المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العقوبات البديلة نحو منهج تأصيلي



عبدالرحمن العبدالله
23-01-2011, 10:42 PM
الجزء الاول:
عزف منفرد على سمفونية الدكتور خالد التوني (استاذ/ القانون الجنائي بجامعة اسيوط: جامعة المبدعين القانونيين)مراجعة وتأصيلا والفضل يجب ان ينسب لاهله وهو صاحب اتكاء الحرف وصاحبي وصديقي ايضا.
لقد احترت في ان اضيف هذا الى موضوع الاستاذ صاحب الفضيلة ياسر البلوي والاستاذ سيادة القانون او ان ينفرد بموضوع مستقل ونظرا لاشتمال هذا الموضوع على عموميات ومبادىء عامة ونظرا لتوسع الموضوع الاول وطول المداخلات فيه وتشعب النقاط بشكل كبير جدا, الامر الذي قد صعب علي لملمت اطرافه والتي ستكون ان شاء الله في مشاركة قادمة اتمنى ان لا تطول بها الايام, بحيث يكون هناك تتبع لكل النقاط خصوصا امواقع والمواقف التي جنحت كثيرا بالموضوع والتي لم يسلم منها الكثير من المتداخلين,,
عليه فقد رأيت انه من المناسب افراد هذه المشاركة في موضوع مستقل وان محلها منتدى المحاكم الجزئية فالى الموضوع والشكر مرة اخرى لاستاذنا التوني///

أثار الحكم الصادر عن قاضي محكمة محافظة بدر العامة الشيخ عبدالله بن صالح العضيبي جدلا شرعيا ونظاميا كبيرا، حيث أصدر حكماً بديلاً على أحد المواطنين بقيامه برفع الأذان لمدة شهر بأحد الجوامع بالمحافظة إضافة إلى حفظ جزء من القرآن الكريم، حيث أدين المحكوم عليه في جريمة تستر على قضية سرقة وتم اخذ التعهد عليه بأنه في حالة عدم تنفيذه الحكم خلال شهر تستبدل الأحكام البديلة بالجلد.

وإثر هذا الحكم خلافا في الآراء القانونية والشرعية بين مؤيد لتطبيق العقوبات البديلة والتوسع فيها بحسبانها من أنجح الأساليب التي يمكن للقضاة اللجوء إليها في كثير من أحكامهم عندما يجدون أن هناك مجالاً للمخطئ في العودة ليكون عضواً صالحاً في المجتمع، وإن كان بعض أنصاره يرون أن مكمن الإشكالية في آلية صياغة الأحكام البديلة؟ وكيفية تسبيبها والمصادقة على الحكم الصادر بها من الاستئناف؟

في حين يعارض البعض الآخر اللجوء للعقوبات البديلة ويرى فيها تمردا على أحكام الله ورسوله وعلى الأنظمة التي سنها ولي الأمر ويصفون اللجوء إليها بالاستخفاف بشعائر الله عز وجل والتمادي في السلطة المطلقة والجهل الفاضح وطعن مشروع خادم الحرمين الشريفين لتطوير القضاء في الصميم بلا رحمة ولا مخافة من الله ولا حياء، ويتساءلون مستنكرين بأنه متى أصبح كتاب الله والأذان لصلاة المسلمين رادعاً أو عقاباً للمجرمين هل يرى فيه أشغالا شاقة أن أراد التقويم فلا تقويم إلا بعقاب ويكون تبعاً ويشترط ذلك بنص في القانون، ولا يمكن التدني بالعبادات وجعلها في مصاف العقوبات خاصة أن الأصل فيها النية وعليها يثاب فاعلها.
وينتقد أنصار الرأي المنكر اللجوء للعقوبات البديلة توسع القضاة مؤخرا في اللجوء لها، والذي جعل الكثير من الأحكام محل استهجان شديد حتي من أهل الاختصاص خاصة في ظل غياب المتابعة واليات الرقابة على تنفيذ هذه الأحكام.
ويتمادي البعض في رفض هذا النهج مبررين حكم محكمة بدر بأنه صادر في منطقة نائية تقع في أقصى الجنوب بين نجران وظهران الجنوب وبلاد قحطان , ولا يوجد بها مدع عام مؤهل قانوناً أو شرعاً , فالحاكم هناك حاكم بأمره، طاعنين على هذا الحكم أيضا بأنه لم يعرض على المحكمة الإستئنافية , كون أن المدعي عليه قد قنع بالحكم البديل , حتى لا يجلد في تلك المنطقة القبلية الشرسة , فهي خليط من قبائل يام , وهمدان , وقحطان. بالإضافة إلى أنه لا يوجد مدع عام مؤهل كما ذكر سلفا, ليعترض على الحكم , وربما إن أعترض هذا الشرطي سيلام من قبل أفراد جماعته.
وإن كان كلا الرأيين قد أصاب قدر من الحقيقة إلا أنهما يتسمان بالمبالغة الشديدة في الإباحة أو المنع فقد اختلطت لديهما الكثير من الأمور ، وطرح الموضوع للنقاش لا يكون إلا من خلال تحديد نقاط البحث والخلاف وتأصيلها وتحليلها وصولا لتحديد الإشكاليات ورصد الحلول المناسبة لها، وهو ما يمكن أن نجمله في الموضوعات التالية:
أولا: مشكلة الحد من العقاب ودور العقوبات البديلة :
لا شك أن الأهداف الأساسية من سن العقوبة والحكم بها هي الزجر والتأديب، وجل ما تتغياه الأنظمة العقابية الشرعية والقانونية من تنظيم العقاب فضلا عن زجر غير المجرم وتهديده بالعقاب هو أن تفضي تلك العقوبات المطبقة والمقضي بها إلى إصلاح الجاني وإعادة تأهيله ليعود للمجتمع بعد تنفيذه للعقوبة شخصا سويا لا خشية منه وبغير هذا الهدف تعد العقوبات للتشفي والانتقاك وليس للتقويم والاصلاح, مجرد وسيلة لتحقيق تعادل نسبي بين الجاني والمجني عليه ، حيث تنفق الدولة على مؤسسات العدالة من أجل إيقاعها الملايين والمليارات دون أن يكون هناك مردود مباشر من وراءها، ومن هذا المنطلق سعت السياسة الجنائية الحديثة إلى البحث في آليات تمكن العقوبة من تحقيق هذا الغرض بحسبانه الغرض الأسمى لها، فتمخضت عن أساليب متعددة في المعاملة العقابية تنهض بشكل أساسي على منح المحكوم عليه فرصا للتوبة وإصلاح النفس، فوضعت العديد من أساليب المعاملة العقابية داخل السجون بحيث تراعي ظروف المتهم واحتياجاته، وقننت ما يسمى بأنظمة وقف التنفيذ إذا رأى القاضي ابتداء أن المتهم وظروفه وظروف دعواه لن يجدي معها تنفيذه للعقوبة ، وأن وقف تنفيذها سيكون له الأثر الأكبر في إصلاحه وتأهيله وهو ما تنص عليه المادة الثامنة عشرة بعد المائتين:يجوز للمحكمة التي أصدرت الحُكم بالإدانة أن تأمُر بتأجيل تنفيذ الحُكم الجزائي لأسباب جوهرية توضِحُها في أسباب حُكمِها، على أن تُحدِّد مُدة التأجيل في منطوق الحُكم.، كما قننت أيضا ما يسمى بأنظمة الإفراج الشرطي بعد الحكم بالعقوبة وبمقتضاه يمكن لجهة الإدارة القائمة على تنفيذ العقوبة أن تعدل فيها وفي مدتها بحسب استجابة المحكوم عليه للبرنامج الإصلاحي الخاضع له بالمؤسسة العقابية التي يقضي بها فترة عقوبته.
كما أن الشرع الحنيف وكذلك المنظم اعترفا بأن لشخصية المجرم و ظروفه أثر على العقوبة، و القاضي ملزم عند إيقاع العقوبة أن يراعي هذين المبدأين معا في الجرائم الخطيرة و البسيطة على السواء، إذ أن النظام لم يهدر واجب مراعاة شخصية المتهم في الجرائم الخطيرة الماسة بكيان المجتمع فكلا المبدأين يبدو أنه مناقض للآخر فلتحقيق الزجر و التأديب يقتضي الأمر تشديد العقوبة، و مراعاة شخصية المتهم يقتضي تخفيف العقوبة، و لا يستطيع القاضي أن يفعل شيئا لإزالة هذا التناقض إلا أن يوفق بين المبدأين بقدر الإمكان، و لكنه حين يفعل يتجه غالبا ناحية المتهم متأثرا في ذلك بمختلف العوامل المتعلقة بشخص الجاني و بما تفرضه السياسة الجنائية من الميل إلى التخفيف و كذا الآليات القانونية المقررة لمصلحة الجناة من ظروف التخفيف و نظام إيقاف التنفيذ و العفو و الإفراج المقيد الخ...
و لاشك أن هناك من العقوبات ما يمكن أن يؤدي وظيفتي الزجر و الردع و يكون له أثره في محاربة الجريمة دون أن يؤدي إلى تعطيل مجهود المحكوم عليه و يحول دون قيامه بعمله اليومي أو فقد أسرته لعائلها، كاستغلال نشاطه في مجالات معينة باستبدال العقوبات المقضي بها بعمل ما لصالح الدولة أو إحدى جهاتها.
و لقد حاولت إدارة السجون أن تستغل نشاط بعض المسجونين في بعض السجون الفلاحية و قيامهم ببعض الأشغال اليدوية و لكن لم يتم إيجاد عمل إلا لعدد قليل من السجناء أما الباقون و الذين يشكلون الأكثرية القصوى يقضون بقية المدة المحكوم بها عليهم بالسجن مما يرهق ميزانية الدولة التي توفر الأكل و الملبس و العلاج في معظم التخصصات الطبية.
وإزاء عجز العقوبات الحالية عن تحقيق أهدافها إما بسبب جسامة العقوبة من الناحية المعنوية والتي قد تخلف وراءها إنسانا ناقما على المجتمع لشعوره بأن مجتمعه لم يعبأ بظروفه وملابسات دعواه ولم يعطه الفرصة التي ينتظرها ليتوب ويعود إنسانا صالحا مرة أخري خاصة إذا كانت جريمته تعزيرية، أو لكون مؤسساتنا العقابية تعجز عن السير قدما في استغلال فترات العقاب في إصلاح الجناة وإعادة تأهيلهم إما بسبب أعداد المحكوم عليهم الكبيرة أو لقلة الإنفاق اللازم للسعي لتنفيذ هذه الأغراض وتارة أخيرة بسبب نقص الخبرة الفنية التي يحتاجها تحقيق هذا الغرض لدى القائمين على الحكم والتنفيذ معا ، وهنا يجد المحكوم عليه الذي كان لديه الأمل في فرصة إصلاح نفسه بين جنبات مؤسسة عقابية لا تتيح له سوى فرصة الاختلاط بأشقياء المجرمين والتشبع بميولهم، وإن كانت عقوبته بسيطة كانت الطامة أكبر على أسرته التي قد تفقد عائلها الوحيد، وبذلك تخلف العقوبة وراءها فرصة متزايدة في ارتكاب المزيد من الجرائم.
ومن هنا برزت العقوبات البديلة كآلية يمكن اللجوء إليها للحد من مساؤي بعض العقوبات أو للقضاء على فرض عجز العقوبة في بعض الحالات عن تحقيق غرضها في إصلاح الجاني، ولعل ما سبق هو ما مهد لظهور اتجاه في الفقه القانوني يسعي لترسيخ فكرة الحد من العقاب وإن كانت فكرته لا تسعى فقط لتفعيل قدرة العقوبة على تأهيل الجاني بل وأيضا السعي نحو تخفيف العبء عن كاهل القضاء، ووجد هذا الاتجاه في العقوبات البديلة ما كان ينشده فرأينا بعض الأنظمة تأخذ بفكرة المراقبة الالكترونية (من خلال أسورة الكترونية يتم وضعها بيد الجاني وترشد عنه وعن الأماكن التي يتردد عليها)، وأنظمة أخري تستبدل تلك العقوبات التقليدية بعمل لصالح إحدى جهات الدولة أو مرافقها أو منشأتها الصناعية.

ثانيا: شرعية الأخذ بالعقوبات البديلة في النظام القضائي السعودي
ولا يمثل الأخذ بفكرة العقوبات البديلة داخل المملكة ضربا من ضروب خرق الشرع أو الأنظمة ، فالشرع الحنيف ينهض بشكل أساسي على ثوابت أهما أنه يحدد لولى الأمر القواعد العامة التي لا تختلف باختلاف المكان أو الزمان ثم يترك له تحديد الأحكام الخاصة والدقيقة والتي لا شك أنها تتغير بتغير المكان والزمان والأشخاص معا، وقد حدد الشرع العقوبات التي رأي أنها لا تتغير بتغير الأشخاص والزمان والمكان كعقوبات القصاص والحدود ووضع الضوابط الشرعية اللازمة لقيام وكذلك ثبوت الجريمة التي يقص أو يحد مقارفها، تاركا لولي الأمر السلطة الأوسع في التعزير، بتجريم ما قد يمثل في أي وقت أو مكان جريمة تنتهك حقا من الحقوق التي يحترمها الشرع ويوليها عنايته.
ومع تطور المنظومة الاجتماعية والقانونية اقتضت العدالة تقنين تلك التعازير بنصوص نظامية تحقيقا للعدالة التي تقتضى وحدة النص المطبق على كافة المخاطبين بأحكامه، فالعدالة تأبى أن يعاقب جانيين أحدهما في المنطقة الشرقية وأخر في المنطقة الشمالية عن فعل واحد بعقوبتين ظاهرتي التباين، ولا يمكن أن تبرير ذلك بأن القاضي يتمتع بسلطة تقديرية، فشتان بين السلطة التقديرية للقاضي التي يدور فيها في فلك محدد بتطبيق نص شرعي أو نظامي في الحدود التي رسمها الشرع والنظام وبين السلطة المطلقة التي ينهض فيها القاضي بدور المشرع والمنفذ لما يشرعه وهو ما لا يمكن تبريره بحق القاضي في الاجتهاد ، فمقتضى الاجتهاد أن يسعى القاضي إلى تفسير النص العقابي تفسيرا يتناسب مع العلة منه ويتلاءم مع ظروف الواقعة المعروضة عليه وظروف فاعلها، وتلك الأسس في الاجتهاد لا يمكن أن تفضي مطلقا لتفاوت شديد بين أحكام القضاة المتعددين.
كما اقتضى مبدأ الشرعية بما يعنيه من أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص أن يتم تقنين تلك التعازير احتراما للقاعدة التي تقضي بأنه لا مسئولية إلا على مكلف، حتى يكون كل فرد في المجتمع على بينة من أمره قبل مقارفته لأي فعل يناله التجريم ، ليقف مع نفسه مقارنا بين ألم العقوبة وزبد الجريمة، ومن هنا تنهض المسئولية الجنائية على أساس مبدأ حرية الإختيار والإدراك، وعلى ذلك يتأسس مبدأ عدم جواز الإعتذار بالجهل بالأنظمة العقابية، وعلى هذا الأساس أيضا بنيت دعوة الرسل التي جل من قال فيها " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا".
ومن هنا يمكن القول بأن الأخذ بالعقوبات البديلة يجد إطاره الذي يبرره في سلطة ولي الأمر وحقه في تحديد وإقرار التعازير الملائمة بتجريم ما يراه اعتداء على الفرد أو المجتمع وإقرار ما يراه من عقوبات مناسبة له سواء كانت مما يؤلم البدن أو مما ينال من الذمة المالية، أو بأي شيء أخر ما يراه مناسبا في إصلاح الجاني وردعه وتأهيله كتكليفه بعمل حتي وأن كان عبادة، فالأمر في نهايته يدور وجودا وعدما مع علته والحكمة منه.
ومن هنا تنهض العقوبات البديلة وتتأسس على أساس شرعي ونظامي يبرر الأخذ بها ، غاية الأمر أنها كعقوبات لابد وأن تتقيد بما يتقيد به غيرها من عقوبات من ضرورة احترامها لمبدأ الشرعية وضرورة وضع ضوابط إعمالها والحكم بها، وقياس مدى قدرتها على تحقيق الأغراض المتوخاة منها، ولا يهم بعد ذلك طبيعتها أيا كانت سواء كانت تكليف بعمل أو عبادة أو إيلام لبدن، أو مساس بذمة مالية أو تشهير.
ثالثا: ضوابط العقوبات البديلة
ومما يسبق يمكن القول بأن لا حرج في الأخذ بالعقوبات البديلة وأن جوهر النقاش يكمن في وضع الضوابط اللازمة لكفالة الفرصة لها لتحقيق الأغراض المتوخاة منها والتي قد تعجز العقوبات التقليدية عن تحقيقها أو قد تحققها لكنها تترك خلفها ضلالا قد تهدد بمزيد من الإجرام، ومن هنا يمكن إبراز أهم هذه الضوابط فيما يلي:
1- التقنين
حيث أن العقوبات البديلة شأنها شأن أي عقوبة جزائية تقليدية يجب أن تتقيد بما يتقيد به أي نص جزائي وبطبيعة الحال لابد من أن تتقيد بمبدأ الشرعية " فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص " ولا شك أن هذا القيد لا يعكس فقط التزاما شكليا يمكن غض الطرف عنه في ظل تأصيل العقوبات البديلة وتاسيسها على حرية القاضي في الإجتهاد، بل على العكس من ذلك تماما فمردود التقيد بهذا المبدأ من الناحية الموضوعية أعمق وأبعد من مجرد تمكين القاضي من الاجتهاد، ذلك أنها ترسخ مبدأ العدالة في صورة موضوعية تقترب إلى حد كبير من العدالة المطلقة، فضلا عن تكريسه لمبدأ حرية الاختيار لدي الفرد الذي تنهض عليه مسئوليته، ولا يمكن أن تكون حرية القاضي في الاجتهاد سندا أو ذريعة لخرق هذه الاعتبارات التي تتأسس وتنهض عليها العدالة الجنائية بشكل خاص، وليس في ذلك خروجا على شرع طالما أنها لا تبيح حلال ولا تحرم حلالا، وتزود عن مصالح الإفراد والمجتمع عامة، وترعى في ذات الوقت صالح المحكوم عليه الذي لا يزال يتمتع بحق تجاه المجتمع في أن يعينه هذا الأخير في عثرته ويأخذ بيده إلى الصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
2- تحديد معايير اللجوء إليها
ولا يقف ضوابط العقوبات البديلة عند مجرد تقنينها بنظام بل يتعدى الأمر ذلك بأن يلتزم النظام بضوابط التجريم والعقاب الواجبة في أي نص جنائي فيحدد النص صور العقوبات البديلة تحديدا دقيقا نافيا للبس والغموض، وأن يضع منها عقوبات متدرجة ومتعددة الطبيعة ، ويضع المعايير التي تجيز للقاضي استبدال العقوبات الأصلية بغيرها من العقوبات البديلة ـ كبساطة الجريمة ، كونها السابقة الأولى في بعض الجرائم ، أو ندم المحكوم عليه ، إقراره واعترافه في حالة عدم وجود دليل، إصلاح أثر العقوبة،..الخ ـ ، ويضع أيضا شرائط الاستمرار في تنفيذها وحالات إلغائها والعودة للعقوبة الأصلية، وأثر تنفيذها تنفيذا يحقق أغراضها من حيث احتساب جريمتها سابقة من عدمه، ومدي جواز تطبيق العقوبات البديلة على الشخص للمرة الثانية.
3- التسبيب:
لا شك أن مفهوم السلطة المطلقة قد أفل بشكل كبير، وعلى وجه الخصوص في منظومة العمل القضائي، فلم يعد أحدا من المحققين أو القضاة يتمتع بسلطة جنائية مطلقة في أي مرحلة من مراحل الدعوي، فاعمال الاستدلال تخضع لرقابة سلطة التحقيق وأعمال سلطة التحقيق يعاد مراجعتها عند نظر القضاء للدعوى، وأحكام القضاء تخضع للمراجعة من سلطة الاتهام والمحكوم عليه معا، ولا يعني اللجوء للعقوبات البديلة وإعمالها أن يتحلل القضاء من الالتزام بتسبيب الاحكام الصادرة عنه حتى لو قبل بها المحكوم عليه، فالتسبيب لم يقرره نظام الإجراءات الجزائية لتمكين المحكوم عليه من الطعن في الحكم فقط، بل وأيضا للتمكن سلطة الإتهام من بسط رقابتها على صحة الحكم القضائي وملائمته لظروف الدعوى والمحكوم عليه معا، ومن هنا فيجب على القاضي عند لجوءه للعقوبات البديلة أولا أن يبرر سبب اللجوء إليها ودواعي ذلك وأن يكون ذلك في إطار ما يحدده النظام ويتلاءم مع ظروف الدعوى والمتهم، ولابد من أن يحدد بدقة العقوبة البديلة المحكوم بها، وأن يكون هناك تناسبا حقيقيا وموضوعيا بين العقوبة البديلة التي اختارها وظروف الدعوي والمتهم معا، حتى تتمكن سلطة الاتهام والمحكوم عليه من مراجعة هذه الأسباب وإعمال رقابتها عليها، بحيث يكون الحكم في النهاية متناسبا مع روح العدالة ومقتضاها.
ومن أراد من القضاة التوسع في تطبيق بدائل السجون فإنه بلا شك كما سيلتزم موضوعياً بمشروعيتها الشرعية فإنه سيلتزم أيضا بسلامة الإجراء المصاحب لها وفق أنظمة المرافعات والإجراءات الجزائية , وسيجتهد بما لا يخالف الحكم الشرعي والنظامي.
4- آليات التنفيذ:
لا يمكن أن تحقق العقوبات البديلة أغراضها العقابية لمجرد تقنينها بنظام وإلزام القاضي بتسبيب حكمه بها لإعمال الرقابة عليها ، فالرقابة الأهم تكمن في متابعة تنفيذ ما يصدر بهذه العقوبات من أحكام، وذلك من خلال إدارة فنية خاصة يقوم بقيد هذه الأحكام والمحكوم عليهم بها لديها وتتعامل معهم بما بما يحقق قدر من المتابعة الجدية لجدوى الحكم بها ومدي استجابة المحكوم عليه وإصلاحه ، وإلغائها عند الاقتضاء، حتي لا تكون هذه الأحكام سبيلا للإفلات من العقوبات الأصلية المقررة للجريمة، بل ويجب متابعة المحكوم عليه بها فترة زمنية بعد تنفيذها للتأكد من موضوعية وجدية التحول في شخصيته.
وفي كل الأحوال فإن هذه الأحكام ستتقيد أيضا في تنفيذها بما جاء بنص الإجراءات الجزائية من عدم تنفيذها الا بعد صيرورتها نهائية وفقا للمادة الثالثة عشرة بعد المائتين والتي تقضي بأن :الأحكام النهائية هي الأحكام المُكتسبة للقطعية بقناعة المحكوم عليه، أو تصديق الحُكم من محكمة التمييز أو مجلِس القضاء الأعلى بحسب الاختِصاص.
5- المراجعة الواقعية المستمرة:
إذ يتعين أن تكون هناك متابعة ومراجعة مستمرة للعقوبات البديلة للوقوف على مدى قدرتها على تحقيق الأهداف المنشودة منها، حتي لا يفضي الأمر إلى إسراف في القضاء بها دون جدوى، أو هجرها وإهدارها ما نتوخاه منها.

ويبقى أن نقول كلمة أخيرة أنه لا يمكن أن نقف حجر عثرة في سبيل مسيرة إصلاحية تحترم احتياجات المجتمع وتتعامل مع مقتضياتها بعين الاعتبار، ولا ينبغي للصحافة الحرة الأمينة على صالح وطنها أن تترك المجال لحديث غير المتخصصين فالأمانة في العرض تقتضي التناول الموضوعي للحدث، والتناول الموضوعي لا يكون إلا من خلال إتاحة الفرصة للمتخصصين وأهل الخبرة والعلم من أن يدلوا بدلوهم في كل ما يعن من موضوعات ونرى فيها جدالا واسعا، إذ أن هذه المجادلات الفارغة من المحتوي والبعيدة عن أهل العلم والدراية قد تقود لجلب شر نحن في غنى عنه أو تمنع خير نحن في أمس الحاجة إليه.

ياسرالبلوي
24-01-2011, 01:05 PM
السلام عليكم
حقيقة إضافة رائعة ومشاركة استشرافية متميزة تكتب بماء الذهب ومجهود تنظيري متميز لملمت أطراف الموضوع وإن كنت في نظرتي للامر غلبت الحالة الواقعية والإمكانيات المتاحة في الوقت الحالي , ولا إعتراض في كون البدائل ليست للتعميم وإنما على ما انطبقت عليها معايير مخففات الأحكام وابتعدت عنها الظروف المشددة نظاماً وشرعاً , وأما التفاوت فهي ليست عقبة فالتفاوت موجود في الحالة الواحدة والصادر فيها نظاماً لأسباب التفاوت . جهد مبارك أخي الفاضل لقد أعجبني جهدك جداً