمرها بالرجوع فاستكبرت وتعنَّدت.
ولما رأى جِدَّها وتصميمَها على مواصلة السير للوفاء بالنذر للقبر، أمر بعض من معه من الشباب بتخليص ما تحمل من قربان فجاءوها ولم يزالوا بها حتى سلمتهم مناولةً دون أن يمدوا أيديهم إليها، أو ينتزعوه منها بالقوة، وكلهم شباب ورجال عقلاء وعلى رأسهم سيد قومه/ يحيى بن حسن زاهر.
أما الشيخ فلم يبرح مكانه إليها ولم يقرب نحوها؛ إلا أنه أقنعها بعد أن سلمت بأن تحتسب ذلك صدقة لأطفال قرية البسيط ( ).
فوافقت ورضيت، بل وأشرفت على أكل ما في الصحن من قِبَل أطفال القرية المذكورة، وبعض شبابها، كما أشرفت على ذبح الكبش وتقسيم لحمه على بيوت القرية صدقة.
ثم انصرفت وهي تدعو للشيخ وتترضى عنه أن دلَّها على الخير وخلَّصها من الشرك بالله الذي كانت تجهل بأنه كفر.
لكن ماذا حصل بعد هذا؟
إنه العَجَب!
وإن تعجَبْ، فعَجَبٌ حال المنافقين الذين لم يتغير نهجهم منذ أن أسسه كبيرهم وقائدهم المغوار على النار/ عبد الله بن أُبَي بن سلول.
فهذا المنهج أساسه التربص بالمؤمنين الدوائر عن طريق الخذلان بإظهار العرفان، وإبطان النكران.
وظاهر الحرص على دعوى إرادة إصلاح الشأن، والتضحية في سبيل مصالحهم بكرامة كل من عز أو هان، حسداً من عند أنفسهم أن يكون لغيرهم عظيم الشأن، أو لأحد لسان صدق في الآخرين دونهم.
وصدق الله العظيم: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ( ).
ولكم تربَّصوا بالرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – وكادوا له وهو يواجه خذلانهم مع قتل المشركين في أُحُد لسبعين من أصحابه، وفيهم حمزة – أسد الله وأسد رسوله –.
وهم يتآمرون عليه وهو يواجه – صلى الله عليه وآله وسلم – اليهود بعد نقض عهدهم، كما لمزوه وأصحابَه وهو في ساحة القتال، ولَمَّا رجع واجهوه بأقبح من الذنب، قالوا: " إنما كنا نـخوض ونلعب "، لكن كشف الله سرَّهم: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُوْلِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيْمَانِكُمْ( ).
وأبناء اليوم من أمثال هذا الصنف هم أحفاد الأمس، وَالمُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَونَ عَنِ المَعْرُوفِ ( ).
إنها لما رجَعَتْ إلى أهلها وقد علم الماردون على صفة أصلهم وهم من بعضهم بوصف الله لهم، إنهم أجلَبوا عليها وأجبَروها على اختلاق فكرة قدَّروها.
قاتلهم الله، كيف قدَّروا؟!
قالوا في دعواهم: إن المرأة التي تعرض لها الوهابي/ (إبراهيم) أسقطت حملها بفعله الأنكر من المنكر..!!
وقد استـخدموا التـورية في (أَسْقَطَتْ) وفي (حـملها)؛ ليُمَرِّروا كيدَهم على إبراهيم – كرمه الله –.
إنهم يكيدون كيداً، والله يكيد كيداً.
إنهم يمكرون بدعواهم إسقاط الحمل: (الجنين عن بطن أمه).
إنهم أتوا بحزمة حطب؛ فوضعوها على رأس المرأة، ثم عمدوا إلى إسقاطها!!
وكأني أرى من كان طرفاً في المؤامرة بالغبن وهو يعلن توبته ويضفي اعتذاره.
ومن سواه، الله أعلم بتوبتهم وهم يمكرون بإسقاطهم حزمة حطب عن رأسها!!
وفي هذا التصرف ما يشعر بوجود بقية خير في نفوس الصانعين المحترزين؛ بدليل جنوحهم إلى التورية، وتنفيذ تأويلها فعلاً، مع أن فيه سبق إصرار وتربص، ومتابعة تآمر، وتدبير كيد، وتصميم على إلحاق أذى، والتزام بتحقيق إضرار.
وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( ).
وأروِي واقع القصة بتمامها معتـذراً عن التصـريح باسم من فكَّر ثم قَدَّر فدَبَّر، ثم كاد فمكَر.
أترك ذلك بعد أن قدموا على الله جميعاً بما عملوا من خير وشر، ولعلمي: أنه – رحمة الله وبركاته عليه – قد عفَا وغفر وصفح يوم جاء الحق وزهق الباطل، وهو يعلم أن تآمرهم شبيه بحادثة الإفك في سورة النور، وقصة الوليد بن المغيرة في سورة المدثر، وعلى ما ورد في قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ( ).
الفصل الخامس
أهمُّ مجريات الفتن والمعوقات
على طريق دعوة المجاهد
الفصل الخامس
أهمُّ مجريات الفتن والمعوقات على طريق دعوة المجاهد
ويخصُّه أربعة فروع:
الفرع الأول: شِعْبُ الجوف، وحادثة الافتراء الأثيم.
الفرع الثاني: محنة السجن العام على طريق تزكية الدعوة.
الفرع الثالث: السجن الخاص، ونتيجته الإيجابية.
الفرع الرابع: انتهاء المحنة.
الفرع الأول:
شِعْبُ الجوف، وحادثةُ الافتراء الأثيم
سبق عرض هذا الحدث ومجرياته بصورته الواقعية والحقيقية.
وبقي أن نستعرض مسرحية نتيجته الهزلية المضحكة المؤلمة.. بفعلِ مَن مصلحتهم ضالتهم، وكيدهم ومخادعتهم أمل بقاء مظهرهم..
وتلك صفات عُبَّاد المصالح في كل زمان ومكان: يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( ).
والمتربص لا تفوته فرصة دون استغلال، وحدث في شعب الجوف نبأ عظيم استقبله أعداء إبراهيم – عليه رضوان الله – بالتحريف والتبديل والتغيير؛ ليدحضوا الحق بالباطل، وينصروا النفس والهوى والشيطان.
إنهم بقوا ثلاثة أيام في مشاورة ومداولة وحوار.
وقـد خرجوا بتقديم دعوى باسـم المرأة ضـد إبراهيم تحكي اتهامه بضربها المروِّع إلى حد إسقاط جنينها وإيصالها إلى حافة الموت.. وقد أسقطت حملها..
وعليه: فَهُم يطالِبون بدية الجنين ودية السلامة أمام محكمة القضاء، وقد تم لهم بذلك، وبمساعدة عامل حديد( ) مبرر القبض على الداعية المتهم بكذبهم الكيدي العظيم وصولاً إلى المطلوب وهو: قتل الدعوة وإنهاء حركة الصحوة بصاحبها.. للإبقاء على مظاهر الجاهلية مرتع الفساد والظلم..
ولقد اتخذ المشركون في مكة عدة وسائل لإعاقة دعوة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وإيقافها وشل حركة انتشارها.
كما سلكوا أخبث الطرق وأَلأَم المؤامرات وأفضع المواقف لقتلها في مهدها، بل بيَّتوا أسوأ مكرٍ وخططوا أحكم تربص بصاحبها وهم يـختارون شاباً من كل قبيلة فيُحْكِمون حصار منـزله، ويتحينون قيامه عن فراشه وهم يراقبون متى أراد المغادرة حملوا عليه فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فيرضى بنو هاشم بالدية؛ لعدم قدرتهم على الأخذ بالثأر في مواجهة كل قبائل العرب.
وكان سبق محاصرة الدعوة وكبتها وشل حركة صاحبها – صلى الله عليه وآله وسلم – ومن آمن أو آوى ونصر من بني هاشم بتعليق صحيفة المعاهدة في جوف الكعبة والـمُجْمَعُ فيها من صناديد قريش على المقاطعة والمدابرة والإغلاق في نطاق شعب أبي طالب.
شاء الله استمرار ذلك ثلاث سنوات.
وإبراهيم لا يضيره ولا يحزنه، بل يشرفه ويسعده أن يؤاذى في الله ولو إلى حد الجَوْدِ بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الحق ونصرتها في مقابل إلغاء أصنام الوثنية والشرك، وقد كان لعابديها أشد الرغبة في تنفيذ أمر القتل مهما تيسر، أو إصابته بجارحة فيما دون النفس لإرهابه فيزدجر.
أو بالتآمر على سجنه والتزوير عليه لتغريمه وتغريبه وتأديبه، وقد رأوا أن الفرصة مواتية ولعلها لا تعوض إن لم يسارعوا إلى تأويل هذا الحدث وتحويله منكراً مضاداً لحال واقعه: وهو يهدي امرأةً جهَّلها قومُها، وهو يدلها على سلوك طريق الإيمان بالله وترك الكفر به، وردها للحق وتوضيحه لها إلى أن أعلنت توبتها من الشرك برجوعها إلى الله، والتصدق بما كانت تحمله قرباناً للشيطان، وتـحويل عقد نية الوفاء بنذر الشرك بالله إلى نية التصدق لله به على الفقراء والمساكين.
وقد رجعت إلى أهلها تحمل عقيدة التوحيد، وترفض عقيدة الشرك والكفر والوثنية.
لكن أغاضَ ذلك الجاحدين للحق المنكرين للمعروف في مقابل حرصهم الشديد على بقاء مصالحهم المرهونة وجوداً بالمحافظة العاضة على حال الواقع الجاهلي وبعدم التفريط في الانتصار له، لذلك: فلم يزالوا بها حتى صَدُّوها بما يعبدون وبما كانت تعبد من دون الله جهلاً بالدين، وإلى أن خدعوها، وتبنت دعوى الزور والكذب والبهتان العظيم عن طريقهم وبواسطتهم وعلى أعينهم محتسبين ووكلاء، بعد أن غرروا بها حتى غبنوها.
وهي عجوز قد تجاوزت سن الحمل والإنجاب، فأصغر أولادها في عمر الشابِّ البالغِ الحُلُمِ تقريباً يوم أن ادَّعت الإسقاط.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظيم حجم المؤامرة وتبييتها، حتى المرأة ما كان بعلمها ولا رضاها، بل قد كان الكيد بها، والمكر والخديعة عليها.
وما كان يخفى على إبراهيم – رحمة الله وبركاته عليه – هذا الكيد، وقد كتمه ليعذِّب ضمائرهم، ولعلَّهم يرجعون، دون أن يوْقِعوا آخرين في فتنة شهادة الزور الموجبة للطرد والإبعاد من رحمة الله.. والرعيةُ عوامٌّ ومغلوبٌ على أمرهم.. وهو يعلم حالَهم الموجبةَ للإشفاق.
كذلك لاحتسابه الصبرَ وإرادتِه ثوابَ العفو والصفح.
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ. صدق الله العظيم.
الفرع الثاني:
محنةُ السجن العام على طريق تزكية الدعوة
من المعلوم أن أي قضية مدنية، أو جزائية، أو شخصية، لا تتجاوز دائرة الاختصاص الأوَّلي، ولا يجوز تجاوزها إلا بعد أن تستكمل الإجراءات اللازمة، ثم ترسل إلى جهة الاختصاص الثانية إذا لزم الأمر.
أما هذه القضية فقد لزمها التجاوز برفعها إلى محكمة القضاء درجة الاختصاص الثانية مباشرة، كما أنَّـها لم تصل المحكمة إلا وقد سبقها من رفعت ضده بشهر تقريباً، وذلك بعد أن أَلِفَ سجن الشرف، وألِفَ نُزلاءَه وشاوِشِيه وزوارَه، ليس باختياره، لكن مصحوباً بحرسيِّ السلطة.
ولم يُطْلَب للمحاكمة إلا بعد أن فتح دروساً في السجن للقرآن الكريم وتجويده، ودروساً في العقيدة، والفقه، واللغة العربية، ودروساً في الثقافة العامة محتفياً بحرصه مختاراً، وفاءً بواجب نشر العلم.
ويوم أن انتبهوا لنشاطه في السجن، والناس فيه قد فقهوا، ومن السجناء من قد تخرج داعيةً ومرشداً ومبلغاً، بقدر ما علم وفهم، خاصة في تصحيح عقيدة التوحيـد التي شابَها الشركُ بالله وأفسدها ظلام الجهل، وإدخال البدع والخرافات عليها حتى أصبحت من الدين بالضرورة في أكثر مناطق اليمن، وفي قضاء الشرفين بصفة خاصة.
أثـمر تعليمه بفضل الله، ثـم بـجهده واجتهاده وحرصه على إبلاغ دعوة التوحيد للخالق سبحانه.
وقد كثَّف اجتهاده في تثقيف السجنـاء لِعْلمِه تفَرُّقَهُم في القبائل على مستوى قضاء الشرفين، وأنهم سيَكُونون رسلاً مبلِّغين في قومهم إذا رجعوا إليهم.
حينها – ولَمَّا علموا ذلك (أي: السلطة) – أدركوا خطر بقائه بين السجناء، فطلبوه لحضور المحاكمة أمام القضاء لسماع الدعوى المرفوعة ضده من وكيل المرأة الصُّورِي.
فحضر وهو يعلم مجرياتها، وأسباب تلفيقها، والهدف مِن ورائها، ومَن هم بُناتُها.. وما كان يهمه الدفاع عن نفسه فيما يُدَّعى عليه فيها، ولا دَحْض حجتها الباطلة ظاهراً وباطناً، بعلم اليقين لدى عامة أهل البلد المجاورين بأنها دعوى كيد وتربُّص..
وكان من السهل جداً فضحُها بطلب حضور بعض أفرادهم، وخاصة من كانوا معه، أو غيرِهم، ثم دحضَها بالشهود الحضور زمن ووقت الحادثة وبعدها باعتراف المرأة نفسها.
وغير ذلك مما كان بإمكانه تقديمه دفاعاً وحُجَجَاً داحضة لإبطال ما ادعوه وكذب وافتراء ما صنعوه ماكرين ومخادعين.
لكنه لم يفعل، ولم يطلب التأجيل لتقديم دفاعه، وإنما طلب يمين الوكيل على صحة دعواه.
فكانت الإجابة: أنه لا داعي لليمين، وقد صدر الحكم..!!
وما كان ذلك يخفى عليه لعلمه أن سجنه ليس هذا سببه، وإنما لأبعادٍ أخرى اقتضتها مصلحة المحافظة على النظام العام للسلطة المالكة بتقدير تقرير شلة عُـبَّاد المصلحة المتبلِّدين، والذين استُخدِموا لإيجاد السبب، هم فقط: أُجَرَاء مدفوعون، قَدَّموا بقدر مصالحهم الشخصية التافهة الأنانية.
لذلك كان من المفروض بعد الحكم والتنفيذ عليه: أن يتمَّ الإفراجُ عنه؛ لأن الحكم لم يقضِ بالحبس، ولم يتعرض له، وإنما فقط بتسليم دية غرة.
ونَفَّذَ الحكمَ بالتسليم في حينه؛ حيث باع مالاً زراعياً من بلاد مسروح في أرض المصلعية، المعروفة عند أهلها.. بـمبلغ: مائتي ريال فرنسي (عملة فضية: ماريت ريزا)، سلَّمها بموجب الحكم دية غرة مقدرة أمة..!!
وحقيقتها: حزمة حطب..!
لكن إبراهيم أُعيد إلى سجنه، ليس العام؛ وإنما زنزانة صغيرة، وحيداً يُسمح له بالخروج منها لأداء الصلاة، والجامعُ على بابـها.
الفرع الثالث:
السجنُ الخاص، ونتيجتُه الإيجابية
لَمَّا رجع إبراهيم إلى السجن بعد حضوره تلك المحاكمة الصورية المفتعلة، لم يجد ذلك السجن الفسيح الذي خرج منه للمحاكمة ليعود إليه بعدها، وإنما وجد نفسه داخل زنزانة منفرداً، وبحارس خاص ومرافق كظله، وهذه كانت ميزة انفرد بها عن غيره من السجناء، وأيضاً اكتُشِفَ أنه مُنِح حرية خاصة فَضَّلت الزنزانة عنده على السجن العام؛ حيث أعطي حرية الصلاة في الجامع، ليس مع الجماعة لكن عقِبها.
كان منحها بفعل تفقيهه وتعليمه الحرسيِّ المرافق والذي قام بدوره للتعريف به سراً لصالحه، لدى بعض الخاصة، قناعة من نفسه بضرورة السعي للإفراج عن الفقيه، الذي لم يعد يرى في سجنه ضرورة، غير توهم السلطة أنه يعارض سياستها.. وقد كان للمعارضة دور خاص حينها، ينذر بقلب نظام الحكم في صنعاء.
ولم يَبْقَ إلا أن يواجهه ببعض المسئولين في الجامع؛ ليشرح لهم مهمته، ولازم انحصار دعوته في تعليم الناس، وإبلاغهم سر الفطرة الإلهية، والمشيئة القدرية، التي أساءوا فهمها، وتفقيه الناس اقتضاء الصراط المستقيم الذي جهلوه، وبيان حقيقة التوحيد التي ضلوا عنها، وتخليص إسلامهم من شوائب القبورية السائدة التي حسبوها ورأوها حقاً، وظنوا أنهم بإسنادها مهتدون، وبمتابعة سُـنَّة سلفهم مثابون..!! عوائق على طريق الدعوة يلزمها التذليل، وقد وقع مبروراً.
فحصل اللقاءُ وتطوَّر، وسادت المعرفة، وزاد التعارف، وبدأت جدية المناقشة، ثم المناظرة العلمية بين الفقيه وأنداده، بعضهم من أنصار الـمذهب الـهادوي، أو من أتباع واقع سياسة منهجه، وملتزمي نحلة الاعتزال، وتكرَّر اللقاءُ ونَشِط الحرص وزاد الحماس حتى ظهر حقه عليهم واعترفوا له به وأقروه، فسرَّه هذا، وهيأ له فَتْح حلقة علمية في الجامع، بين المغرب والعشاء، وعقب صلاة الفجر إلى الضحى، وذلك في آخر مدة سجنه.
وكان اختياره تدريس القرآن الكريم تحفيظاً وتطبيقاً وأحكاماً وتفسيراً، ثم تدريس العقيدة من خلال: (كشف الشبهات)، و(تطهير الاعتقاد).
وقد بـارك الله جهـدَه، وآتت هذه الـحلقةُ خـيرَها، وأينعت تلك الدروس ثـمارها بتخريج ( ) رجالٍ يحملون عقيدة توحيد الخالق سبحانه، ونحلة السلف الصالحين والصحابة الصـادقين على منهاج سنة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم –، والتي قد تركها على البيضاء نقيَّة، والمتوعد من زاغ عنها بالهلاك، والموعود من قام عليها وحَفِظَها بالحياة.
من أولئـك: حسن بن إسماعيل المداني (عامل كُشر)، ومحمد بن علي المتوكل (عامل أسـلم)، وحاكمـها/ محـمد الشهاري، وغيرهم سادة ومَسُودِين.
ويوم خلاص الشيخ/ إبراهيم من زنزانة الشرف.. كان بمناسبة فتح نائب حجة لملف مشاكل قضاء الشرفين، وهو في اجتماع خاص بعمال القضاء، بدءوا افتتاح جلستهم باستعراض ملف إبراهيم بن يحيى الطيب، فلما سمع النائب هذا الاسم عارض مستعرضه قائلاً:
" هذا المتهم مطلوب لِقَلْعَة حجة "، مضيفاً استغرابه بقوله:
" وإن تعجب! فالعجب أن يوجد في هذا اللواء من يدعو القبائل ويقودهم إلى التحَرُّر، وهو يوهمهم بأنهم في ظلام، ويُعرِّض بأئمة أهل البيت، وينَدِّد بالمُلْك القائم، ويُحرِّض العامة على التمرد والعصيان للدولة "!!
وفي الأخير: يوجه بقوله:
" أرسلوه إلى حجة مغلولاً، بَسْ ".
الفرع الرابع:
انتهاءُ المحنة
دفاعُ الله يتدخل ليُنهي سجن إبراهيم (المجاهد في الحق) – رحمة الله وبركاته عليه –
لأول مرة تُداخل بسْبسَة النائب ثم تُعارض في مجلسه وهو ينصت ويستجيب.
وإن تعجب! فالعجب كيف حوَّل الله (بَسْ): تم.
وذلك بانطلاق حاكم أسلم/ الشهاري في الكلام والشاب النبيل/ المتوكل بلسان واحدة ومجموعة ألفاظ متساوية:
" يا مولاي النائب، إن ما بلغكم عن العلامة/ إبراهيم الطيب عارٍ عن الصحة والواقع ".
فإذا به ينصت ثم ينطلق لسانه مردداً:
" كَيْفِهْ كَيْفِهْ كَيْفِهْ "!!؟.
فتكلم حسن بن إسماعيل قائلاً:
" نعم يا مولاي، والله إن العلاَّمة/ إبراهيم الطيب المسروحي مظلوم وقد دَسَّ عليه خصوم من أهله وكذبوا عليه وافتعلوا ضده قصة صورية وخيالية منسوجة.
وأنه ليس في شيء مما أُشيع عليه، وقد سمعنا منه وبلغنا عنه ما يُبَرِّئ ساحته، ودروسه عظيمة في إرشاد الناس وتعليمهم.
وكل حديثه في فقه العبادات، والسيرة النبوية، والقرآن الكريم وتجويده، والمذاكرات العلمية، ونحوها كل يوم في مسجد المركز (دار الشرف) ".
فقال موجهاً كلامه إلى الحضور ومشيراً بيده:
" أوَ قد خَدَعُكم "؟.
فأجابوا:
" الحق يا مولاي أنه مظلوم وهذا هو الصدق ".
فقال مخاطباً لهم:
" هيا، وما عَد باقي ما تطلقوه! وهذا عليك يا سيدي أحمد.. أنتَ تَلقاني بالفقيه لدار الشرف أبْسِره ".
فطَلَب المهدي إبراهيمَ إليه ليحضره إلى مجلس النائب، وكان ذلك صبيحة يوم جمعة..
ولما رأى النائبُ شاباً رفيع القامة دقيق الجسم يدخل عليه مبتسم الثغر باهي الوجه منشرح الصدر وهو يسلم سلاماً عادياً لا تكلف فيه.
قال له:
" ما لك لا تخص سادتك بسلام "؟
فأجابه:
" يقول الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ( )، ولا أريد أن أشق عليكم ".
فقال النائب:
" وما أدراك أننا سنرُدُّ بأحسن "؟
فأجاب إبراهيم:
" آلُ رسول الله لا يختارون دون الأفضل ".
عند ذلك نظر النائب إليه نظرة إعزاز وإكبار وأجلسه إلى جانبه وفتح معه الحديث مضيفاً استعراض الأوضاع السائدة في المنطقة وحالة الجهل الآسن وقد رانت به القلوب واستمرأته العقول..
ولا زال في الاستعراض حتى طاب الحديث وجدَّت المناقشة..
ثم تعقب لازم وجود دعوة إسلامية إيـمانية تمحوا آثار مسميات الـجهل، وتقطع دابر أسباب التجهيل.
واتفقوا على تـمثلها في التعليم والتوجيه والإرشاد، وإزالة المنكرات القائمة بفعل مخالفة فطرة الإسلام وبرفض مقومات منهج رسالة الإيمان بسبب الجهل القائم بالأمية.
وعليه: كان منح إبراهيم مرسوم حق التنفيذ المطلق، وقد أرضاه هذا رداً لاعتباره، لكنه ألَحَّ على ضرورة إرجاع الـمُصادَر من كتبه مؤكداً بخاصة على مجموع ملازمه ومذكراته لما تحوي من جمع خواطره وما تحكيه عن ثمرة جهده وكفاحه.. (ولا أرى إلا أنها تعني تاريخَ حياتِه وتتضمن جليلَ بُناةِ أفكاره).
ولقد تَفَاجَأَ بالجواب:
" أنها ضلَّت طريقَها ولقيتْ مصيرَها بالقصد والإرادة ".
(فما حزن على شيء أصابه دونها، ولا فتنة أفزعته سواها).
ثم انصرف وهو يرفض تعويض فتنته في الله، ومكافأة ابتلائه وإيذائه فيه.
وهو يرُدُّ أيَّ قيمة لمجموعة كتبه وملازم مآثره الـمُصادَرة والمؤمَّمة، انصرف وهو يردد:
" حسبنا الله ونعم الوكيل، هو مولانا ونعم النصير ".
انصرف سالكاً طريق المسجد الجامع فدخله متوجهاً ومستقبلاً بفعله تحيته شطر قبلته.
وقبل خروجه من ركعتيه جاءه البشير متهللاً بإطلاق سراحه وبتفويضه المطلق في حرية إبلاغ الدعوة والإرشاد والتعليم، مع منحه التصريح بإزالة البدع وتغيير منكرات الشرك وموبقات الأهواء..
ثم تكليفه بإلقاء خطبة الجمعة يومها، ليس لاختبار موهبته وإنما لأمر آخر..
وقد حدد له موضوعها: (في نطاق الحياة الطيبة).
ولَمَّا دخل وقتها تقدم إلى منبرها فاستقبل الناس وسلم عليهم، ثم جلس يتابع ألفاظ الأذان..
ثم نهض مستهلاً خطبته بحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله وصحبه أجمعين.. فقال:
" أما بعد:
أخوة الإسلام والإيمان:
إن كل ما خلق الله من نفس منفوسة على هذه الأرض فإن صاحبها يطلب ويبحث عن الاستقرار والأمن والراحة ليحيا حياة طيبة مليئة بالرفاهية والبهجة والسرور، ويسعى لإيجاد أسباب كفيلة بالاستمرار في جو نظيف ومظهر جميل.
والحياة الطيبة كانت ضمن الأهداف التي جعلها تبارك وتعالى جزاءً على الأعمال الصالحة كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ).
ولا يمكن توفير هذا الجو في الأمة إلا إذا أدى كل فرد فيه واجبه نحو أخيه ونحو الجماعة، ونحو الأمة التي هي جزء منه وهو واحد فيها.
ولا يمكن أن يجدَ الأمنَ من يقوم بالظلم، ولا يهنأَ بالاستقرار من يصدر الخوفَ والرعب، ولا يشعر بالاطمئنان والراحة من يمنع الحقوقَ ويرفض أداءَ الواجبات وهو يتلهى ويتلذذ بمرأى ومسمع المعذَّبين وصيحات البؤساء والـمُعوِزين والتعساء والمحرومين.
والله لا يرحم من عباده إلا الرحماء، وفي الحديث: »ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء..« ( ).
وما لم تسُدِ الرحمة بين أصحاب تلك النفوس المجندة وتكن هي عماد المعاملات القولية والفعلية، وما لم يكن العدل فيها قائم والإنصاف سائد يتفيأ ظلاله كل كائن حي إلى فصيلة الحيوان من العجماوات.
وقد أَدخلتِ الرحمةُ بكلبٍ رجلاً الجنة؛ إذ نزع له مَوْقَهُ أو خُفَّهُ فسقاه بعد أن كاد يهلك من العطش.
كما أَدخلتِ القسوةُ والجَورُ والغِلظةُ وجوظُ الجفاءِ امرأةً النار لحبسِها هِرَّةً، لا هي أطعمتها ولا هي سقتها، ولا تركتها تأكل من خَشاش الأرض.
فالظلم والحيف عن العدل من أعظم أسباب تحطيم عروش الممالك والأمم وتدمير الأخلاق والقيم، وكل مبدأ سليم أو نهج مستقيم.
لذلك يقول ناصر السنة وقامع البدعة/ أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية – رحمه الله تعالى –:
" يعز الله وينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ويهزم الله ويـمحق الدولة الظالـمة وإن كانت مؤمنة " ( ).
والعدل من مبدأ الأخلاق الذي تحيا به الأمم وتسود وتسعد وتطيب، كما قال الشاعر ( ):
وإنما الأمم الأخلاق ما بقِيَتْ
فإن هُمُ ذهَبَتْ أخلاقُهم ذهبوا
أيها الأخوة المؤمنون والقادة المهتدون: إنه لا يسعنا جميعاً أفراداً وجماعات وأمة إلا الإسلام ذو العقيدة السليمة والمنهج المستقيم والإخلاص المتناهي والقدوة الحسنة والعمل الملتزم والسلوك النظيف.. حتى نكون شامة وغرة في جبين الأمم الضالة والشاردة وشجرة خضراء في صحراء قاحلة مُقْفِرة.
وإنني لا أخفي عليكم أننا اليوم وفي هذا الوقت والزمن النحس العصيب بأمسِّ الحاجة إلى مقومات السلوك الحافظة لعقيدة التوحيد الخالص السليم لدينا، وقيم المؤمنين وأخلاق الصالحين ومبادئ شريعة رب العالمين المبلغة على لسان سيد المرسلين وقائد الغر الميامين/ محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – وآله وصحبه أجمعين، والتي هي اليوم محاطة بالظلمة بل بطبقات الظلمات.
إن الحياة الطيبة لا يجوز أن تفهم على أنها رغد العيش العاجل ومتاع المظهر الفارِه والملك القائم ذي الـحدود المصطنعة والتقاسم الـمفروض من قِبَل الاستعمار الصليبي الإلحادي والصهيوني التوسعي العالمي.
إن دولة إسرائيل ستقوم بفعل عنصرية العربية وقومية البراذن وجاهلية التوافِه.
وإن بدأها في مقابل انتهاء، وعنَّها في مقابل خنوع، وصحتها في مقابل مرض، والنتيجة شموخ العرقوب.
ولا حياة طيبة لمسلم في وجود هذه المقابلات السلبية المريضة، بل هي تموت في مقابل حياة إيجابية عكسية مضادة، وحياة الإسلام وفخر أنامه ليس بأقل من إقامة علم الجهاد، كابح غرور أهل الغي والفساد والعناد، والشر والشَّرَه والاضطهاد، على أخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت.
لقد تقهقرت الدولة الإسلامية بعجز شيخوخـتها، وهرمت بخناء أمرائها، ثم ماتت بتآمر أبنائها، ووارى جثمانها هيبة عدوها.
وإن سعينا جميعاً يوجبه حرصنا على الحياة الطيبة بإيجاد آلية لجمع كلمة المسلمين ولَمِّ شعثهم، وإعادة وحدتهم بداية بغرس الشجرة الطيبة عن طريق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كَلَّ حِيْنٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ( ) إلى كلمة حقٍ عند سلطانٍ جائر.
ونهاية بإقامة علم الجهاد ذروة سنام الإسلام، وأعظم أسباب عزة المسلمين والذي يكون بتركه أعظم أسباب ذِلتهم وهوانهم.
كما قال – صلى الله عليه وآله وسلم –: ».. ومـا ترك قـوم الـجهاد إلاَّ ذَلُّـوا« ( ).
وقوله – عليه الصلاة والسلام -: »إذا رضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلَّط الله عليكم ذُلاً لن ينـزعه عنكم حتى تُراجِعوا دينَكُم« ( ).
ولا شك أبداً أن التزامنا حكاماً ومحكومين بهذه المقومات من أعظم الوسائل المحققة وحدتنا وعقيدتنا وأخلاقنا وتماسكنا أمة واحدة من دون الناس ذات عبادة وهدف وغاية، بمتعة نفسية وحياة طيبة هنيَّة، وذات تواد وتراحم وتعاطف.
إنها أسباب عظيمة وكريمة يتحقق بها شد عود وحدة المسلمين وتثبيت جذور أوتادها وأطنابها، وبقاء رايتها في الدهر قروناً.
وإن هذه الوسائل لهي القوة الروحية والمعنوية الحامية لهذه الوحدة من غدر الغادرين ومكر الماكرين ودحر كل من يطمع في النَّيل منها.
وهي ما لم تكن من داخلها متماسكة مرصوصة البنيان فلن تكون أمام عدوها حصينة صلبة مخيفة..
لذلك كان البناء الإسلامي للمجتمع المسلم هو البناء الوحيد الذي يجعل هذه الأمة سعيدة في داخلها مرهوبة من أعدائها خارج نطاق حدودها.
ويوم نتهاون في واجبنا الاجتماعي والثقافي القائم ونترك الناس يهيمون على غير العقيدة السليمة وخارج العبادة الصحيحة ودون توظيف الإخلاص المتناهي أو غير المتناهي فإننا لن نجد من أنفسنا غناءً ولن نجد من الله نصيراً، وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ، إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
وإن النصر مع الصبر، والقوة بالتحمل، والإرادة بالتجلد، ولن يَغلِب عسرٌ يُسرَين.
فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرَاً إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرَاً ( ).
ونصر الله حاصل بالانتصار لدينه وشرعه ومنهجه، وهذا هو وعد الله، وإنه
لواقعٌ بشرطه.
إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ( ).
كذلك من أسباب الحياة الطيبة إصلاح ذات البين، فإن إفساد ذات البين هي الحالقة، لا حالقة الشعر ولكن حالقة الدين( ).
وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِيْنَ ( ).
وفُرقة المسلمين كانت نتيجة الإفساد لذات البين، وقد بدأت بالتنازع وانتهت بالمقاطعة إلى أن خلت خطوط التماس من الحراسة، وهجم العدو بسبق الإصرار والتربص القاصد المراد.
وحاصله بمخالفة أمر الله ونهيه المفهوم واضحاً من قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعَاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنَعْمَتِهِ إِخْوَانَاً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( ).
نفعني الله وإياكم بهدي كتـابه، قلت ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ".
ثم جلس ونهض وقال الخطبة الثانية..
فلم يزِد فيها على حمد الله والثنـاء عليه والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والترضي عن أهل بيته الطاهرين والصحابة أجمعين..
ثُم الدعاء لولاة أمور المسلمين وخاصتهم وعموم المؤمنين.. ولكل من حضر الجمعة واستمع وأنصت.
وهذه الخطبة من جملة مآثره – رحمه الله وغفر له – وكان من حقها أن ترِد في مكانها حسب التبويب، إلا أنَّ سَبْقَها هنا كان لمناسبة.
الفصل السادس
الفصل السادس
مقوماتُ التزكية والإخلاص في دعوة المجاهد
ويخصُّه تقريران:
التقرير الأول: التمهيد، الجاري عليه تقرير الإخلاص.
التقرير الثاني: انتصار الدعوة في تحطيم معاقل الأوثان.
التقرير الأول:
التمهيدُ، الجاري عليه تقرير الإخلاص
إن من أهم المقومات الدالة على صدق دعوة صاحب هذا الوصف تأثيره في النفوس على مستوى عامة الناس وخاصة المسئولين المعنيين بالأمر بدليل ما سنرى من صنيع خطبة الجمعة تأثيراً مباشراً في نفس المسئول عن سجن مؤديها ومُلقيهـا تأثيراً يتحـقق به إصـدار قرار النصرة للحق الذي يدعو إليه المجاهد فيه/ (إبراهيم بن يحيى بن حسن الطيب) – رحمة الله وبركاته عليه – والذي ما إن سمعه هذا المسئول – وصفته: نائب الإمام في الحكم والأمر في ذلك اللواء الواسع القائم عليه تفويضه – ما إن سمعه وتمهَّل إلى أن انتهى من خطبته وصلاته حتى أعلن تحوُّله عن فكرته التي قرر بها سجنه في حجه (بَسْ).. إنه الإخلاص لله.
وقد سبب إنهاء محنة المجاهد وفتنته فيه سبحانه ليعلم صدقه ويحقق توفيقه.
نهض النائب متجهاً صوب إبراهيم في قبلة المسجد مادَّاً يده إليه لينهضه عن مجلسه حتى استوى قائماً فاحتضنه وهو يعلن قوله: " لك علينا حق النصرة والإعانة، وأن مولاي الإمام – أيَّده الله – لا يُقِر ما يفعله الناس حول القبور "( ).
وأنت في طريقك لِتغيير المنكر حسبما تراه مناسباً..
ثم يصطحبه إلى دار الضيافة.. ويعرض عليه عملاً يستلزم بقاءه للحاجة إليه.. وهو يمنحه مقرراً كأمثاله.. وبقي يلح عليه ويرغبه..
فأجابه بقوله:
" والله ما كنت لأستبدل دعوتي بِحُمُرِ النَّعَم وقد جعلتها لربي وقفاً لعشيرتي الأقربين أولاً، ثم لمن يليهم جواراً حسب تمكني بإرادة الله تعالى ثم إن فرضي إنقاذهم من موبقات الجاهلية القائمة فيهم والآخذة بهم.. وسنتي دعوة من خلفهم، فإذا قضيت الواجب وفعلت السنة انتقلت عنهم لأداء مثلها في من سواهم.. والأجل والأمل كفرسَي رهان وما لم يكن لي قصب السبق قطعني دون الوصول إلى الله وخسرت جائزة الإخلاص لتباطئي في تقديم الأولى وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنْثَى وَمَا تَغِيْضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّشَيءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ( )، وأراني آخذ بالأولى رجاء عون الله عليه.
وإني لغريب حال في الزمن العاجل وعابر سبيل إلى حياة الآجل ولا أدري ما الذي هو مقطوع لي به ولا ما هو مكنون عليَّ فيه.
والأعمال بختامها وأسأل الله لي ولكم حسنها.. واختصاص الله تعالى بعلم نهاية الآجل يحتم علينا التزام قصر الآمال..
إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ الساعَةِ وَيُنَـزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِيْ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدَاً وَمَا تَدْرِيْ نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوْتُ.. ( ).
وإنه لا يسعني إلاَّ جزيل شكركم لحسن ظنكم، وإلاَّ الإعتراف بجميلكم لتعقل تدبيركم، وَلكَم أوصل سوء تدبير أقوام إلى دركات تدميرهم، وما كانوا أوهنوا مكيدهم بكيدهم، بل دمر الله عليهم بمثل ما حصل للكافرين.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يبقى إلا أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر رجاء ثبات حقيقة الإيمان على ما جاء في تقرير الله تعالى: َالَعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ".
فلما رأى النائب هذا الاعتذار من الشيخ/ إبراهيم أعذره ووجَّه بمفهومه إلى من حوله، مضيفاً:
" إن هذا لا أمل لنا فيه بما نريد فأعينوه على ما يريد ولا تطمعوا فيه من يكيد له، وأظهروا حجته بالوقوف إلى جانبه إن طلب منكم ذلك رجاء المشاركة في الأجر "..
فقال الحسن ابن إسماعيل (عامل كشر):
" أنا يا مولاي النائب أعينه ".
فقام وذهب إليه وأخذ بيده.. ثم تبعهما عامل أسلم، وحاكمها/ محمد بن علي المتوكل، والقاضي/ الشهاري، ثم خرجوا وهم يودعون النائب ويصحبون إبراهيم في طريقهم إلى مَقَارِّ أعمالهم وهو إلى أهله.
التقرير الثاني
انتصارُ الدعوة في تحطيم معاقل الأوثان
ويخصُّه فرعان اثنان:
الفرع الأول: معقل: (أ) – مزار قبر علي بن أحمد.
الفرع الثاني: معقل: (ب) – شايع حربي: مزاره المشهود، ومحرابه المرهوب.
الفرع الأول:
معقل: (أ) – مزارُ قبر علي بن أحمد
إنه المزار الأعظم في أعين رواده وقلوبهم، إنه مزار على بن أحمد، سيد الغربي بالسربة، أحد أحياء قبيلة بني حملة، ثالث قبائل خيران، والوسط بين قبيلتي مسروح والخميسين من قضاء الشرفين (المحابشة).
إن هذا المرقد أول المراقد عظمة وهالة بين المراقد الكثيرة على مستوى مناطق حازات تهامة وعامة سفوح جبال حجة.
إنه المرقد والضريح الذي يعمه كل عام ما يزيد على آلاف من البشر تقريباً قاصدين ومريدين، وثلاثة أمثال هذا العدد.. يحجون إليه في الأسبوع الأول العاقب لعيد الأضحى المبارك، أو في الأسبوع الأخير من رجب وبالتحديد: ليلة (سبع وعشرين)، وهم يطوفون به رُكَّعاً وسُجَّداً ومقدِّمين الهَدي والنذور، وأنواع القرابين وهم يرفعون أصواتهم بالبكاء والعويل وشق الثياب، ونتف الشعر في اليوم الأخير من ذلك الأسبوع العاقب لعيد الأضحى، وهو ما يُسمى بيوم الغدير (غدير خُم) الموروث من عقيدة غُلاة الشيعة الباطنية والرافضة..
ومن خصوصيات هذا اليوم: رفع الراية السوداء لاعتقاد أن الراقد تحت ظلالها مغضب ومستاء جداً لمخالفة المسلمين حسبما يدعون نص الوصية المعلنة لِعلي – عليه السلام – يوم غدير خُم بقوله – صلى الله عليه وآله وسلم -: »عليٌّ مِني بمنـزلة هارون من موسى، وهو الخليفة من بعدي، من أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، ومن كان عليٌّ مولاه فأنا مولاه..« ( ).
وبمثل ما هو مغضب ومستاء – أي: صاحب القبر – من الذين لم يوالوا علياً ولم ينفذوا الوصية ولم يعطوا البيعة فإنه كذلك مشفق لحالهم وحزين عليهم يوم يُذادون عن حوضه – عليه السلام – ويُطرَدون وهم يتحسَّرون عاضِّين أناملهم من الغيظ، ما لهم لم يكونوا مع أبي تراب؟..
أمَّا هؤلاء الزوار والعاكفون بقرابينهم لانتظار اليوم المشهود يوم غدير خُم تعظيماً لشأنه وتقديساً لجلال ما تم فيه.. فذلك حري بأن يشفع لهم ويقبل به اعتذارهم بانكسارهم وقد جاءوا متضرعين جائرين إلى وليهم معلنين براءتهم مما فعل سلفهم من نصب العداء وعدم الموالاة..
لذلك فإنهم اليوم يعتذرون ويعلنون الولاء نيابة عن المسلمين ويقدمون البيعة لعلي – عليه السلام – عن طريق نائبه والواسطة بينهم وبينه: راقد هذا القبر السيد/ علي بن أحمد والمفوض في قبول الاعتذار وسماع الشكوى والنجوى واستقبال العطايا والهبات والقرابين والمنح عليها عظيم المطلوب والمرغوب.. ودفع المرهوب.. ورفع البأساء والضرار وجور السلطان.. وشدة البأس.. إلخ!!.
إن هذا اليوم يشبه في تدفق الناس وتقدمهم على قبة القبر ومنارات شرفاته يوم رمي جمرة العقبة، صبيحة ليلة النفير إلى مزدلفة والإفاضة من عرفات بعد المبيت في المشعر الحرام.
إلا أن يومها يحمل الحجاج فيه حصى الخذف لرمي الشيطان وإغاظته طاعةً لله واقتداءً بِنَبِيِّه/ إبراهيم – عليه السلام –.
أما يومها فيحمل الناس فيه الآلات والوسائل ذات الأصوات القاصفة كالبندقية ونحوها، طاعة للشيطان واستجابة لدعوته.. كذلك الرايات ترفرف في أيديهم ويلوحون بها تعظيماً وتقديساً لصاحب القبر، وإعلاناً للطاعة وإظهاراً للتذلل والخضوع والانكسار بين يديه اعترافاً وتسليماً بضره ونفعه..
وهم يبدءون المسيرة وُفُوداً على بعدٍ مُعيَّن وبأسلوب مبرمج وطريقة منظمة يؤدون بها تلبية خاصة ذات هتافات شركية باسم الولي.
وعند الوصول إلى القبر بقبته المتميزة وشُرُفاته المجصَّصة لا يكتفي كل وفد بفعل مجموعة طقوس القدوم المعقدة والمكلفة والشاقة لمرة واحدة وإنما البقاء عاكفين عليها منذ وصولهم يوم غديرهم وليلته خارُّون على الأذقان يبكون خُشَّعاً وهم راكعون، ذاهلون وهو ساجدون.
ولِلَيلة الرَّجَبِيَّة شأن عظيم حول القبر..
وما كانوا يرون أو يعتقدون أنه يغنيهم أداء عبادة لله بمثلها ليلة القدر حول البيت العتيق.
وفي ليلة النصف من شعبان ينتظرون توزيع الأرزاق..
وفي اعتقادهم أنها الليلة التي يُفْرَق فيها كل أمر حكيم.. وفيها مَن يأخذ رزقه بالاغتراف.. ومَن حظُّه في كوع الحمار..!!.
كما يعتقدون أن لصاحب القبر دخل في تحقيق طلب زيادة الرزق لكل عاكف عليه أو معتكف عنده وطوَّاف حوله..!!!.
لقد كان امتحان إبراهيم – رحمة الله وبركاته عليه – وابتلاؤه بالسجن تمحيصاً له ومحقاً للأوثان وعابديها، وتحطيماً لمرتزقة المصالح وأصحاب الأهواء، وسحقاً لجاهلية التقاليد والعادات السيئة الرذيلة..
ثم هي مرحلة من مراحل حصاد الإيمان عنده وتقويةً وتقويماً لشخصيته ووسيلة لنضوج دعوته وفكره، حيث تلقَّى في مدة سجنه جرعةً تنشيطية في فقه المواجهة، وبصيرة في إرصاد من يحارب الله ورسوله خفية ودون الجهر بالقول والفعل غدواً وعشياً، ففضحهم وشل مصالحهم وهدَّ عزمهم وحيلتهم.
وفعلاً كانت محقاً لأولئك الذين رأوا أنها حقيقة انتصار للوثنية التي كادت وأوشكت هزيمتها وأهلها على النهاية. بل كانت وصلت قاب قوسين أو أدنـى في محو آثار عبادتـها وشل حركة سَدَنَتِها.. خاصة بعد هدم تلك القباب والأوثان الأولية.. قبل مرحلة السجن.. وأثناءها وقعت فتنة الناس باستغلال فُرص بث الدعايات التحذيرية والتخويفية من الجن والأولياء أصحاب تلك الأنصاب والأوثان وقد مُنعت عبادتها وأزيلت أعلامها من قِبَل إبراهيم ولم يؤخذ على يده أو يُمنع انتصاراً لها فإنها الآن تنتقم منه لنفسها أخذاً بحقها، وستنال ممن اشترك معه أو أعانه رضاً سكوتاً أو قولاً أو هدماً بالمباشرة والفعل فإنها تنالهم جميعاً بغضبها وسخطها كما انتصرت بِسِرِّ فضلها على ذلك الناصبي..!!
ثم ما فتئ أولئك المشركون المرجفون يشيعون في الناس أن أحمد عِمْران، وابن الطير، وسيد شالف، ومريم جنية قد تعهدوا أن يفتكوا به ويهلكوه في السجن، وما أهلكوا إلا أنفسهم بشركهم وحاق بهم مكرهم فأصبحوا خاسرين.
إنهم خسروا برجوعه ما كانوا يتمنون من نهايته ثم ما كانوا أثروا به من دعايات وأباطيل ظنوا أنها مانعة لهم من الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
عاد إبراهيم إلى قومه رضيَّ النفس طيب الخاطر عاد وهو يحمل روحاً وثَّابة وإرادة قوية قاصدة.
لم يتوانَ ولم يؤخر ولم يؤجل إنكار المنكر والنهي عنه بل تغييره وإزالته باليد، والاستعانة بمن تاب معه ثم بمن اهتدى من قومه، أو بمن ربَّى من أبنائهم وأصلح من الشباب والأتراب.
لم يمهل المرجفين إلى أن يُقَدِّروا ويدَبِّروا ما به يمنعون ويحمون أوثانهم من أيدي التغيير الطاهرة، ولم يتركهم إلى أن يتهيئوا لِصَد رجال الإيمان عن هدم قباب الشرك أوليائهم ومعبوداتهم من دون الله.
إنه بادرَ بالعزم على تسوية شُرُفات قبر علي بن أحمد، وإزالة قبته العلية ومنارته المتميزة تنفيذاً لعهده ووفاءً بوعده على أنه لن يمهل في إنكار أي منكر أو يتوانى في إزالته حتى يُظهر عليه الحق ويُلزم خصمَه الحُجَّة..
إنه عزَمَ ونفَّذَ الهدم مستعيناً بعامل كشر تلميذه المتأثر بدروسه وحلقاته التعليمية ولقاءاته العلمية وهو في حبس الشرف.. كما سبق تفصيله.
ثم استعانته بأولئك الشباب المؤمنين من طلبته وغيرهم من أهله وقرابته..
كل هؤلاء أسعدهم هدم مجموعة مباني وشرفات ومباني قبور الشرك والوثنية، بل زكى نفوسهم، وطهَّر قلوب قوم آخرين.
وقد بدأ الهدم والشباب حوله لحمايته من أي اعتداء وكان أول عمله إنزال بوابة الدخول إلى الضريح ولما سقط بعد معالجته أقبل الناس من كل مكان في المنطقة المجاورة وممن حولهم والهدم مستمر ولما رأوا الجِدَّ بدأ منهم من يشترك ومنهم من ينتقد.
ومنهم من يسخط ويهدد ويتوعد، ومنهم من يحذر من غضب صاحب القبر وبطشه، ويتبرأ مما سيحصل للفاعل والراضي والساكت..
تأثير خطبة الجمعة بعد سقوط نصب القبر:
ولما كان الانتهاء من جل معالمه بعد جهد من العمل المتأني.. في الهدم وكان يوم الجمعة، وقد اجتمع خلق كثير وحانت خطبة الجمعة فقام بها وأداها كما يلي:
ولنلاحظ الفرق بينها وبين خطبة المحابشة وكيف فقهه في مخاطبة الناس على قدر استيعابهم وفي نطاق فهومهم لِئلاَّ يكذب الله ورسوله عملاً بالأثر الصحيح الوارد في هذا المعنى.
قال بعد حمد الله والثناء عليه.. والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه أجمعين:
" أما بعد:
أيها الناس، أيها الآباء، أيها الأخوة، أيها الشباب، اعلموا أن الله لم يخلقكم عبثاً ولم يتْرُكُّم هملاً، وقد أرسل محمداً – صلى الله عليه وآله وسلم – هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً أرسله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
جاء – صلى الله عليه وآله وسلم – بالحنفية ملة إبراهيم عقيدة التوحيد، وما من نبيٍّ إلا أُرسل بها إلى قومه كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّيْنَ حُنَفَاءَ وَيُقِيْمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِيْنُ القَيِّمَةِ ( ).
جاء محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – نبياً ورسولاً إلى قومه يبشرهم وينذرهم بعد أن غيَّروا وبدَّلوا ملة إبراهيم واتخذوا بدلاً عنها الشرك بالله – عزَّ وجلَّ – الذي أفسدوا به، وأبطلوا كل أعمالهم الصالحة؛ لأن الله تعالى لا يقبل من عبده صرفاً، ولا عدلاً، ولا صلاةً، ولا زكاةً، ولا صوماً، ولا حجاً، ولا بِراً بوالدين، ولا صدقةً، ولا أيَّ عملٍ صالحٍ ما دام مشركاً بالله – عزَّ وجلَّ –.
والشرك بالله هو الذنب الوحيد الذي لا يدخل مع وجوده صاحبه الجنة لأن الله لا يغفره إذا مات صاحبه وهو على غير توبة منه لأن الله يقول: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.. ( ).
إَنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ( ).
جاء الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – وأهل مكة يعبدون مع الله آلهةً أخرى بدعوى: أنهم يعملون ذلك لأنها تقربهم إلى الله وتتوسط لهم عند الله فيغفر لهم بواسطتها، وكانت تلك الآلهة أصناماً وأوثاناً، هُـبَل على صورة إنسان وحوله ثلاث مائة وستون صنماً صنعوها بأيديهم ثم عبدوها وطافوا بها..
وهي صورٌ لأناسٍ صالحين، لَمَّا ماتوا صوَّروهم ثم عبدوهم..
وهناك الَّلات: صخرة بالطائف كانت تُقدِّم العربُ لها القرابين ويطوفون حولها..
والعُزَّى: شجرة قرب مكة كان العرب يأتونها ويسألون حاجتهم منها..
وكل هذه المعبودات بُعث محمدٌ – صلى الله عليه وآله وسلم – لإزالتها وطمس معالمها وكلها أُزيلت بأمر الله؛ لأن رسالة محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى العالمين كانت من أجل أن توجه إلى عبادة الله وحده، كما قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ( ).
والقرآن الكريم يمثل الـمشرك بالهاوي من بُعدٍ إلى مكان لا يصل إليه بل يتقطع لـحماً في الـهُوِي، والطير تتخطَّفُه والرياح تُبَعْثِره قبل أن يصل إلى الأرض.
كما قال تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَو تَهْوِيْ بِهِ الرِّيْحُ فِي مَكَانٍ سَحِيْقٍ( ).
ولم ينتقل رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى الرفيق الأعلى حتى جعلها بيضاء نقية من كل شرك ووثنيـة أو خوف من جِن أو شياطـين.. بل إن الجِنَّ الذين كانوا يُخَوِّفون الناس لِيَحْملوهم على عبادتهم ولِيَطلبوا منهم الحماية والرعاية والحفظ حتى أرهقوهم كما قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقَاً ( ).
كل ذلك انتهى وعادت العرب إلى دين الفطرة وعقيدة التوحيد وزالت كل معالم الكفر بالله – عزَّ وجلَّ –.. وبقي الناس مسلمون مؤمنون على مستوى الجزيرة العربية كلها..
وحملوا راية الجهاد في سبيل الله ليدخلوا العَجَم في دين الله.. وقد فعلوا، وأولئك هم آباؤنا أهل اليمن وفيهم الأوس والخزرج وإليهم من آمن مِن عَرَب الجزيرة..
وقد أَدخلوا الناس في دين الله أفواجاً على بُعد المشارق والمغارب.
ونحن اليوم للأسف الشديد نتركُ دينَ الله ونرفضُ دعوةَ رسولِ الله ونخالفُ آباءنا المسلمين والمؤمنين ونرُدُّ جهادَهم ونعاديْهم ونعصيْهم وننبذُ طاعتَهم ونعقُّهم.
كل ذلك نفعله باختيارنا وإرادتنا ونحن نعيد عبادة الجاهلية بالبناء على قبور من كنا نعتقد صلاحَهم ثم نطوفُ بهم وننذرُ لـهم ونذبحُ لهم ونحلفُ بهم ونعظِّمُهم ونقدِّسُهم كما كان يفعل المشركون في مكة قبل رسالة محمد – صلى الله عليه وآله وسلم –.
كما أننا نخاف من الجن ونعتقد ضُرَّهم ونَفعَهم من دون الله ونُشركهم مع الله في العبادة، بل إن الكثير منا أصبح لا يخاف من الله، ولا يرجوه، ولا ينذر له، ولا يتوكل عليه، ولا يحلف به وقد جعل ذلك كله للأولياء والجن من دونه سبحانه.
إن كل ما نعمله ظلم والظلم ظلمات، أرأيتم لو أن لأحدكم ولداً وهو يؤكله ويُشربه ويُلبِسه ويحرص على صحته ويتعهَّد بمطالبه كلها، ثم إن هذا الولد يُعطي نفعَه وطاعته وعمله لغير أبيه فما تعدُّون ذلك الولد، وما تطلقون عليه؟
إنه لا يختلف منكم أحد أن يقول: إن هذا الولد عاصٍ وعاقٌّ ومتشرد ويستحق الضرب والعقاب والطرد من بيت والده. ولله المثل الأعلى، كيف نعلم أن الله خلقنا ورزقنا وعافانا، ثم نعبد غيره ونشكر غيره ونقدِّر غيره؟..
إن هذا ظلم وعصيان وعقوق لله تعالى نستحق عليه العقاب والعذاب.
وإن عبادتَنا بالذبح والنذر والخوف والرجاء والطواف بهذه القبور ظلمٌ وكفرٌ بالله وتعطيلٌ لحكمةِ الله مِن خَلْقِنا في أحسنِ تقويمٍ وأفضلِ مخلوقٍ بالعقلِ والتفكيرِ وبميزةِ الخلافةِ عن الله في هذه الأرض.
وإنه لإخلالٌ بالأمانة التي حَمَلها آدم – عليه السلام – وأَشْهَد اللهَ على ذريته ونحن منهم ثم حمَّلنا إياها وأَشْهَدنا على أنفسنا بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِيْنَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ ( ).
ولنعلم أن أصحاب هذه القبور لا تـملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ومن لا يـملك لنفسه هذه الأشياء كيف نطلب منه نفعاً؟ ولو كان يستطيع نفعاً لنَفَع نفسه.
والقبور بصفة عامة زيارتها مشروعة لكن للعظة والاعتبار وتذكر الآخرة والدعاء لأهلها المسلمين والمؤمنين بالدعاء المأثور وإن تجاوزت هذا فهو الشرك..
تقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون … إلخ( ).
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالِمِيْنَ لا شَرِيْكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِيْنَ( ).
والحديث: »كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة« ( ).
ورسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – بعـث وأرسـل من الصحابة – رضوان الله عليهم – من يهدم القباب والشرفات والحيطان التي كان بناها الجاهليون على القبور.
وقال: »يا علي، وأبعثُكَ على ألاَّ تدَعْ قبراً مشرفاً إلا سوَّيته، ولا صورةً إلا طمستَها« ( ).
لأن الصور كانت هي السبب الأول والرئيس في عبادة الموتى أصحاب القبور، صوَّروا صورهم لتذكر أعمالهم.. ثم عبدوهم من دون الله فأشركوا فأحبط الله أعمالهم.. والله يقول لرسوله – صلى الله عليه وآله وسلم –: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ … ( ).
وكل من أشرك حبط عمله، كما قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ) ".
كلمة حسن بن إسماعيل التعليقية بعد الصلاة:
انتهت خطبة الجمعة وأُقيمَ للصلاة.. ولما انصرف منها بالسلام قام حسن بن إسماعيل موضحاً بعض النقاط الواردة في الخطبة بخصوص البناء على المقابر مضيفاً بأن أصحابها ليسوا هم الذين أَمروا بالبناء على جثمانهم وتجصيص قبورهم والاحتفاء بها.. وإنما الناس الجهلة هم الذين عملوا ذلك.
ثم أنه وجَّه الناس بواجب التعاون مع الشيخ ومناصرته والدفع بأبنائهم للدراسة عنده، وواجب قبول نصحه وإرشاده، مؤكداً لهم أنه مستعد أن يلازم الشيخ هو بنفسه وقد فعل في المحابشة، ذاكراً كلما استفاده منه، وأنه الآن يعتبر غيثاً مدراراً أمطره الله على أهل هذه المناطق رحمة بهم لإخراجهم به من الظلمات إلى النور.. موضحاً عظيم الحُجة على من أعرض وأبى أن يتعلم، وشديد النكال والعذاب على من عارض أو تصدى لهذه الدعوة، ثم أشار إلى كلمة نائب الإمام في حَجة من إعطائه الفقيه الأستاذ/ إبراهيم بن يحيى الطيب الإذن المطلق بهدم القبور المجصص عليها ومنع زوارها من الإعتقاد في ضرها وتقديم القرابين لها بأي نوع أو صفة.
كلمة علي بن علي غوث( ):
قال معلِّقاً: " أما أنا فلا تفوتني الإشارة إلى نقطة أخرى أشارت إليها الخطبة وذلك ما عنته المقارنة بين جاهلية قبل الإسلام بما أوجدت من أنواع المعبودات حول الكعبة وفي القرى التي تقع خارج مكة ومن حولها.
والمعبودات التي أوجدتها جاهلية اليوم وأن هذه كتلك بل إن جاهلية اليوم يعبد أهلها غير الله وهم يشهدون ألاَّ إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فجُهَّال اليوم أشد جهلاً من جُهَّال عرب مكة قبل الإسلام ".
ثم انفَضَّ الجمع وكل فرد يتوب إلى الله ويستغفره ويعلن اعترافه ثم ندمه وهو يعاهد الله على ألاَّ يشرك بعد ا ليوم مع الله لا قولاً ولا عملاً ولا اعتقاداً، ويصرون في المطالبة بفتح مدارس على مستوى قراهم ويستعدون لتغطية تكاليفها ونفقاتها على حسابهم، وبهذا الجمع دخل الإيمان بعقيدة التـوحيد الـخالص إلى كل بيت من بيوت قرى خيران، وعلت (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) على الهتافات بالأولياء وبالجن وبالشياطين، والحمد لله رب العالمين.
الفرع الثاني:
معقل: (ب) – شايع حربي
مزارُه المشهود ومحرابُه المرهوب
موقع هذا المزار معزيبة المحرق، إحدى قرى قبيلة مسروح، شرق بيت الشيخ، حد التماس بين ناحية خيران وناحية أفلح الشام من الجهة الجنوبية الشرقية لناحية خيران والجنوب الغربي بالنسبة لناحية أفلح.
وهذا القـبر كان واحـداً من تلك الأوثـان الـتي تُشَد الرحال إليها وتقدم لها القرابـين بصفـة مصغـرة وبطريقة وهيئة أقل شأناً من مشهد قبر الطير.
ذُكِّر إبراهيم – رحمة الله وبركاته عليه – بهذا المشهد بعد رجوعه من مهمته المنجزة في الغربي..
وفي اليوم الثـاني أصبح مستعداً للخروج في مجموعة أخرى من الشباب المؤمن خرجوا وكأنهم في عمل مكلفين بإنجازه – ولا أوجب من إنكار منكرٍ معلومٍ من الدين بالضـرورة، كهـذا! وحقـيقة إزالة نصب وثنٍ يُعبد من دون الله –.
ولما وصلوا إلى شرفات القـبر وقد تبعـهم بعـض الناس لعلمهم بالمقصد.. أما الغاية فصاحب المقصـد أعـلم بنفسه والله أعلم وهو أعلم بمن اتقى، وظاهر الأمر وباطنه في مثل هذا لا يحتمـل في الغالب سوى الله رب العالمين..
تقدم إبراهيم ومدَّ يدَه بادئاً بمحاولة هدم البوابة ذات البناء القوي المتماسك بالصخور الكبيرة والحجارة المتنوعة والمدمَّكة على عرض متر تقريباً لكن الكابة (الباب) ليست إلا بارتفاع أقل من مقدار الإنحناء المتواضع بعرض ممر الداخل بصفة بين الركوع والسجود.
ولما نزل المـردم خـرَّ بعـده الحائط المسند.. وعقبه اشترك في الهدم معظم الحاضرين حتى إذا قارب التسـوية ظهـر في وسـط جـدار الحـائط ثعبـان عظيـم فإذا بالعقول المعتوهة والقلوب المريضة يفرون فرار المستنفرة المرتجفة وأيديهم على الرءوس يدعـون بالثـبور والويل والْوَلْوَلَة.. رافعين أصواتهم يقسمون بأن هذا شايع نفسه وأنه معـروف بشـحمه ولحـمه وقد تمثـل في صـورة ثعبان وأن كل الذين شاركوا في هدم المحراب هالكون لا محالة!!.
رأى ذلك منـهم وسـمع مقولاتهم فلم يلتفت إلى هراءاتهم وسخافاتهم وهو يتوجه نحو الثعبان وفي يده حـجر مصـوباً له نحوه فإذا به يصيبه فيقتله ويرفعه فوق صـخرة مجاورة ليكون رأي العين لكل مُتَـوَهِّمٍ شاك أو متردد مرتاب.
تضرع إبراهيم بعد سقوط آخر وثن:
عند ذلك زاد الجمع وتكاثرت الجماهير حتى غطوا المنطقة الواقع فيها المحراب وهم يشاهدون جِدِّية الهدم المتواصل إلى أن سوَّى القبر وذهبت معالمه، عند ذلك وقف متجهاً نحو القبلة رافعاً يديه يدعو:
" اللهم هذه معالم الشرك قد أُزيلت هيأتها في هذه البلدة من أرض قومي وأهلي وأنت تعلم أن هذا ليس غايتي وإنما وسيلة من وسائل إرادة تثبيت عقيدة التوحيد الخالص بقطع شجرة الشرك حتى لا يعاود أحد الاعتقاد فيها نفعاً وضراً ببقاء معالمها وشرفات حيطانها..
يا رب العالمين أنت تعلم أن غايتي رضاك في كل ما أُنكرُ من المخالفات والبدع والخرافات لأزيل ذاتها وأثرها من واقع الناس ومن نفوسهم وقلوبهم على مستوى أهل هذه البلدة ومن حولها ممن هيأَت لي القدرة والاستطاعة على دعوتهم وأعنتني على هدايتهم، وأنت القادر على تغيير سنة القبض القهري ( ) القائم على إطلاق النعرات الجاهلية والتزام دعوة الإشراك في الخضوع والتذلل والتمجيد لذوات المخلوقين دونك سبحانك.
ثم إني أسألك يا أرحم الراحمين أن تقر عيني برؤية خلفهم شباباً يأبون ويرفضون التوسـل بغير الله وكـذلك ينكرون عامة المخالفات في مجتمعهم ثم رؤيتي لكبيرهم وسمـاعي له يذكر ذنبه القديم وهو يندم ويستغفر الله منه ويتوب إليه ".
وقد كان هذا الوثن آخر أوثان المنطقة هدماً وإزالة ممن كان تشد إليها الرحال ويجـأر إليـها بالدعاء ثم هي تحظى بالقداسة والخوف والرجاء دون الله – سبحانه وتعالى –.
عاد إبراهيم من تحطيم آخر الأوثان والمعبودات من دون الله تعالى وهو يتهيأ لأمر آخر ونوع آخر من أنواع الدعوة إلى الله سبحانه ألا وهي الدعوة إلى التعليم العام على مستوى أساليب الإيصال بالفرد والمجتمع إلى تطبيق مفهوم الوازع الديني والضابط الخلقي..
عاد وهو يدعو الناس للـدفع بأبنائهم للتعـليم في تـلك المدارس التي عمر بها غالبية قرى المنطقة تسـهيلاً وتيسيراً ليقطع حـجة الـمحاجج بالبعد؛ حتى لا يتنصل عن تعليم ولده مـمن يعنيـهم الأمـر وشملتهم منطقة دعوته أحد.
دفع الناس بأبنائهم حتى أنه لم يتخلف منهم أحد، وبث روح الحياة العلمية والتطبيقية في عامة المنطقة إلى أن تحقق له ما كان يأمله.
استجابة الدعوة:
وقرت عينه وهو يرى ويسمع الطفل الصغير يرفض أن يحلف بالأمانة، ثم هو يستنكر إن سمع من يحلف بها أو يتوسل بغير الله تعالى، ولقد حدثني أحد الأخوة ممن حظي بحضور تلك المدرسة التي أقيمت في قريته وتعلم فيها وارتوى من علومها العقيدية، وكان صغير السن( ) وهذا الأخ كان والده – رحمه الله – من أوائل الآخذين عن الشيخ – رحمة الله وبركاته عليه – علماً نافعاً موصولاً بالعمل حتى صار من أفاضل المناصرين ومن خيرة الناصحين تمسكاً وتمسيكاً.. قال:
" جاء الشيخ يوماً إلى قريتنا المشايم وما كنت أعرفه أو أميزه لصغر سني ثم إنه لم يكن من قريتنا، وكنت على طريقه فسلم علي وحادثني..
ثم إنه أخرج ريالاً فضياً (ماريت ريزا) فدفعه إليَّ مقابل أن أقول أمانة حالفاً بها فرفضت وكرر عليَّ بطريقة الإلزام وما كنت أُدرك أنه يختبرني فأخذت الريال ورجمت به بعيداً عن المكان الذي نقف فيه وأنا مغضب وفي نفسي سخط عليه شديد وأنا أردِّد: (حـرامٌ الحلف بالأمانة، الحلف بالأمانة حرام، رُحْ لك يا شيخ)..
ثـم ما علمت أنه وجد الريال أم لا لكون الرجم به كان إلى أسفل الأَكَمَة.. ". قال:
" ولا زلت أتذكر صورته في مخيلتي حتى اليوم بذلك الموقف، ولأنه ذهب وهو يمسح على رأسي ويدعو لي فرِحاً مسروراً بتصرفي ".
كما حدثني أخٌ آخر من قرية البسيط( ) بقصة أخرى قال:
" لقد حظيت بالدراسة عند الشيخ الحاج/ إبراهيم – هذه صفة يُشْتَهَرُ بها كلُّ من سبق له أداء فريضة الحج – وكان عمري ست سنوات أو سبع تقريباً، وقد كان تركيزي على الدراسة بالسماع حتى فهمت، وترسَّخ لدي فهم العقيدة (عقيدة التوحيد): توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية.
وفهمت أن الاعتقاد في أصحاب القبور كفر.. وإن البناء على المقابر ورفع جدران القبر حرام لا يجوز..
وترسخ ذلك في ذهني.. وذات يوم تسارع إلى مخيلتي أن هناك قبراً لا زال عليه بناء ويدعى: (قبر الحاجة)، على مقربة من قريتنا.. قال: فذهبت إليه وبدأت أهدُّ حجارته وأقلبها إلى العارضة حتى سمعت من يصيح عليَّ من القرية لكنني لم أتوقف وأنا أنكر استنكاره حتى أنهيت الجدار حول القبر وذهبت راجعاً إلى البيت وأنا أفكر كيف ينكرون علي..!!
وقد علمت أخيراً أن الإنكار كان من أجل دحرجة الحجارة إلى المزارع حسب تفهيمي بعد تصميمي.. ".
ثم ذكر أن والده كان يستخدم الجذب (الزار) ويدعي أنه منح ذلك من الطير.. قال:
" وقد كانت هدايته وتوبته على يد الشيخ/ إبراهيم – رحمه الله –( ) ". قال:
" ولقد نلت من الشيخ دعوة صالحة بسبب إتقاني وإحساني: (بسم الله الرحمن الرحيم) كتابةً وقراءةً، أحسست نورها عند قوله لي: (بارك الله فيك)، و(نوَّر الله قلبك بالتوحيد والإيمان، وعلَّمك ما ينفعك).. ولفرحتي بدعوته تلك بقيَتْ في نفسي وذاكرتي ما نسيتها حتى الآن، واعتقادي أن الله تقبلها لوجودي أثرها وإحساسي بتأثيرها واقعاً فعلياً في حياتي التي أعيشها وإني لأشكر الله عليها وأدعوه سبحانه وتعالى أن يغفر للشيخ/ إبراهيم وأن يدخله فسيح جناته.
وقد جاهد في الحق حتى أعلاه ودلنا عليه وبصَّرنا الصراط المستقيم وفقَّه آباءنا في الدين.. ". قال:
" ولقـد كنت أعاني من جرح شديد في رأسي سنوات.. ولما رقَاه شفاني الله "..
وهكذا نرى على أن الله تعالى استجاب دعوة إبراهيم.. فأقر عينه برؤية أطفال قومه وهم يأبون فعل المنكر بل ينكرونه وقد أصبحوا يغَيِّرون ذلك بأيديهم، كما أنه رأى آباءهم وهم يتوبون من مخالفاتهم الشرعية.. ثم سمعهم وهم يستغفرون الله ويحمدونه ويشكرونه على أن تابوا وأنابوا.
الفصل السابع
مقوماتُ احتساب الدعوة
في حياة المجاهد
الفصل السابع
مقوماتُ احتساب الدعوة في حياة المجاهد
ويخصُّه فرعان اثنان:
الفرع الأول: سيرة إبراهيم (المجاهد في الحق) تؤكد رفضَه أخذ الأجور على الدعوة لهداية الناس.
الفرع الثاني: الصدع بالحق في ميدان المناظرة.
الفرع الأول:
سيرةُ إبراهيم (المجاهد في الحق)
تؤكد رفضَه أخذَ الأجور على الدعوة لهداية الناس
ولقد حدثني غير واحد: أن إبراهيم – رحمه الله – كان لا يتغاضى عن منكر قائم سمع به أو رآه أو دل عليه إلا سعى لتغييره وأنفذ إزالته بالقول والفعل لازماً بشخصه أو متعدياً بإلزام غيره نيابة عنه.
وهذه المرة عَرض عليه أحد الآباء أن ابناً له يرفض أداء الصلاة بالكلية ويذكر أنه قد بذل معه جهداً غير يسير وانفذ كل الوسائل التربوية إلى حد التبرؤ منه وإعلان حرمانه من كل حق واجب ولازم بالبنوَّة على الآباء، إرثٍ أو غيرِه، إلا أنه كان قد زوَّجه ولا زال يصر على عدم أداء الصلاة.
فقال الأبُ لإبراهيم:
" فإنك مهما قدرت على أن تجعل ولدي يصلي فلك كذا وكذا "، ويُرغِّبه بمالٍ مُسمى خِيرة ما يملك في مال الوادي من أموال بني الطيب.
وما طمع إبراهيم في شيء مادي أو معنوي عاجل.. ولكنه طمع بأن وجد ضالته حُمُر النَّعَم المضمونة بوعد الآجل أن وفقه الله لهداية رجل بإزالة غشاوة الشيطان ورانه عن قلبه.. وما توانى ولا تأخر حتى جاء إلى هذا الشاب المتمرد على الله والعاصي له بترك ثاني أركان الإسلام الواقع به الكفر عناداً أو تكذيباً أو المعصية الموجبة للحد تكاسلاً أو تهاوناً في أدائها وفي عدم المحافظة عليها في أوقاتها أو بالكلية، وهذا الحال هو الذي كان عليه ذلك الشاب وعليه فقد أتاه الشيخ إلى داره فاستدعاه ليخرج إليه طالباً منه إحضار ماء للوضوء لأداء صلاة حاضرة..
ولما أحضره تناوله منه، ثم أمره أن يحضر ماءً آخر.. وهو ينتظره حتى جاء به فناوله ظاناً أنه يشربه.. لكن لم يتناوله منه قائلاً:
" ماذا أريد به؟ هذا لك لتتوضأ، حتى نصلي جماعة أنا وأنت "، وبقي كل منهما يسرق نظره إلى الآخر مع اشتغال الشيخ بحركات الوضوء والشاب واقف بمائة في يده وهو يردد كلمات غير مفهومة في تمتمة وهمهمة وذهول، ثم يرفع الشيخ إليه بصره باستغراب قائلاً:
" ما لَكْ؟ تَحَرَّك "، بصوت فَزِعَ منه الشاب مما جعله لا يمتلك سوى التنفيذ..
ولما انتهيا من وضوئهما قام الشيخ ومدَّ يدَه إلى الشاب ليصطحبه إلى مكان المصلى.. فأُذِّن للصلاة، ثم قال:
" نصلي ركعتي السُّنة "، وقد بدأ بها، ثم أقام الصلاة وجذبه إلى جانبه وهو يرفع صوته بتكبيرة الإحرام ودعاء الاستفتاح.. إلى التسليم وفي كل أقوالها رافعاً بها صوته جهراً وذلك الشاب يتابع مؤتمَّاً في الأقوال والأفعال..
وقد طفق يتعهده إلى أن طبَّعه على أدائها جماعة ومنفرداً ولا زال به حتى فقَّهه أفعال الصلاة وأقوالها.. أركانها وواجباتها وسننها.. وما يلزم لها وما يكون بها.
وصاحب هذه الواقعة ومن كان الأمر بشأنه لا زال يعيش إلى وقتنا الحاضر وهو يروي قصته مع الشيخ/ إبراهيم – رحمه الله – وقد سمعت ذلك منه ( ).. قال:
" لم يكن تَركي للصلاة جحوداً لوجوبها؛ ولكن:
أولاً: لعدم تعودي عليها صغيراً حتى كبرت وبلغت رجلاً، وما كانت الصلاة تهم الكثير في بلادنا.
ثانياً: لما أردت بعد ذلك في وقت من الأوقات أن أصلي كنت أمنع من قبل حالة.. تتمثل لي في صورة صادة.. كلما حاولت الصلاة..
لذلك تركتها دون مبالاة وكأن تركي لها شيء عادي.. وما أبالي بزاجر أو ناصح حتى جاء لي الشيخ وأخذ بيدي إليها وعلمني بفعله وأديتها معه.. ذهبت عني تلك الحالة.. وما عادت تتمثل لي.. والـحمد لله أنه أذهب عني ذلك الشيطان، ثم هداني على يد الأستاذ/ إبراهيم يحيى – رحمه الله – وأنه الذي أخرج بلادنا من الظلمات إلى النور وأن غالبية أهلها كانوا مشركين وجهلة بأمور الدين الصحيح وأحكام الشرع وآدابه وتعاليمه وأخلاق الإسلام … "، إلخ.
أقول: ومن خلال هذا النص المصرح بواقع الحال السلبي الذي كان عليه وضع الناس قبل الدعوة.. والمعترف بحقيقة التحول الإيجابي.. المصاحب لإخلاصها بصاحبها المجاهد – رحمة الله وبركاته عليه -.. نأتي منه على تقدير مفهومين:
مفهوم الوصول بالعامة إلى تحقيق علم اليقين في العقيدة.. والعبادة.. والجزاء على الأعمال..
مفهوم القطع بأن العامة لا يهديها إلى الحق المنقذ من شرك العقيدة والعبادة.. ومن تبعات سوء الأخلاق: سوى دعوة البلاغ القائمة بالحكمة والموعظة الحسنة.. بدليل أن المصرح بالنص والواصف للحال بحاليها: أساساً.. وتحولاً.. لا يعدو أن يكون من عامة الناس صَقَلَتْه الدعوة وأثْرت فِهْمَه حتى جعلته لم يتجاوز بوصفه الإيجابي شخصية المجاهد الداعية.. وقد أثَّرت في النفوس إيماناً وعملاً..
وفي الواقع: أن هناك علماء إلى حدٍّ ما.. لكن ينقصهم تبني الدعوة إلى الله.. فيما يخص إخراج الناس من عبادة الأوثان والصخور وعبادة العباد إلى عبادة رب العباد.. وحده لا شريك له.. كذلك ينقصهم تبني الزجر عن محدثات الأمور وسيئات الأخلاق..
وقد كان في المنطقة من له شهرة المفتي الشرعي في الفقه والفرائض..
أمثال: الأستاذ/ عبد الله بن حسن الخميسي؛ والذي سبق إعداده في المناصرين، وهو من حضر يوم هدم قباب قبرَي: علي بن أحمد، وشائع حربي للمناصرة والمؤازرة..
كما أن لآخَرين بعض العلم لكن لم يتجاوزوا به ذواتهم، وفي حدود الاهتمام بحسن الخط والمعرفة بقراءة العقود الشرعية وكتابتها وفكِّ طلاسم الحروز والأسحار.. إلخ.
الفرع الثاني:
الصدعُ بالحق في ميدان المناظرة يحقق التطبيق العملي لحماية مقومات سلوك المعارضة في دعوة المجاهد
إنه حدثٌ في يوم مشهود حضره جمعٌ من الناس في مناسبة زفاف دُعِي إليه الناسُ في بيت الشيخ/ علي بن أحمد شايع شُعبَين، شيخ قبيلة مسروح وكان في هذا الحضور شهود إبراهيم –رحمة الله وبركاته عليه – مع بقية وُجهاء القبيلة، وآخرين من دونهم في قبائل الناحية، ومن حولهم من قبائل نواحي الجوار ومن قضائها، وفيهم الفقهاء والسادة والقادة..
ولما طابت للحضور مجالسهم من مساء يومهم هذا تهيأ إبراهيم لإلقاء واجب تحملته دعوته وحضر فرض بيانه، وحان وقت حاجته وثبت حرمة نَسَئه (تأخيره) بضرورة بيان حكمه الحاضر.. وقد كان بمناسبته الحاصلة بسُنِّـيَّتِه.. »تزوجوا الودود الولود فإنـي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة« ( )، والواقع بشرط الاستطاعة والقدرة.. »من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء« ( ).
وبغيرها.. وكل هذا بِوَحي القرآن نصاً في آياته مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْرَاً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُوْنَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبَاً( ).
وغيرها من الآيات الدالة بظاهرها نصاً أو إشارة على نوع هذا الحكم الخاص بالتوجيه والحث على سنة الزواج والتزام آدابه..
إنها فرصة عظيمة لإبراهيم ما كان ليفرط في مثلها ليصل فيها بالمناسبة إلى هدفه وغايته من الحضور..
وقد بدأ كلمته بحمد الله والثناء عليه، وبالصلاة والسلام على رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم –..
عارضاً بعض أحكام الأسرة.. وهو في طريقه لبيان آداب الزفاف من واقع فقه الأدلة السابقة وإشاراتها القريبة والبعيدة.. معرضاً بواقع حال الناس ومخالفاتهم الشرعية، وبمبررات وجود الآباء عليها من أمة خلت.. أو من محدثات حاضرة مستحسنة من فقه الواقع والضرورة والمصلحة..!! إنه يقصد إلى ذم التقليد الأعمى والتحذير من متابعة سنن الضلال.
وقد كان عرض الموضوع بصورة مستوعبة واضحة، تعمد إثراءه بالأدلة..
وركز فيه على الجانب التربوي والسلوكي والأخلاقي.. بداية بحسن الاختيار لكل من الزوجين.. وانتهاءً بواجب الاهتمام برعاية الخلفة والنسل الحاصل نتيجة لهذا الزواج..
لذلك طاب لكل الحضور سماعُه سماعاً واستيعاباً حتى أشبعوه بالأسئلة والمناقشة..
ومن عجيب المداخلات وفضول الكلام انبراء باطل ليُهزَم، وإبداء حَشَفٍ ليُضرَم، وإظهار سَفَهٍ لِيُكلَمْ.. وبطبيعة الحال أنه كان في أفراد الجمع نماذج موجبة من رواد هذا الوصف..
ومنهم من تصدَّر فضول الحديث.. معرِّضاً بعقيدة السلف وعلماء الأمة أهل السنة في مسائل القضاء والقدر والأسـماء والصفات.. لكـن اضطلاع إبراهيم – رحمه الله – بفقه هذا النوع من العلم لم يترك مجالاً لمتجشمٍ متكلف يغوص بجهله فيما حذر الشارع الخوض فيه.
وفي هذه الـمرة فقط فتح أسلوب المناظرة في هذا الباب بقصد كبح غرور الفضول لدى باغي كسب موقف الإحراج.. وليرُدَّ عليه كيدَه، ويُوقِعه فيه، بدحض باطل غايته وقطع وسيلة هدفه.
الفضولي يتحدث مقاطعاً في غير موضوع المناسبة.. ليلفت الأنظار.. قائلاً:
" إن هذه المواضيع التي نسمعها دائماً في المواعظ وخطب الجمعة يلزم أن لا تطرق في المجالس العامة لأن كل الناس على علم بـها.. لكن بقية العلوم المتعلقة بالعقيدة مثل: مسائل القضاء والقدر، والأسماء والصفات التي يـجهلها الناس، ويأتي الناصِبَة فيستغلون هذا الجهل ويبثُّون سمومهم تحت شعار: مذهب أهل السنة والسلف.. وهم الوهابِيَّة والتيمِيَّة (نسبة إلى ابن تيمية) "!!.
وما كان يخفى على إبراهيم اسم هذا الفضولي ولا مذهبه العقيدي..
لذلك لم يمهله حتى قدم له سؤالاً يطلب به منه تقديم نموذج من تلك المسائل الضائرة عليه في مذهب السلف الذين ذَكَرَ..
فأجابه بعدم مناسبة الوقت! وبِقِلَّة جدوى المناقشة في هذا الباب وفي هذا الوقت!
فأجابه إبراهيم:
" إني لأعلم أنك من فرق البَرَّانيَّة والجوانيَّة.. ومن سراخيب البحر "..
ويعني: أنه من الفرق الضالة القائلين بالـتُّقْيَة..
وأنه من أتباع أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي الأعمى الكوفي الذي لقبه محمد الباقر – رحمه الله – (سرخوباً).
والسرخوب فُسِّر بأنه: شيطان أعمى يسكن البحر، وقد كان أبو الجارود يعتبر نفسه مُحَدِّثاً فقيهاً..
وكان يضع الأحاديث في مثالب الصحابة – رضي الله عنهم –، كما يضع أحاديث أخرى في فضائل أهل البيت – الصالحون منهم لا يقرونها ولا يرتضون نقلها عن هذا السرخوب ولا عن غيره من الأفَّاكين الآثمين –.
قال فيه يحيى بن مُعين – رحمه الله –:
" إنه كذاب ليس يسوى فلساً ".
وهؤلاء الجارودية هم من أبعد فرق الضلال عن منهج أهل الحق والاعتدال.
ولما تيقن ذلك الفضولي أن مناظره ليس بالسهل لم يسعه إلا أن يسف السباب والشتائم ويزيد في الكيل..
والناس على اختلافهم بين ساخر منه وضاحك عليه.. ومنتظر لواقع النهاية، لكنه بعد أن أدرك أن المجلس سينتهي ليس لصالحه بل على هزيمته المفرطة لذلك رأى أن يطرح مسائل من نوع ما بدأ به.. قائلاً:
" إن الوهابيـة ينسبـون إلى الله تعالى إرادة الكفر فهم يعتقدون أن الإنسان يكفر بإرادة الله "..!
فأجاب إبراهيم – رحمه الله –:
" نعم، إن ذلك هو مذهب أهل السنة والجماعة..
وإني لأجيبك من مفهوم تحقيقات الطحاوي – رحمه الله – في هذا الباب فأقول:
أما أهل السنة فيقولون: إن الله – وإن كان يريد المعاصي – فهو لا يحبها، ولا يرضاها، ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها.
وهذا قول السلف عامة، فيقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال: والله لأفعلنَّ كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله، لكن إذا قال: إنْ أحَبَّ اللهُ فإنه يحنث إذا لم يفعل مهما كان مباحاً ذلك الأمر المُقسم على فعله..
والإرادة في كتاب الله نوعان:
إرادة دينية أمرية شرعية.
وإرادة كونية.
فالإرادة الشرعية هي: المتضمنة للمحبة والرضا.
والكونية هي: المشيئة الشاملة لجميع الموجودات.
وهذا مأخوذ من قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقَاً حَرَجَاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ( ).
ومن قوله سبحانه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيْدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ( ).
ومن قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ ( ).
وأما الإرادة الدينية الأمرية الشرعية، فكقوله سبحانه: يُرِيْدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ ( ).
وكقوله: يُرِيْدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيْدُ بِكُمُ العُسْرَ ( ).
وقوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيْدُ اللهُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْرَاً ( ).
والآيات كثيرة من هذا النوع.
وهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.
وأما الإرادة الكونية: فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والفرق واضح وثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل.
فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلاً فهذه الإرادة معلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلاً فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعـين معقول للناس والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أمر به وقد لا يريد ذلك، وإن كان مريداً منه فعله.
وعليـه:
فإن زعم القَدَريَّة ومن نَهَج نهجهم أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم، والكافر أراد الكفر، كما أنه شاء لهم الهُدى وأراده ببيان طريق الصواب، ومن ضل فقد خلق ضلال نفسه.. فذلك مبني على أصلهم الفاسد: أن أفعال العباد مخلوقة لهم دون الله!! بمعنى أنهم: قد صيَّروا من المخلوق خالقاً..
وهذا يرده الشرع والعقل السليم.. والشرك منه.. هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ..، ولا يصح ما قالوه عن الهدى؛ بدليل نفي الله له عن نبيه محمد – صلى الله عليه وآله وسلم –، ولو صحَّ لما صحَّ هذا النفي في قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ( )، فهذه هداية التوفيق مردها إلى الله وحده، ومـما يكون إلى الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – وجائز عليه هداية الدلالة والإرشاد..
وهو قد بين – صلى الله عليه وآله وسلم – الطريق لمن أحب وأبغض..
وهذه مسألة أفردها العلماء ببحث خاص في كتب العقيدة..
كما أن لهم تفصيلاً في مسألة الإرادة تفيد المبتدي وتغني المنتهي برجوعه
إليها ". انتهى..
والخلاصة:
أن تفصيل حكمة الله – سبحانه وتعالى – في خلقه وأمره يعجز عن معرفته عقل الإنسان البشري.
والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة: مثلوا الله فيها بخلقه، ولم يثبتوا حكمة تعود إليه – عزَّ وجلَّ –، حيث ساوَوا بين الله وبين خلقه في صفة من الصفات دون إدراكٍ لواجب الفرق بين الخالق والمخلوق، والتشبيه يستلزم التعطيل، فكل مشبه لله بخلقه يعود لينفى فيعطل.. كأن يثبت لله السمع والبصر فيذكر بأن هذه من صفات المخلوقات فينفيها عن الله بغية تنـزيهه عن صفات خلقه فيقع في التعطيل، أو يئول فيقع في التحريف والتجهيل..
ولا زال للفضول بقية..
إنه في غمرة هدوء الحاضرين نتيجة لإصغاء الإعجاب العام، وقليل منهم ساغ له الحديث مستزيداً.. وكان الفضولي يغص.. وهو في رمق الفُضول الأخير إذ أفاض قائلاً:
" لكن جلال الله وعظمته يكذب الذين يزعمون رؤيته وتجليه لهم يوم القيامة في الآخرة.. وهم يستدلون بظاهر القرآن لعدم فهمهم، وهم المشبهة والممثلة.. مع نفي الله ذلك عن نفسه بقوله: لَنْ تَرَانِي، فإذا كان الله يُرى لَمَا ردَّ على موسى لَمَّا طَلب منه ذلك بالنفي.. كما نفي – تعالى وتقدَّس – عن نفسه إدراك الأبصار له بقوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ( ) ".
فكان الجواب:
" إن المبطلين من فرق التأويل دخلوا بتأويلهم الفاسد لنصوص القرآن الكريم إلى إفساد دينهم ودنياهم، كما فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، فعلوا ذلك بعد أن حذَّرهم الله أن يفعلوا مثلهم.. وقد أبَوا إلا أن يتابعوا سبيلهم ويقتفوا أثرهم.
وقد قتلوا عثمان – رضي الله عنه – بتأويلهم الفاسد، وأوقعوا فتنة الجمل، وصفِّين، ومقتل الحسين، والحَرَّة، وأكبر من ذلك تفريقهم للمسلمين إلى ثلاث وسبعـين فرقة كلها في النار إلا واحدة، كما أخبر النبي – صلى الله عليه وآله وسلم –.
ومن تأويلهم الفاسد تأويل الرؤية لله – عزَّ وجلَّ – الثابتة بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوتها أكثر من ثلاثين صحابياً، وأجمع على ثبوتها فقهاء السنة وأهل الحديث من الصحابة والسلف بأدلة منها:
قوله الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( ).
وقوله سبحانه: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيْهَا وَلَدَيْنَا مَزِيْدٌ ( ).
وقوله سبحانه: لِلَّذِيْنَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ( ).
وكما أن نفي الرؤية لله تعالى عن الكافرين دليل على أن المؤمنين يرونه وأنه لن يحجب عنهم – سبحانه وتعالى – يوم القيامة بدليل مفهوم الآية كَلا إِنَّـهُمْ عَنْ رَبِّـهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوْبُوْنَ ( ).
ومن الأحاديث: ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه –: إن ناساً قالوا: يا رسـول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم –: »هل تُضارُّون من رؤية القمر ليلة البدر«؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: »هل تضارون في الشمس ليس دونها حجاب«؟ قالوا: لا، قال: »فإنكم ترونه كذلك« ( ).
أما استدلال أصحاب التأويل الفاسد بقوله تعالى: لَنْ تَرَانِي، وبقوله:
لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ.
أما النفي في الآية الأولى فيعني: في الدنيا، فالله تعالى لن يمكن لأحد من خلقه رؤيتَه؛ لأسبابٍ ذَكَرها العلماء في كتب العقيدة وغيرها.
أما النفي في الآية الثانية فهو: نفي للإدراك، بمعنى: الإحاطة..
ولا يعني: الرؤية الدال عليها ما سبق من أدلة، وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أصل في هذا الباب.. وفسَّر ابن عباس وأبو بكر وعلي وحذيفة وأبو موسى – رضي الله عنهم – الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى "..
وبينما الشيخ/ إبراهيم – رحمة الله وبركاته عليه – لا زال يفنِّد باطل التأويل.. إذ بذلك الفضـولي يتشنج ويسخط على أبي هريرة ويعرض بالصحابة – رضي الله عنهم -.
وبذلك تحوَّل الموقف من المناظرة العلمية إلى جدل وخصام من قِبَل الفضولي الرافضي والذي ما كان لإبراهيم – رحمه الله – أن يقف ويسمع حتى يذهب جُفَاءَ زَبَدِ خصمِهم.. وإنما قام إليه مغضباً لله، والناس يحولون بينه وبين الوصول إليه ليمعن في تأديبه..
وإبراهيم يصيح فيهم:
" اتـركوا الرافضي، اتركوا لي الجارودي، اتركوه لأُخرِج الشيطان من رأسه ".. وكانوا قد أخذوا مطلوبه ليخبئوه بعيداً عن طالبه ويُنْهوا المشكلة بينهما، وما زالوا يحمون ذلك الفضولي حتى فرَّرُوهُ هارباً بجلده..
وقد كان يعتبر ضيفاً لدى الشيخ/ علي بن أحمد شايع شُعبَين حيث لم يكن من قبيلته ولا واحداً من قبائل الناحية.
لذلك كان يلزمه أن يكون مؤدباً، إلا أنه كما قيل:
كلُّ داءٍ له دواء يُسْتَطَبُّ به
إلاَّ الحماقة أعيَتْ مَن يُداويها
ولعله كان قد بدأ ليستخدم التُّقْيَة كما هي العادة بل العقيدة في مذهب هؤلاء الرافضة، إلا أن الشيخ/ إبراهيم – رحمة الله وبركاته عليه – (وهو المجاهد في الحق) قطعها عليه بإلزامه على السير في خط العوج الذي هو مبتغاه، وقد أثاره أولاً..
وعلى ما قيل في المثل: (كلُّ إناءٍ ينضحُ بما فيه).
وأصحاب العقائد الفاسدة أو المنحرفة وكل من يحمل خلة أو رزية وهو يخفيها ليظهر على الناس بغيرها فلا بد أن تُعلم.. تصديقاً لما قيل شعراً:
ومهما تكن عند امرئٍ من خَلِيقَةٍ
وإن خالها تخفى على الناس تُعلَمِ
وأضيف بأن هذا ومثله من الصد والرد للحق والإعراض عنه من قِبَل رافضي جارودي كهذا الذي عقيدته ومذهبه التزام السخط والحقد على صحابة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أمر طبيعي في مقابل الدفاع أو الانتصار لعقيدته ومذهبه..
لكن أن يرد الحق ويصد عنه وينبري لمؤاذاة صاحبه ويتحفز لمواجهته ويمنعه من قوله وفعله، ويحرض عليه السفهاء ويشجعهم على مقاتلته داخل المسجد إن هو تقدم ليؤم الناس في الصلاة أو يفتح درساً علمياً أو يقيم حلقة للتعليم على مستوى الصغار والكبار..!! ولربما كان هذا الممنوع شاباً حافظاً لكتاب الله مرتلاً له وفقيهاً عالماً عاملاً بعلمه ظاهره التقوى..
وإن تعجب! فالعجب كله أن يكون هذا الصَّاد المضاد شخصية مفوضة من ذوي الهيئات والشخصيات في الجماعة الإسلامية المتخصصة في الدعوة إلى الله فكراً وتربية.. أو تصفية وتربية..!! لكنه من صنَّاع العوائق ورواد التنفير ورُكاب الجهالات وموريات الأحقاد.. وموقظات الفتنة.. على طريق أخوَّة الإيمان وإصلاح ذات البين..
وإنهم بتصرفاتهم الخاطئة هذه يحدثون من التصديع والفُرقة في وحدة المسلمين وفي الدعوة لجمعِ كلمتهم ولَمِّ شعثهم ما لم يحدثه أعداء الإسلام من تصديعٍ وتفريقٍ في وحدة الأمة الإسلامية على مدى قرون حتى جعلوا منهم شِيَعاً وأحزاباً، ومذاهبَ ونِحَلاً شتى مَنَعَتْ اتحادهم وصيَّرت دولتهم دُوَيْلات.. وجعلت بأسهم بينهم شديداً.. والحال لا يخفى على لبيب غَمْر..
يتبـــــــع .........