لا تنقل عملك إلى منزلك ...

كنت عصر يوم من الأيام في مكتبتي الصغيرة متمدداً على أريكة مريحة ... وقد تركت نافذة الغرفة نصف مفتوحة ومنها كان نسيم عليل بين الحين والآخر يهب علي معطياً لهذه الجلسة نوعاً من المتعة بعد يوم حافل ...
كنت حينها أقرأ إحدى المجلات فلفت نظري هذا العنوان الذي صدرت به هذا المقال ...
وسر اهتمامي بهذا العنوان – كما أظنكم تسألون أنفسكم عنه الآن – أمران :
أولهما أنني أعرف أحد القضاة كان شعلة من النشاط والعطاء ، وكان يبدو لمن زاملوه آنذاك أن هذه الشعلة تستمد ضيائها من زيت لا ينضب ، وأن هذه الحركة تنهل من معين لا ينتهي ...
ولكن الأمر انتهى نهاية مأساوية ... فإن الزيت قد نضب فخبا ضوء الشعلة حتى انطفأت تماماً ... فأصبح صاحبنا يأتي للعمل يوماً ويغيب يومين إلى أن طلب الإحالة للتقاعد !!

وثاني الأسباب التي جعلتني أقرأ هذا المقال بشيء من التركيز ، أنني في فترة سابقة ابتليت بتراكم أعمال لم أستطع إنجازها في مكان العمل .. فصرت أحمل كل يوم مجموعة منها إلى منزلي ... ليتحول مكتبي في المنزل إلى ملفات متناثرة مبعثرة ... وصار الملاذ الذي أهرب إليه كل يوم من ضغط العمل وصخب الحياة جحيماً آخر ....
بعبارة أخرى احتل عملي منزلي ...
كنت أعلم أن هناك خطأ ما ولكنني لم أكن أعرف بالتحديد أين هو هذا الخطأ ...
ولكي تتصور أخي القارئ شيئاً من ذلك فقد لاحظت على نفسي مجموعة من التغيرات ...
كنت أتصرف مع أسرتي وأبنائي بشيء من العصبية بلا سبب ، وكنت أشعر بالضغط وضيق الوقت ، وبدأ الملل يتسرب إلى نفسي بلا سبب ظاهر ...
ولما قرأت المقال شخصت دائي وعرفت دوائي ...
لقد كانت علتي تكمن أنني سمحت لنفسي - وبلا شعور - أن يطغى عملي على واجبات أسرتي وعلى ساعة راحتي ...
فصرت كالعجلة التي لا تهدأ ...
وقد صورت لي نفسي حينها أن ذلك ضرب من النشاط والحرص ... ولكن الأمر في عاقبته استحال إلى ما وصفت لك من أمري وأمر صاحبي ...
فإياك أن تأخذ شيئاً من مكتبك إلى منزلك ....

هذه الجملة حتى تتحقق فإنه لا بد من الالتزام بعدة قواعد :
- وقت العمل للعمل فقط ، ووقت الراحة للراحة فقط ووقت الأسرة للأسرة فقط .
- للنجاح أدواته وأهمها : ذهن صاف يلمح الفرصة بسرعة فائقة ، مع نفس قوية تتحمل الضغط ، مع جسم صحي وسليم ... ولا شيء يعكر صفاء الذهن إلا نسيان الأهداف في غمرة الاشتغال بالوسائل ، ولا شيء يضعف النفس مثل تحميلها ملا تطيقه ، ولا شئ يضف البدن إلا كثرة الطعام وقلة الرياضة ...
وفي المقال الذي أشرت إليه تقول البرفسورة / سابين المتخصصة في علم نفس العمل بجامعة كونستانز بألمانيا شيئاً مهماً ...
تقول : لا ينحصر المشكل فقط بالأوراق التي يحملها الموظف معه للمنزل ، هذا فقط المظهر المادي للمشكلة وإلا فإن روح المشكلة يكمن أيضاً في التفكير في مشاكل العمل وواجباته في المنزل ... أثناء الاستحمام ، أثناء تناول الطعام مع الأسرة .... إلخ هذا الجزء الغير مرئي مؤثر بشكل كبير على حياة الموظف في منزله ... ثم تضع البرفسورة يدها على مكمن الداء فتقول : التفكير في العمل بصفة دائمة يجعل من الصعب على الإنسان أن يستمر في العطاء والإنتاج والإبداع على المدى الطويل ، لابد في اللحظة التي يدخل فيها الإنسان منزله أن يطفئ جهاز العمل لديه كما يطفئ أحدنا التلفاز !!!
ولأنني أمارس العمل القضائي فإنني أتصور أن قارئ هذا السطر يقول : إن هذه النصيحة يصعب تطبيقها ...
وأنا أوافقك الرأي ...
بالنسبة لي : كم حل لغز قضية ما وأنا أقرأ الجريدة في منزلي !! وكم فكت شيفرة قضية ما وأنا ألعب مع أولادي !!!

لكن البرفسورة ذكرت شيئاً مهماً وهو :
خلق أنشطة اجتماعية ورياضية خارج وقت العمل تستهلك الوقت دون أن تسمح للقضايا من أن تهجم على أدمغتنا ...

أيها القارئ ...
بعد أن قرأتُ هذا المقال عقدت العزم على ألا أنقل عملي إلى منزلي ...
وبدأت هذه الخطة بإجازة ثلاثة أيام في إحدى الشاليهات الغالية ...
ومع أن قلبي أوجعني على الخمسة الآف اللي صرفتها إلا أنني فعلاً شعرت وكأنني ولدت من جديد والأهم من ذلك أن أسرتي المسكينة أخذت حقها كامل ....
بعدها اشتركت في أحد المراكز الرياضية وخصصت لها يومان في الأسبوع لممارسة الرياضة والسباحة ....
وأعدت الاتصال بشلتي القديمة ( اقرأ عن ضرورة هذه الصحبة في كتاب الدكتور غازي القصيبي – شفاه الله - حياة في الإدارة ) ونظمت لقاء أسبوعياً نلتقي فيه ونتجاذب أطراف الحديث في كل شيء إلا العمل ...

الأهم من ذلك كله - ولا أظنني نجحت فيه حتى الآن مع الأسف – أن تكون أوقات صلواتنا أوقات مناجاة حقيقة لله عز وجل ....
وقد جربت مرة أن أستيقظ قبل الفجر بربع ساعة صليت فيها وقرأت شيئاً من القرآن ثم صليت الفجر ثم مشيت قليلاً ثم مريت على محل التميس وأفطرت قلابة وعدس فكم كان صباحي ذلك جميلاً ,,,
وأتذكر هنا نصيحة قديمة من أحد مدرسي ... قال :
لماذا لا نناجى الله عز وجل في السحر حين ينزل في الثلث الأخير ونذكر حوائجنا له ؟؟؟
وقد جرت عادة الناس أنه كلما نزل عظيم أو مسئول بمكان ما أقبل الناس عليه كل منهم يحمل إليه حاجته ....
ولله المثل الأعلى ...
ينزل ربنا كل ليلة ونحن في الفرش نائمون وبعضنا لتوه قد نام فما أقبح ذلك !!!