جريدة الاقتصادية - الاثنين 1430/3/26 هـ. الموافق 23 مارس 2009 العدد 5642

محاكم الصلح



د. عبد العزيز بن عبد الله الخضيري

الانتقال للمجتمعات المتحضرة واتساع المدن وضعف العلاقات الاجتماعية وتشعبها وانتشار الأمراض النفسية وتعقد العلاقات الأسرية وتشابكها وتغير السلوك الإنساني واتساع دائرة الحريات الشخصية وزيادة عدد جمعيات وهيئات حقوق الإنسان وحقوق الأسرة والأطفال والمرأة والرجل وطغيان النظرة الفردية للأشخاص على حساب النظرة الاجتماعية والأسرية وتقنين عديد من الإجراءات وضمان توثيق كل الاتفاقات والموافقات والتنازلات والصلح بين الأفراد وأمور كثيرة تدفع بأصحابها للاتجاه نحو المحاكم الشرعية لقضاء الحوائج والمنازعات والاختلافات, ما جعل المحاكم الشرعية تغرق في سيل كبير من العمل اليومي المتراكم غير المترابط من قضايا القتل والسرقة إلى قضايا الحضانة أو الوصاية أو الشجارات البسيطة بين أفراد الأسرة الواحدة أو الجيران. نجد أن أغلب المواطنين يتذمرون من تأخر قضاياهم البسيطة في المحاكم, وأن المواعيد تأخذ سنين عديدة لإنهائها, وفي الوقت نفسه نسمع تذمر بعض القضاة والعاملين في المحاكم من حجم العمل وكثرته وعدم قدرة المحاكم على إنجازه في الوقت المحدد لأسباب عديدة. ومع تنوع القضايا وكثرتها وتداخلها إلا أنها تصب أغلبها في المحاكم الشرعية دون إعادة النظر فيها وفي نوعيتها وأسلوب معالجتها بعيدا عن المحاكم الشرعية وتفريغ القضاة لمعالجة القضايا الأهم التي تتطلب الدقة والتركيز والتفرغ والاستشارة بما يضمن صدور الحكم السليم في الوقت المناسب.
في زحمة المحاكم الشرعية وكثرة القضايا وتغير المجتمع مما نحتاج معه إلى البحث عن بدائل أخرى تساعد على تخفيف العبء الكبير من العمل اليومي البسيط عن المحاكم الشرعية,خصوصا القضايا ذات البعدين الاجتماعي والأسري, التي تعد اليوم من القضايا المشغلة للمحاكم, والتي يمكن توجيهها إلى جهات أخرى لا تتطلب ما تتطلبه القضايا الرئيسة من القضاة من علم وتفرغ وجهد ولكنها تتطلب شيئا من الحكمة والمعرفة بأفراد المجتمع وطبيعته المحلية وسلوكياته وكيفية التوفيق بين المختلفين. ومن الأمثلة لمثل هذه القضايا, قضايا الطلاق والخلع والحضانة والزواج والنفقة والمشكلات الأسرية بين الآباء والأبناء وبين الجيران والمشكلات المالية البسيطة في الديون أو الإيجارات أو الحقوق الخاصة أو الاختلاف بين الأزواج وغيرها, ما يتطلب دقة الاحتكام إلى أحد الفضلاء الملمين بالأحكام الشرعية والمالكين القدرة على التوفيق بين الناس مع الإلزام وتصديقه بعد الاتفاق.
اليوم لجان إصلاح ذات البين تقوم في بعض المناطق بجهود عظيمة للإصلاح بين الناس ومعالجة عديد من المشكلات المذكورة والسعي في إعتاق الرقاب, وهذه الجهود الخيرة المباركة لا تعد ملزمة للمتفقين إلا بالمصادقة عليها من المحكمة العامة, ما يشغل المحاكم, ويؤدي ذلك إلى إعادة فتح القضية أمام القاضي قبل التصديق عليها لأن أحد المتخاصمين غير رأيه بعد الموافقة بين الفترة التي تم فيها الصلح وبين إرسالها للمحكمة للتصديق عليها, وبهذا تنسف الجهود التي بذلت من أصحاب الفضيلة أعضاء لجان إصلاح ذات البين, ومن جهة أخرى فإن أغلب إن لم يكن كل أعضاء لجان إصلاح ذات البين هم أعضاء متطوعون ومتبرعون بالوقت والجهد وأحيانا بالمال في هذه اللجان, ما لا يجعل عملهم ملزما لهم وربما يقع رؤساء تلك اللجان في حرج الاستعانة بزملائهم في بعض الأوقات لارتباطاتهم العملية, ما يصعب إنجاز الأعمال أو أن يقع عبئها على رئيس اللجنة للقيام بكثير من الأعمال.
إن المرحلة الحالية وفي ضوء التطور الإداري القضائي الذي تعيشه المملكة نحتاج فيها إلى إنشاء محاكم للصلح تحال إليها القضايا الأسرية والمجتمعية ذات العلاقة بالأحوال الشخصية والعلاقات الزوجية والمشكلات بين الأبناء والآباء ومشكلات الجيران ومشكلات الإرث وحصر قضايا الإعالة والنفقة وغيرها من القضايا التي يحتاج فيها إلى الجمع بين المعرفة والخبرة الشرعية والنظامية والنفسية والمجتمعية من سلوك للأفراد ومعرفة بالطبائع يتم من خلالها تسخير ذلك لإنهاء تلك الدعاوى وتصديقها وجعلها ملزمة للطرفين بدلا من بذل الجهود الكبيرة غير الملزمة ثم إرسالها إلى المحاكم للتصديق عليها.
إن تغيير المجتمع واتساع رقعة وزيادة أفراده, وانتشار المشكلات الأسرية بين أفراده, يحتاج منا إلى إعادة النظر في الوضع الراهن للقضايا التي تنظرها المحاكم وإيجاد البدائل الشرعية النظامية التي تخفف العبء وتقلل الوقت وتنهي عديدا من المشكلات دون الحاجة إلى التقاضي. ولعل فكرة إنشاء محاكم للصلح والإصلاح بين الناس تكون داعمة وبديلة للمحاكم العامة ولجان إصلاح ذات البين للقضايا التي سبق ذكرها والقضايا المشابهة, وجعل محاكم الصلح محاكم يعترف بها ويفرغ لها الأشخاص الأكفاء من أصحاب الخبرة الشرعية والنظامية والنفسية وممن يملكون المعرفة المجتمعية والقبلية بأفراد المناطق وسلوكهم, وتصبح قرارات وأحكام هذه المحاكم ملزمة للطرفين, ومن لا يمكن الإصلاح بينهم يتم إحالتهم إلى المحاكم الشرعية لأخذ الإجراءات المتبعة للقضية, ومن خلال محاكم الصلح تخفف على المحاكم الشرعية حجم العمل اليومي وكثرة المراجعين وفي الوقت نفسه تقلل من الاحتقان الأسري والمجتمعي بين الناس لأن دور محاكم الصلح سيبقي القضية ضمن إطار إصلاح ذات البين ولن ينظر إلى القضية من أطرافها على أنها مشكلة كبيرة مرفوعة للمحكمة الشرعية, وفي محاكم الصلح سيخرج الطرفان راضيين لأنهما اتفقا على الحل, أما المحاكم الشرعية ففي الغالب هناك حكم لشخص ضد الآخر, وهنا لا بد من إعطاء محاكم الإصلاح السلطة في اعتماد الأحكام وإنفاذها, والله من وراء القصد.