المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تصحيح مسارات بعض الأحكام



ناصر بن زيد بن داود
22-09-2008, 09:41 PM
في منتصف العام 1396هـ اشترى والدي أرضاً على طريق الحجاز القديم بمدينة الرياض ، واستلم صك الإفراغ بعد دفع كامل الثمن، ثم بعد سنةٍ تقريباً تعرَّض لها طريق (ديراب) السريع فاقتطع منها جزءاً كبيراً، واقتطعت وزارة الدفاع والطيران الجزء الباقي منها، وعند مراجعته الدوائر المعنية لاستلام التعويض، وتوزيعه على عشرات المساهمين معه في الأرض ظهر أن المتقدمين لاستلام تعويض الأرض ذاتها ستة أشخاص، وكلهم يحمل صكاً بإسمه.
ونتيجة لذلك: فقد أحيلت المعاملة للمحكمة للبت فيها، وبعد أكثر من عشرة أعوامٍ حكمت المحكمة لوالدي ومساهميه بالتعويض؛ لكونه المشتري الأول من بين الستة المذكورين بحسب تاريخ صك الإفراغ، ثم بعد انتظار أكثر من عشرة أعوامٍ أخرى استلم التعويض المقدر في العام 1397هـ!!.

هنا انتهت القضية وما أكثر مثيلاتها، غير أن لنا معها ثماني وقفاتٍ:-
الوقفة الأولى:
مع البائع أو وكيل البائع (سامحهما الله)؛ الذي تعمد الإضرار بالمشترين الستة، فباعهم أرضاً واحدة ليست بالصغيرة، واستلم من كلٍ منهم قيمتها، ومع ذلك الإضرار الظاهر المبني على الاحتيال السافر: لم يؤاخذ المتسبب منهما على فعلته.

الوقفة الثانية:
مع كتاب العدل في تلك الفترة (عفى الله عنهم)؛ الذين أفرغوا الأرض دون أن يؤشروا على صك المستند وسجله بما يفيد بانتقالها إلى المشتري الأول، وتكرر ذلك منهم مع المشترين الباقين، بل إن صك المستند الأصل بقيت الأرض في ظاهره مملوكةً للبائع الذي استلم قيمتها ست مرات، ومع ذلك: لم يؤاخذوا بغير إحالتهم على التقاعد، بعد أن تسببوا في الإضرار بالمشترين أكثر من عشرين عاماً في أرضٍ واحدة.
والله أعلم كم هي الحالات المماثلة لتلك القضية التي امتدت إليها يد العبث بمقدرات الناس وأموالهم ومصالحهم.

الوقفة الثالثة:
مع المحكمة العامة؛ التي نظرت قضية استحقاق التعويض، واستغرقت في نظرها - على بساطتها - أكثر من عشرة أعوام، مع أن طريق حلها كان ميسراً جداً، ألا وهو تدقيق تأريخ الصكوك ثم الحكم للسابق من المدعين الستة؛ وهو ما حصل فعلاً بعد تلك الأعوام، ومع ذلك: فقد اكتفت المحكمة بالحكم للمشترين الخمسة المغرر بهم بالرجوع على من باعهم برأس مالهم الذي دفعوه وقت الشراء؛ دون التعرض لوكيل البائع - الذي باشر عمليات البيع الباطلة - بأيِّ عقوبةٍ رادعة.

الوقفة الرابعة:
مع وزارة المالية؛ التي أخرت صرف قيمة الأرض، ومطلت مالكها أكثر من عشرة أعوام؛ دون تعويضٍ عن مدة التأخير التي أعقبت الحكم الشرعي، في وقتٍ كان بإمكان المالك والمساهمين معه استثمار أموالهم فيما ينفعهم طيلة العشرة أعوام أو تزيد، ليجتمع عليهم إضراران؛ هما تعطيل رأس المال عشرة أعوام قبل الحكم، وتأخير صرفه عشرة أعوام أخرى بعد الحكم؛ دون تعويضٍ عن أيٍ منهما؛ كما تقتضيه مبادئ العدل والحق والإنصاف.
لا ريب أن مسؤولية المطل خلال سنوات نظر القضية في المحكمة من مسؤولية المالك أو وكيله الذي تسبب في حصول البيوع الزائفة، غير أن وزارة المالية تتحمل - بلا شكٍ - مسؤولية تأخير صرف التعويضات من تاريخ تأييد الحكم .

الوقفة الخامسة:
مع المالك (رحمه الله) وشركائه؛ الذين ارتضوا صدور الحكم باستحقاقهم التعويض من بين المدعين شراء الأرض الستة؛ مكتفين بذلك، تاركين المتسبب يعبث بأموال الناس ومصالحهم دون مساءلة ولا محاسبة، ولو طالبوا ذلك العابث المستهتر بالتعويض عن سنوات التأخير لأمكن أن يكون لهم حظاً في ما يطلبون.

الوقفة السادسة:
مع المالك (غفر الله له) وشركائه؛ الذين هانت مصائبهم باستلامهم التعويض العتيق؛ تاركين المطالبة بالتعويض العادل ممن تسبب في تأخير صرف التعويض بعد الحكم، وكان من حقهم المطالبة بإعادة التقييم مرة أخرى؛ خصوصاً مع ارتفاع أسعار العقار خلال مدة التأخير إلى أكثر من 500% أي خمسة أضعاف ما تساويه الأرض وقت صدور الحكم.

الوقفة السابعة:
مع الحكومة (أيدها الله)؛ لتجيب على السؤال الذي طالما انتظر الناس جوابه، ألا وهو: متى يرى القانون السعودي النور؟؛ ليعلم الناس حقوقهم فيطالبوا بها، ويعرفوا حدودهم فيلتزموا بها، ويدركوا جزاء المخالفات فيرتدعوا عنها.

الوقفة الثامنة:
لأولي العلم وكبار القضاة في بلادنا العزيزة (نفع الله بهم)؛ ليقولوا قولتهم في تغريم من يؤخر إيصال الحقوق إلى أهلها؛ سواء: بالاعتداء عليها بالإتلاف، أو بالاستيلاء، أو بالاحتيال، أو بالمطل والتسويف، أو بالتواطؤ مع من سبق، أو بتعطيل إنفاذ الأحكام القطعية.
فلو قرروا: فرض غرامةٍ على ذلك التأخير؛ تدفع للمتضرر مقدراها 20% عشرون في المائة (حداً أدنى) عن كل سنة تأخيرٍ مثلاً: لكان ذلك رادعاً ومانعاً لكثيرٍ من حالات التعدي الظالمة.

ولا ننسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضى على من سرق مال الغير - من غير حرزه - برد المسروق وغرامة ما نسبته 100% مائة في المائة، إضافة إلى العقوبة البدنية.
روى أبو داود - واللفظ له - والنسائي في كتاب قطع السارق وحسنه الألباني (رحم الله الجميع): عنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ (سرقة): الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ (( مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ .. .. ) الحديث.
وموضع الشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ((فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ))،
والناس اليوم أحوج إلى تعدية مثل هذا الحكم إلى كل من يُرَوِّعُهُم في أموالهم وزينة حياتهم؛ تعويضاً لهم، وزجراً عن التعرض لأموالهم وإرادة الإضرار بهم.

إننا إذ نحمد المولى جل جلاله - الذي اختار لنا أكمل الشرائع وخاتمها، واختار لنا ولاة أمرٍ آمرين بالقسط ممن يقضون بالحق وبه يعدلون - لنرجو أن نكون جميعاً كما يريده الله من عباده المستخلفين على شرعه المؤتمنين على رسالة خاتم رسله وخيرة خلقه صلى الله عليه وسلم . والله المستعان


الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود


http://www.cojss.com/article.php?a=142

سعد الغامدي
22-09-2008, 11:32 PM
بارك الله فيك يادكتور على هذه الوقفات الرائعة التي يجهلها الكثير من المتداعيين,,,

فهد بن عبدالله
23-10-2008, 08:01 PM
بارك الله فيك يادكتور

@الطموح@
30-10-2008, 12:46 PM
سؤالي هل استفاد القضاء من مثل هذه الحالة ؟
فيعمل الاحترازات لما يمكن ان يحصل في المستقبل

أتمنى أن تتحقق الوقفة السابعة

وشكرا للشيخ ناصر

ابوحسام
18-12-2008, 06:20 PM
شكـــــــــــــــــــــرا لكم شيـــــــــــــــــــــخن ا الكريــــــــــــــــــــ ـــــــــــم
والله يحفظكــــــــــــــــــــ ــم ،،،،،،،،،،،،،،،،

ناصر بن زيد بن داود
27-01-2009, 07:05 PM
شكراً لمداخلاتكم اللطيفة إخواني الأفاضل : سعد الغامدي ، فهد بن عبد الله ، الطموح ، أبو حسام .

والمستقبل يحمل الكثير من الجديد المفيد . نسأل الله حسن العاقبة

ابو حسن عسيري
10-02-2009, 09:02 PM
صاحب الفضيلة الشيخ ناصر حفظه الله ....
الأخوة الأفاضل ...

كم أستمتع ويستمتع غيري بتلك النظرات الفاحصة الناقدة للأحكام القضائية ... ففي ذلك تجد النظرية تتحول لعملية تطبيقية تثبت العلم وتزيده وضوحاً

لكن العقبة الأولى أمام ذلك هي أن الأحكام القضائية غير منشورة ... ولعل معالي وزير العدل - وفقه الله - قد لاحظ ذلك فسد - بالحرص على صدور المدونات القضائية - ثغرة مهمة في ذلك ....

ولكن ما يهمني هنا أن أقوله هو وجود بعض الحساسية لمستها من بعض الأخوة القضاة من هذه الفكرة ( = نشر الأحكام القضائية ) وكأن ذلك منهم خشية ًللنقد ، ولكنني أعتقد أن النقد هو عملية بناء بالدرجة لأولى ، وحكم القاضي لا يزال اجتهاداً قابلاً للنقد ... وعليه فلا مشاحة في ذلك ... ونقد الحكم لايعني أبداً الانتقاص من مصدره أومن الجهاز القضائي ...

ومما يقرب الأمر أن الدول الأخرى ومنها الأردن ومصر تجد الأستاذ الجامعي هناك يُدرِّس النظام ويتبعه بالفقه ثم يبين موقف القضاء من ذلك ...

أما لدينا فللأسف يضطر الأستاذ الجامعي لعرض النظام فقط ...
فهو لا يجد - إلا نادراً - اجنهادات فقهية سعودية تَدرُس النظام
ثم لا يجد أحكاماً قضائية تبين التوجه القضائي ...
وهذا النقص يجعل تدريس الأنظمة عملية يشوبها كثير من الخلل والنقص ...

كذلك تدريس الفقه ...
فعندما درست - مثلاً - أحكام باب إحياء الموات ...
لم يكن معلمنا في ذلك الوقت يعرف أي شيء عن الإجراءات المعمول بها في المحاكم حول موضوع الإحياء والإقطاع ... فكانت دراستنا فقط نظرية للأحكام الفقهية من خلال الروض المربع
فكان مثلنا حينها كمثل من يروم تعلم السباحة فقط بالشرح النظري دون الخوض في الماء وشرب الكثير منه !!!

ليت المسؤولين يوفقون لسد مثل هذا لعجز ، وجزاكم الله خير ...

طويلب علم
21-05-2009, 11:46 AM
لفت انتباهي يا شيخ ناصر الحديث الذي استشهدتم به وهو : (( مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ .. .. ) الحديث.
وموضع الشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ((فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ)) .

وفي المسألة أقوال وهي : أن هذا على سبيل الوعيد والتغليظ لا الوجوب ، لينتهي فاعله عنه ، وإلا فلا واجب على متلف الشيء أكثر من مثله .

وقيل : كان في صدر الإسلام تقع العقوبات في الأموال ثم نسخ .

لكن هناك بعض الحلول البديلة وأذكر أن أحد القضاة قديماً قد عرضت عليه قضية بين بنك ومدين ، وطالب البنك قيمة ما أقرضه مع تعزيره عن التأخير ، فحكم القاضي بأن يعطي المدين للبنك قيمة مماثلة لما أعطاه سابقا البنك وجعلها عنده فترة زمنية مماثلة لفترة مماطلة المدين ، وهذا مقتضى العدل .

وقد بحثت هذه المسألة في مجلة ( دراسات اقتصادية اسلامية )الصادرة من البنك الإسلامي للتنمية .. وأذكر أن بعض المشاركين فيها قد اقترح أن يعزر القاضي المدين الغني المماطل بعقوبة مالية تصرف في وجوه البر خروجاً من شبهة الربا ، والله أعلم .

طويلب علم
21-05-2009, 03:26 PM
بالنسبة للحديث :

قال الخطابي :" وقوله – فعليه غرامة مثليه ، يشبه أن يكون هذا على سبيل الوعيد، لينتهي فاعل ذلك عنه . والأصل أن لا واجب على متلف الشيء أكثر من مثله ، وقد قيل إنه كان في صدر الإسلام يقع بعض العقوبات في الأموال ، ثم نسخ " ( معالم السنن 2/77)
وقال في موضع آخر :" قلت : سبيل هذا سبيل ما تقدم ذكره من الوعيد الذي لا يراد به وقوع الفعل ، وإنما هو زجر وردع ، وكان عمر بن الخطاب يحكم به ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، وأما عامة الفقهاء فعلى خلافه " .

ورده ابن القيم بقوله :" وقول من حمل ذلك على سبيل الوعيد دون الحق يقة في غاية الفساد، ينزه عن مثله كلام النبي صلى الله عليه وسلم .(شرح سنن أبي داود4/456) .

ووفق بعض الباحثين كما قال ذلك الدكتور سلمان الداية ، مجلة جامعة الأقصى، المجلد الثاني عشر، العدد الثاني، يونيو 200 : ويمكن أن يجاب على كلام ابن القيم بأن التهديد بالغرامة مراد على الحقيقة لكن لا على سبيل الحتم ، والاطراد في كل معتد ، بل هو موكول إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم إلى كل إمام عادل ليفرض ذلك متى اقتضت الحاجة إليه حملاً للناس على الوفاء والالتزام الذي به يتحقق العدل وتدرك السعادة .
ولهذا نَظِيْرٌ في السنة كما في حديث تحريق المتخلفين عن صلاة الجماعة فإن الحديث يتضمن تهديدًا ووعيدًا مرادًا على الحقيقة ، زجرًا للناس حتى يلتزموا الصلاة جماعة ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل من ذلك شيئًا إما لاحتمال الوفاء من الناس ، والرجوع عن التقصير ، وإما ليفسح لهم فرصة التوبة والاستقامة ، وإما لوجود النساء والذرية في البيوت ويحتمل غير ذلك .
ثم قال : والحاصل أن التهديد والتخويف بالعقوبة البدنية أو المالية ، حملا ً للناس على الوفاء والالتزام من هدي الشارع لا مجال لإنكاره .

وهو توفيق جميل برأيي والله أعلم .

سيادة القانون
06-01-2010, 03:14 PM
بارك الله فيك يادكتور

وقفات تستحق الوقوف امامها طويلاً ...عمت الفائدة بما سطرته ..لا عدمناك.