الفصل الثالث
فتنة عولمة التشريع الإسلامي
ويخصه أربعة محاور
المحور الأول:
مستقبل عولمة الأحكام الشرعية وعاقبة تقنينها
المحور الثاني:
فتنة إحداث تقنين الأحكام الشرعية
المحور الثالث:
توقع تحطيم هيبة القضاء على أعتاب عولمة تقنينه
المحور الرابع:
مستقبل عولمة الفكر ونظام الحكم
 
المحور الأول:
مستقبل عولمة الأحكام الشرعية وعاقبة تقنينها
الشريعة الإسلامية مؤداها وجوهرها حق أبلج، عالي المقام، قوي الحجة، تحفه مقوماته العلمية النظرية، بل هي رئيس إمداده، لواقعية دلالتها، وصحة سندها، وجميل توافقها مع فطرة الله  الملازمة لخلق الإنسان السوي، وحسن ارتباطها بإقرار العقل السليم، ولطف مرافقتها ومسايرتها لحياة الناس العادية..
وشد عضد هذه المقومات للحق الشرعي، وأدلته القولية والعقلية، بمؤازرة الواقع الحياتي العلمي والعملي المتطور المباح، للناس عامة زماناً ومكاناً، ليظل الحق سائداً والواجبات الإسلامية حاكمة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ومهما تتداعى عوارض الحياة كتداعي الأكلة.. بما تحمل الأمة الإسلامية اليوم من غشاوة الفكر، وطمس البصيرة، وتغلب الباطل، بنصر الهوى المتبع، وبمتابعة النفس الناكبة..
تتداعى لتحول دون إظهار الحق، وانتصاره، وإعلاء كلمته..
تتداعى لتحول بينه وبين أن يكون له دولة تحرسه، وسلطان ينصره، ويحميه من أعدائه..
مهما تعمل لذلك، ومهما تصنع من عوائق، وتربط من مكر، وتخطط من كيد، وتبيت من تربص.. فإن الحق ظاهر، والباطل زاهق، مدحوض بوعد الله، الدافع بعضهم ببعض.
كما قال تعالى:  ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز( ) .
لكن متى يكون هذا النصر للحق؟ ومتى تظهر حقيقة وعد الله؟ والكيد والمكر والتربص بالحاكمية الشرعية، صداً وإعراضاً عنها، واختياراً والتزاماً لما دونها من تقنين، منذ قرن حتى الآن، ولا يزال الانحطاط بالمسلمين في زيادة، وهو واقع بهم..
إنها سنة الله، ولا بد أن تجري على عباده، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وليتخذ منهم بالجهاد في الحق والذود عن حياض مسالكه ومنابعه شهداء..
ومتى تحقق الثبات، وتوافرت مستلزمات النصرة.. المشروطة بحقها.. في مفهوم الآية:  إن تنصروا الله ينصركم .. أو حصل التخاذل والتخلي المفهوم من قوله تعالى:  إلا تنصروه فقد نصره الله . ثم من عموم وعد الله بنصر دينه.. فإنه متى حصل هذا أو تحقق ذاك: تدخلت القدرةن وجاء نصر الله، ليمكن للحق ويرفعه على من خالفه، أو تصدى له، ونازعه.
والأمثلة كثيرة معلومة، منها:
نصر الله للحق، يوم جاء أبرهة ليهدم الكعبة.. وقد تخلت قريش عن الدفاع عنها..
ومنها: يوم هزم الله الأحزاب وحده..
ويوم حنين، بعد أن ضاقت على المسلمين الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم..
ويوم بدر: أيد الله نبيه، والذين آمنوا معه، وقاتلوا بجنود لم يروها.. قاتلوا مع المسلمين، بعد أن غشاهم أمنة نعاساً.. إلى أن جعل كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى..
وكم في دروس السيرة من عبر..
وكم ترك الأولون من أثر..
وكل مصيبة، وفتنة، وابتلاء، تحل بالمسلم فرداً، أو بالمسلمين جماعة، على ما قال الله تعالى: 
 ونبلوكم بالشر والخير فتنة( ) .
في المال أو في النفس "الذات أو الوالد أو الولد" بالنقص المحزن، أو بالزيادة والربو المفرح.. فإنه مهما يكن محزناً، فهو فيما سوى الدين جلل..
وشريعة التقنين والتزامها فتنة في الدين، ومصيبة فيه، وقد استعاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المصيبة في الدين، على ما ورد.. ( ولا تجعل مصيبتنا في ديننا( ) ) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
إنه منذ قرن تقريباً حصل بدء الإلغاء، والإقصاء، للعمل بأحكام الشريعة الإسلامية، خاصة فيما يخص أحكام الحدود والقصاص.. في معظم البلاد الإسلامية..
بدأ ذلك حين ران الجهل على عقول وأفكار أكثر الناس جهلاً بفروض العين، في الشريعة الإسلامية، على مستوى عالم الإسلام، أو في معظم ديار الإسلام، بعد أن تعرضت لغزو فكري رهيب، صادر عن تخطيط موثق مدروس، قبل تعرضها للغزو العسكري المعروف، والذي أدارته وزارة المستعمرات البريطانية، على أعقاب إسقاط الخلافة العثمانية..
والهدف الرئيس للغزو: هو إخراج المسلمين من دينهم، دون إعلان مقطوع بالكفر.. لكن يكتفي بعدم تطبيق أحكام الإسلام فعلاً في الواقع العملي..
ولا يهمهم أن يبقى له وجود رسمي، ووجود شعبي، مبزوز مقطوع، دون الصلة بالتطبيق..
ويصدق هذا معنى ما قاله الوزير البريطاني "غلاد ستون" عام 1883م وهو يرفع المصحف الكريم في يده: إنه ما دام هذا يحكم فلا قدرة لنا على ولاية المسلمين وإذلالهم.. بل نحن على خطر وتخوف عظيم من زحفهم الإسلامي..
قال هذا الحطمة اللكع في حضور وجمع مجلس العموم برئاسته( ).
إن أعداء الإسلام هذا الوزير وأمثاله: هم الذين أجلبوا تغريب الإسلام، بتخطيطاتهم، بعيدة المدى، ليخرجوا المسلمين من إسلامهم، ظانين عليهم الدخول في دين اليهودية، أو النصرانية، لكن يبغون لهم الفتنة، بلازم الانبهار بتصورات الغرب، ونظمه، وأوضاعه، المادية، والعلمية، المدنية و الحضارية..
إلى التهاون في التزام أحكام الإسلام، وتشريعاته العلمية، والعقدية، واستبدالها بالقوانين الوضعية، في المعاملات التشريعية.. وبالنظريات الفكرية، في التوجهات الإيدلوجية.
إلى غير ذلك من أمثال التزام ( بروتوكول ) الفصل بين الدين والدولة..
وهو ما يعني هنا مقومات نظام الحكم..
وقد كانت هذه الفتنة بداية.. غير محددة النهاية.. ولا معلومة الأجل.. ولا هي مقدرة الكم ولا الكيف.. ولا كذلك كان وارداً في حسبان الغثائية.. تدبير كيد الكافرين باستئصال شعفة المسلمين.. أو محاصرة سلطانهم.. مما كان بذلك صفاء الجو لتوالي العاتيات.. ووافدات المرهقات..
جرع صاغتها تدابير وبروتوكلات عقول الأفاعي اليهودية .. والصليبية النصرانية.. صنعوها في هيئات وشخصيات اعتبارية.. وفي معاني مقومات الفتنة.. يقدمها عولمة التقنين.. وهم يحسبون ذلك بداية النهاية.. ولن يهلك المسلمون وفيهم كتاب الله قائم.. وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تدرس وتطبق.. وإن قل اليوم الحاملون العاملون، فإن في الغد أمل المخرج من كل فتنة.. ونهاية لكل ما صاغته أجنحة المكر.. وسياسة التربص والكيد بالمسلمين..
ولكل حدث واقع دراية.. ومقومات البداية.. لا يقدر على مضاداته ومقاومات مقوماته.. بل على قطعها وبترها.. ولا يقدر على ذلك إلا بمعرفة ذاتها وحالها.. وهذه طريقة..
أما حقيقة الفتنة فحاصلها مضبوط في توقعات تعميم عولمة التقنين لأحكام الشريعة الإسلامية في ديار المسلمين بحجة إثبات عالمية وتقرير صلاح مسايرته لمستجدات التطورات وأحداث المعاصرة الوافدة من ديار الكافرين وليوافقوا به تقرير نظرة صلاحه لكل زمان ومكان تلك النظرة العقلية والشرعية المعلومة من كمال تشريعه وعموم صلاحه بالضرورة.. ذلك هو ظاهر الأمر أما باطنه فهو: البلشفة والتنقيح ( الأسلمة ) المزايد بها في ميدان زحمة الأيدلوجيات المادية المتصارعة..
 
المحور الثاني:
فتنة أحداث تقنين الأحكام الشرعية
تأتي فتنة التقنين لأحكام الشريعة الإسلامية.. بعد سابق العدوان على أحكام هذه الشريعة، فيما يخص العقوبات ( الجنايات، الحدود ) وتشمل القصاص في النفس، والمواضع، والأطراف، وحدود الزنا، والشرب، والقذف، والردة، والسرقة، والحرابة، والبغي.
وذلك يوم أحدثت وابتدعت الدولة العثمانية قانوناً أسمته: قانون الجزاء العثماني عام 1840م على غرار القانون الفرنسي، حذو القذة بالقذة، إلا في قليل ما هو..
مما كان به البلاء العظيم، في عامة بلاد المسلمين( ).
إذ تعطلت من جرائه غمار الفقة الإسلامي، ومسائله التطبيقية العملية، وانحسر عن واقع الحياة، على مستوى مناطق العالم الإسلامي إلا بقية انحصر فيها أمل المسلمين الواعد مهما كانت بقية من شبه الجزيرة العربية.. حفظها الله وسلمها بالبقاء متمسكة.. مع ما يعلوها أحياناً من دخن..
لأسباب منها:
فتنة التقنين لأحكام الشريعة، في بعض دولها.
ومنها:
إدخال بعض المواد الوضعية في القانون المشرع..
ومنها:
الحصانة الوصفية لحكام النظام ملاكه.. بتشريع مقومات تحديب التحدي المجازي شريعة حُدّاب خطوط عريض التحديات.. ومفرداتها العملية التفصيلية..
على قاعدة:
( إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإذا سرق فيهم الشريف تركوه( ) ).
والذي بقي معمولاً به من الشريعة الإسلامية:
هو جانب أحكام العلاقات المدنية في البلاد التابعة للدولة العثمانية، من واقع مسمى ( مجلة الأحكام الشرعية ) المستقاة من المذهب الحنفي..
واشتمال المجلة المذكورة:
واقع بين دفتيها مجموع أحكام البيوع، والرهن، والحوالة، والأمانات، والإجارة، والكفالة، والضمان، والودائع، والغصب، والهبة، والشفعة، والشركات.
وما يتبع ذلك مما تعنيه الأحكام المدنية في الفقه الإسلامي.
هكذا نرى الإبقاء على أحكام المعاملات في بلدان تطبيق القانون الوضعي، دون سواها، لارتباطها بحاجات الناس، الدنيوية العادية.
والتي لا يلزم من وجودها الوجود، المبني عليه وقوع الصفة، المبني عليها الحق، في أنواع المعاملات جميعها أو بعضها..
بمعنى أنها لا تمنع طغيان نظام الحكم، ولا علمنة التشريع، ولا إفساد الفكر العام في حياة الشعوب، ولا تحول بين التهويد، أو التنصير، أو التمجيس.. المراد لشباب الأمة، من قبل أعدائها، الخارجين عن طاعة الله وطاعة أنبيائه ورسله، وعن دين الإسلام، الظاهر على الدين كله، ولو كره الكافرون.
والحق أقول:
أن شر  القانون الوضعي قد طغى وبغى، وأدخل الفتنة في ديار المسلمين، عدى ما استثني..وتلك المستثناة هي الآن تروض لتدخل من حيث دخل سلفها..
والواقع يغمره قلق الاستجابة، بدءاً بالتزام تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، وتحقيق تطبيق ذلك، على مستوى محاكم التقاضي، النظرية والموضوعية.. وأولئك السلف هم الذين سوغوا للخلف براءة التقليد وحسبوا عملهم هذا مسايرة للتطور العلمي القضائي الحديث..
وفي الواقع ما هو إلا فتنة، أدنى شر أوقعته وأحاطت به خطيئة هذا التقنين:
منع اجتهاد القاضي خارج ما تحرر وإلزامه بحاصل النص، مادة جامدة جاحدة..
وقد جرت اليمن على تقنين الوصية.. إلا أنه لم يعمل بها في المحاكم حتى الآن لوجود عدم القناعة بموضوعها.. ولضعف مرجعية سندها.. وصدق الله العظيم في وصفه لتشريعه:  ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا .
وأن شر فتنة واقعة به، على مستقبل الأمة، حقيقتها:
مكائد، وتربصات، ومكر السيئ..
إنها مصادرة المفهوم، وبادرة تقزيم وتضييق واسع مدلول نصوص التشريع، في القرآن والسنة..
قد لا يدرك أكثر الناس هذا الخطر، وربما يستغربون سماع مثل هذا التصريح.
وقد ينكرون القول: بأن تقنين أحكام الشريعة الإسلامية فتنة..
ولعلي قبلا كنت أغص: فيما لو سمعت مثل هذا، لاغتراري بوافدة التحديث، وكل جديد يحفيه التطور، في التشريع أو غيره.. تيقنت:
أنه ما كان لنا أن نتخذ عدواً ناصحاً، ولا مواده أمينا منصفاً..
وإنما متربصا باغياً الفتنة، ومجنداً منا علينا سماعين له، ناشرين موبقات سنته.. ومرهقات أهدافه، وغايته..
لقد كان غريباً علينا سماع التحذير: من فتنة خروج المرأة من بيتها، ومزاحمتها الرجال في الأسواق، والمجتمعات، والندوات، والجامعات.
ومن قبل في المدارس، والمعاهد، والطرقات.. حتى أصبحت الآن تزاحم في ميادين الوظائف، والأعمال، والتنظيمات الحزبية، والانتخابات الديمقراطية، والاشتراك في المباراة الرياضية.. وفي كل ميادين العمل مما كان به إسقاط الحشمة، والحياء، في سكرتارية المؤسسات، والبنوك، والوزارات، وإدارات الحسابات، وشؤون الموظفين، والفنادق السياحية مستقبلة، ومضيفة، وساهرة.. وكابتن في البواخر، والقطارات، والطائرات.. حتى لم يبق لهن ذرة من أدب، أو أخلاق، أو حياء.. وقد زادهن الغرور: بتشجيع الذئاب الإنسية، وفساق دعاة الحرية، والمساواة، على أبواب جهنم..
وقد تدخل التقنين ليشرع.. والتنظير ليؤسلم ويجيز.. بل يوجب للضرورة والمصلحة..!!
إن البيوت تخلو.. والأسر تتفكك.. والحياة الزوجية تسوء.. ونسبة الطلاق تزداد، وترتفع.. لتقضي على الثقة، وتشكك في دوام سلطان العشرة، بين الزوجين، فيحل القلق، ويسود الخور، والذعر، بدل أن يسود الوئام والمحبة، والألفة، لبناء جيل الغد، ومستقبل شباب الفتح، والإيمان..
زوجان يفترقان بعد الخلفة ذوات العدد: لأنهما لم يتفقا على رؤية الدخول والالتحاق بتنظيم واحد.. فكان كل واحد منهما في حزبه يتربص ويرصد بمكره للحزب الآخر..
آخران يفترقان: لأن كلاً منهما يتهم الآخر باتخاذ خدن.. من زملاء العمل، ومن زمالة الوظيفة العامة.. أو من العمل الخاص..
فيالها من فتنة!..
والقانون قد أجاز حرية اختيار العمل، وحرية اختيار الصاحب، والصديق، وحرية الانتماء، أو الاتجاه، والوجهة العقيدية، والفكرية والتدين.. –إلى غير ذلك- للرجل والمرأة على السواء!! في تلك البلدان التي قررت قوانينها تشريع إطلاق الحريات..
كما جاء التقنين بحرية التعليم وحرية فتح المدارس الخاصة فتنة وهذا له موضوعه، وسنفصل فيه ليفي إن شاء الله تعالى.
ولا أشد ولا أخطر من واقع تعميم الدعوة إلى واجب تقنين جواز إطلاق الحرية الشخصية للمرأة المسلمة، والحرية السياسية والفكرية.. كحال إطلاق الحرية في دار ومجتمع المرأة الغربية والشرقية الكافر بالإسلام وتشريعاته..
وصولا إلى تحقيق اعتبار شرعية الممارسات المحرمة –الجنس- ( الزنا ) بالرضى..، والفحش 
( اللواط ) بالاتفاق.. حقاً مكفولاً للفرد بقوة القانون وقد صار من الحقوق القانونية..
فهو ( حق شخصي )!! لا حد على مرتكبه ولا جزاء..
إنها دعوة مأساوية على مستوى العالم الإسلامي..، بعلمائه، وهم يعقدون المؤتمرات والندوات.. لتقديم بحوثهم المؤسلمة والمشرعة لمساواة المرأة بالرجل، في كل ما هو حق للرجل، حذو القذة القذة..
مهما صادموا بذلك نصوص الشرع، وأدلة الثبوت العقلية والنقلية المتفق على صحتها، والمجمع على الأخذ بها..!!
 
المحور الثالث:
توقع تحطيم هيئة القضاء على أعتاب عولمة تقنينه
مؤدى هذا القسم تقرير وتوضيح حال القضاء في ميزان القانون الوضعي، وفي مسمى التقنين التشريعي، لأحكام الشريعة الإسلامية..
وهذا المحور مهم في موضوعه.
لقد سبق القول بأن من فتنة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية: مصادرة الفهوم الاجتهادية..
كذلك فيه بادرة خطر وإقرار تقزيم وتضييق واسع مدلول نصوص التشريع الإسلامي..
وبما أن ذلك كذلك: فإنه ليس بأقل من فتنة تقزيم وحصر واسع اجتهاد القضاء، ووجهات نظر القاضي، وتقديراته العلمية، والعملية، لأحوال الحادثة، والقضية المنظورة أمامه..
فالعدل القضائي يلزمه العلم الشرعي لواسع الدلالة فيه، ولوافر جواز الاجتهاد المحدود.. والمفهوم المطلق المتروك للقاضي حول التأول لأخذ قراره.. عند الاقتضاء.. كما يلزمه تعميم التطبيق، وواقع التنفيذ من خلال ولي الأمر المقتنع بسيادة الشرع وأحكامه.. على نحو فهم العلم وعقله، فهماً خاصاً، وعاماً شاملاً للعمل، مطلق الاجتهاد..
دون جبر القاضي بالتزام فهم خاص.. لعالم أو للجنة تقنين.. ليحكم بما قرروا، أو قننوا، التزاما مقيدا غير مصروف عنه..!
فذلك غير مبرور في القضاء الإسلامي ولا محمود..
وعليه فإن تقنين أحكام الشريعة الإسلامية غير جائز على هذا النحو، لاحتسابه في البعد النظري والمهفوم الواعي، تدخلاً في اختصاص القاضي وعمله، وسلطة القضاء، وتطاولاً وتعسفاً في حق بقاء نصوص التشريع غضة طرية، لتنهل منها الفهوم، وتثري دلائلها العقول، ويتجدد فيها الاجتهاد، ما أضحت الشمس وتبدر القمر، وأقبل الليل وأدبر، وتنفس الصبح وأسفر.
وفتنة تقنين آيات الأحكام تتمثل في: حصر مفهومها، وقصر مكنونها، على وصف وحالة جفافها..! دون الأخذ بعدل قطعها في الحق، وقرعها عتو الباطل( )، ودون تقدير لحالة خاصة، أو مراعاة لطروء حادثة نادرة.. لا يدرك فهمها ولا إمكان وضع سابق وصف لها.. أو حكم مقدر يمكن الفصل به فيها.. ومن حق القضاء ألا يتدخل بشر في اختصاصاته.. ولا يحق لأحد أن يحدد أو يأمر قاض كيف يحكم أو بما يحكم..
لقوله تعالى:  إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون( ) .
كما تتمثل الفتنة حقيقة ويجري بها وقوع مجاز التحدي فعلاًَ في اعتقاد وجوب الوصية بفعل التقنين المحدب باسم التشريع..والمظلل بحجة جواز الاجتهاد لأي اعتبار مصلحة أو ضرورة..وقد تصدرت عنواناً تحت مسمى(الوصية الواجبة)..وكان المناسب لحال تقنينها إطلاق اسم ( تقنين إيجاب الوصية ) لأن القصد هو: تشريع وصية خاصة.. لم يوجبها الله ورسوله، بعد أن أوجب الله سبحانه وتعالى حق الميراث فرضاً أو تعصيباً أو كليهما: فرضاً وتعصيباً.
على ما هو مبين في كتاب الله من سورة النساء( )، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضحت وبينت استحقاق بعض من لم يتبين في القرآن استحقاقهم( ).. واجتهد بعض الصحابة في توريث أفراد في مسائل نادرة معلومة وموثقة في مظانها ( كتب الفرائض ) وإن من أخص خصائص التحدي الموقع للأمة الإسلامية في الفتنة الجاري بها واقع الاختلاف.. والفرقة في الدين.. ثم الدخول بمثل هذا التقنين.. وهم قد خرجوا به عن دائرة الحكمة التي أرادها الله.. ولو كانت القسمة الموكلة إلى الاجتهاد لوجب النظر في غنى كل واحد من الآباء والأبناء والأقارب.. وعند ذلك يخرج الأمر عن الضبط في مقادير المواريث..
ونحن نجهل الأصلح.. فنجنح إلى استمراء واستحسان وتقبل عولمة أحكام الحدود والقصاص.. باسم الرحمة والإشفاق.. وإنه ليقرب للأخذ بفكر دعاة تجديد وتحرير فقه الإسلام.. وفيه نقض الإجماع.. وانتقاص كمال التشريع.. تشريع الله تعالى الخاص بإعطاء كل ذي حق حقه من الورثة.. لأن الله تعالى لم يترك قسمة الفرائض لعاطفة بشر..، أو لرحمة مشفق، قصير النظر.. أو لمن يعمى عما يصلح به إقامة الحد في الأرض.. والقصاص في القتل.. على من وجب عليه من البشر حكماً شرعياً..
ومع أن ملزمات نصوص التشريع تقتضي واجب التزام القاضي مفاهيم أخرى يشملها كل نص شرعي عزيمته ( واجبات ) أوامر، ومنهيات، ورخص.
وكلها تعني مقومات الإسلام، ودوائره العقيدية، والتعبدية، والأخلاقية، والسلوكية الاجتماعية.
لازمها الوجوب العملي، مع قيام الحدود والقصاص، وتحريم الربا، وقسر إشاعة الفاحشة، وحد الإغراء بالجريمة، ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء، وقمع الرذيلة.. إلى غير ذلك..
ومن واقع صلد المنكر الحظري اللازم تخذيله، والمعروف العزمي الواجب تقريره، قولاً وفعلاً. حتى يحقق العدل غايته بسيادة شرع الله العليم الحكيم، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وما لم نُفَعِّل نصوص الأحكام ذاتها، دون الرجوع إلى مواد مسمى التقنين الشرعي، فإنه سيحصل الظلم في الأحكام، والجور في القضاء، بفقدان صحة الاعتقاد، وتعطيل فروض العبادات ورفض القيم، والسلوك، والأخلاق، والآداب.. الخ.
وذلك أن مواد التقنين لم تشملها من الآية، أو من النص الشرعي المقنن..
وقد جاء بها المقنن جافة لا هي تعني ولا تدل على غير ما وضعت له: حكماً لازماً لذاته.
وإنه لجدير بنصوص القرآن والسنة التشريعية أن تبقى دون تقنين، لتخصب الاجتهاد، وتثري إعجاز التحديات، الوارف بها محكم القرآن، ومكتشفات علومه..
ولقد أدرك السابقون الأولون من الأئمة الهداة والمجتهدين في القضاء، أدركوا قدر ذلك التشريع الإسلامي، وفهموا وظيفته المقصودة من الأصل الأول، كتاب الله، بتلاوتهم له حق التلاوة، على ما حكى الله عنهم في قوله تعالى:  يتلونه حق تلاوته( ) .
وحق التلاوة هو العمل به، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وآمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه، في أنفسهم.. ونشروا ذلك عدلاً في مجتمعاتهم وبين جماهير أوطانهم، من خلال التحاكم إليه، والرضى بالقضاء به.
فكان نتيجة ذلك إقامة دولة الإسلام، عاصمتها واحدة.. وقبلتها البيت الحرام.. ودستورها القرآن الكريم..
وما زالت فتية حتى أسقطها تآمر الداخل.. ومكر وكيد وتربص الخارج.. فكان آخر غرزة في نعشها عام 1918م.
ولقد كانت شريعة الله حاكمة خارج حبس الفكر والخيال المنظر المفلسف، ودون حبس الصدور، تمتمة أو همهمة.
وقوعه: في زوايا التصوف القبوري، أو في غارب دعوى إيمان القلوب..
لقد كانت حاكمة على مستوى ميادين الرحب والسعة.. والانطلاقة السابحة في الخلود، عقيدة وشريعة ومنهج حياة..
والنفرة المحلقة في آفاق العقول والفكر والتدبر.. حاكمة بعيشها في الذات، والخلد، على مستوى الفرد، والجماعة، ديناً ودولة.. تسد الضرورات، وترفع الحرج، وتقضي المصالح..
إن ما تقره نصوص التشريع الإسلامي من أحكام الوجوب، والندب، والإباحة، والتحريم، أو الحظر، والكراهة.. كلها مقومات تشريع عملي، يثريها القضاء الإسلامي.. ويطبق حدودها.. نصاً صريحاً عنها أو منها، وتنصيراً عملياً بها.. وقياساً صحيحاً عليها..
وما كان لتقنين ولا تشريع وضعي أن يحفيه مثل هذا التوصيف..
لأن أي تقنين باعتباره صادراً عن البشر، لا يسلك إلا سبيلاً وطريقاً واحداً، في الدلالة..
أما تشريع الله: فسبله وطرقه عديدة، وكل نص فيه غاية في الإعجاز، لدلالاته الواسعة، ومنها ما لا يبديه إلا الراسخون في العلم.. 
حتى في قصصه عبر، وأحكام، وذكرى، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
على ما ورد في قوله تعالى نصاً:  وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون( ) .
ومن هنا نفهم أنه يلزم شرعاً: أن يبقى النص مجملاً لعقل الاجتهاد.. وفهم القاضي الحاكم.. ليصل بأزكى مدلولاته إلى حقيقة شخصية العقوبة..
وهكذا ندرك من نصوص التشريع: تشرب الدلالات، وسلاسة الإقرارات الحكمية.. دون جفاف، ولا إسفاف.. فيكون ذلك أفضل وأبر، وأدعى للإقناع والتسليم..
وحتى حين نعود إلى المقارنة: نرى الفرق من صيغة الأمر، أو النهي، أو من صيغة العزيمة، أو الرخصة، أو مما شابهها.. تقديم الترغيب، أو الترهيب.. ثم ارتباط الأمر بالعقيدة، وخلوه من الجفاف، والجفوة..
فإنه كذلك يكون أدعى إلى الالتزام، وإلى حسن الحفظ، وحسن المذاق..
وعلى العكس تماماً: صيغ القوانين المصاحبة للجفاف، والجفوة، وعسر الحفظ، وكظمة التذوق، وغلظة الجسأة.. فوق ما يعلوها من تسيب، وغفلة، وتفلت، وعدم التزام، أو انتظام..
ولننظر صيغة اللفظ التشريعي من الله تعالى ومبلغه في الإعجاز، الذي لا يستطيعه بشر.
من قوله تعالى:  الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين( ) .
ومثل قوله:  وأن ليس للإنسان إلا ما سعى( ) .
وقوله سبحانه:  من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها( ) .
فمن يستطيع أن يصوغ مثل هذا المعنى بهذه السلاسة، المصحوبة بالتيسير للحفظ، وللتذوق، وللالتزام، وللانتظام في وقت واحد..!
وللنظر كيف ربط العبادة بالحكم، في النص التشريعي القرآني التالي: قال جل شأنه:  إن الحكم إلا الله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم( ) .
وهكذا شرع الله أحكامه شاملة في النص الواحد لأنواع من الدلالات.. بأسلوب رفيع، ونظم وإبداع، لم يستطعه ولم يبلغه بشر، من إنس ولا جن، ممن خلق، فيما يعني الصياغة.. وتنوع الدلالات.. ووجوه المعاني.
وكلها يستفيدها القاضي ليصل منها إلا الأرجح فيطبقه قضائياً.. لازماً.. ومتعدياً..
والحق أقول: إن الموضوع في وصفه بفتنة التقنين على ما أسميته وقررت تحقيقه المعهود، ضمن مجموعة تقرير مسميات المواضيع الأخرى، في احتواء هذا الكتاب، الموصوف بعنوانه، واقعه إقرار على مسمى غير مألوف، لدى عامة من أوتوا حظاً من العلم التنظيري القانوني..
بل هو مستنكر في تقدير الذين لا يعلمون.. كيف يسمى ويقرر تقنين أحكام الشريعة الإسلامية بأنه فتنة! وهو ما كان ليوجد إلا بإقرار العلماء لإثراء القضاء.. ومساعدة القاضي على استخراج دليل الحكم في الموضوع، من عامة النص.. أو من مجمل النصوص الشرعية..
لكن مهما استظهر المنكر.. وعز المقر.. فإن الحق أبلج.. وقليل هم فهامه ورواده..  وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين( ) .  ولكن أكثرهم لا يعلمون( ) .
 ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون( ) .
وهاهم قليل الناس من علماء الحق، يدلون بدلوهم، المقارن بين التقنين البشري للأحكام، بإنزالها، أو بإصدارها مواد صلبة صلدة جافة، وبين النص الشرعي في الأصلين: القرآن والسنة..
وهذا مضمون ما يقولون، أو الذي يقولون، أو حاصل قولهم، منوطاً بتفعيل الإثراء.. وتوجيه التصرف.. وتقويم التوليف والربط.
لقد عرف ذووا الاختصاص من البشر مجال التشريع القانوني، قاصراً على المجال السياسي، ثم اتسع بعض الشيء، في دساتير القرن العشرين، ليشمل أحكاماً اجتماعية، أو اقتصادية، لم تكن من قبل ترقى إلى مستوى التشريع الدستوري.
وفي تشريع الله العليم، الحكيم، الخبير بمصالح عباده، وارف العلم بأن القرآن العظيم مع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوحي الثاني: يمسان الدوائر التي تمسها التشريعات البشرية.
بل إن تشريع الله ورسوله يفوق أي تشريع، من ناحية حسن التنظيم وسمو الهدف، ويتنزه عن القصور، أو الجهل، أو الهوى.
ثم هو وراء ذلك يمس دوائر لم يمسها التشريع البشري، كدوائر العقيدة، والأخلاق، والشعائر التي تكاد تخلو منها التشريعات البشرية، موقناً بوحدة التشريع، كتوحيد الخالق المشرع، وأن تجزئة التشريع تجزئة لما لا يقبل التجزئة.. على ما سبق من نص الآية في يوسف إن  الحكم إلا لله . وبقوله تعالى:  شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه.. . الآية ( 13 ) من الشورى. ولذا رفض أن يجزأ القرآن.
وعاب على قوم  جعلوا القرآن عضين( ) .
وتوعدهم  فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون( ) .
واعتبرها في أماكن عديدة من القرآن الكريم.. فتنة، وجاهلية، وكفراً، وهددهم خزياً في الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، وآذنهم بحرب من الله ورسوله إن امتنعوا، ولو عن حكم واحد( )!
وكانت هذه الإحاطة شاملة لكليات الشريعة وأصولها.. بحيث لم يبق أصل أو قاعدة يحتاج إليها في الضرورات، والحاجات، أو التحسينات، إلا نص عليها الكتاب.
كذلك الأدلة العامة، الدالة على الأحكام التفصيلية،وردت الإشارة إليها صراحة، أو ضمناً، بحيث يمكن أن يقال مرد هذه الأدلة جميعاً أو المصادر: هو القرآن!
وبعد ذلك فالأدلة التفصيلية من نصوص هذا الكتاب، ورد أكثرها بصيغة العموم، بحيث تمتد إلى كل ما يندرج تحت نوعها، وما ورد خاصاً أمكن تعميمه عن طريق قياس اللفظ، أو قياس المعنى، ولم يبق إلا ما ورد الدليل على خصوصيته، وهو قليل أو نادر.
وإذا أردنا استعمال اصطلاح،وجب استعماله بإطلاقه الذي اصطلح عليه.
ولقد اصطلح على إطلاق للدستور قاصراً على تنظيم الجانب السياسي في حياة الأمة.
وإذا كان القرآن ينظم ذلك الجانب، وينظم إلى جواره جوانب أخرى، بل كل الجوانب، بعضها إجمالاً وبعضها تفصيلاً، بعضها بأصول وكليات وبعضها بفروع وأحكام.
وإذا كان الدستور قابلاً للتعديل. وكان القرآن متأبياً على كل تعديل، فإنه في ظل نظام إسلامي، يصعب القول بأن القرآن دستور! إلا أنه بالإمكان أن يسهل الاستعانة بالقرآن في وضع نظام يسمى قانوناً، أو لائحة تفصل في الجانب التنظيمي الإداري، والمروري.
ولوضع جوانب أخرى اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، أجمل فيها النص التشريعي، ليفصل في مدلولاتها هذا القانون في حدود إغناء المصالح المرسلة، على ما أبدع فيه الفقه الإسلامي وأثرى..
ولا مانع من تأليف مسمى دستور، يعالج مصالح الأمة، في نظام الحكم.. يلتزمه الحكام..
وفي العلاقات العامة، والخارجية ونحوها، في حدود معروف الشرع الإسلامي، تلتزمه الأمة والدولة..
ويبقى تصريح القول بأن القرآن فوق الدستور.
وكما يجري ( إبطال ) نص قانوني لمخالفته للدستور المؤلف، على معروف الشرع، يلزم ويجب إبطال نص دستوري لمخالفته للقرآن والسنة الثابتة، أو لإجماع المسلمين..
ومحاولة صياغة مبادئ القرآن، وآياته، في نصوص جافة غير قابلة للتعديل..: محاولة فاشلة، وإغلاق لباب الاجتهاد، الذي أذن به الله للراسخين في العلم، استنباطاً من آيات الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:  ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه( ) .
وحتى بعض الذين لهم مثل هذا القول من محبي الاقتداء، وأخذ ما عند الغير يفضلون في تطبيق القرآن: الأسلوب ( الأنجلوسكسوني( ) ) وفيه للقاضي حرية واسعة في الاجتهاد والتقدير..
فإن الاجتهاد في نصوص القرآن أحرى أن يثري الفقه الإسلامي بثروة ضخمة، كما أثراها من قبل، حين اجتمع مع العلم تقوى الله، وحسن الخلق.
فأدى العلماء في مجال الحكم والقضاء، والفقه، دورهم، وخلد لهم التاريخ جهدهم، واجتهادهم!
وهكذا يبقى القرآن.. فوق أي دستور مؤلف، وفوق القانون.. مجالاً للاجتهاد، فيما يحتمل الاجتهاد، ثابتاً كالرواسي في أصوله، ومبادئه، وقواعده الكلية، مظلاً الأمة والدولة بظل الشريعة الحقة الوارفة..
والفتنة هي: إحلال العقوبة المرافقة لزوال العدل، بفعل شؤم التقنين، وقد قزم وحقر وعطل إثراء الاجتهاد..
وفي التقنين مدخل رئيس لرغبات الحكام وأهوائهم..
ومعصية الآباء شؤم.. يحلق بالأبناء أثره، ولو بعد حين.
كما هو شأن الطاعة:  والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء( ).. .
وتقرير بركة الطاعة وشؤم المعصية ثابت التصديق عليه، وإقراره واقعاً لازماً ومتعدياً، في القرآن والسنة.
وأنه الحق..  رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب( ).. .
ودليل آخر: هو واقع فتنة عصرنا وقد ألم بنا شره، بفعل أسلافنا، وشؤم معاصيهم.
وقد وقعت منهم ببعدهم عن الإسلام، وتخليهم عن العمل به، وهم يخادعون أنفسهم، ويعللونها بالأوهام، بأنهم أهل الإسلام، وحملة مشاعله، وما أدركوا تسببهم في إعادة غربة الإسلام كما بدأ..
وهانحن نعيش في امتداد سوء عاقبة أمرهم.. وقد شمل نواحي الحياة العلمية، والعملية، والمادية كلها..
ولا يزال الامتداد ليشمل نواحي أخرى.. ومنها: اجتماعية، وأخلاقية، وكلها فتنة.. أصلها بإيقاظ وراثة الملك العضوض.. وحكام طبائع الاستبداد..
منذ أن فتح المسلمون الأمصار واستولوا على الممالك، واستقر السلطان في يد الخلفاء الأمويين..
وصارت الخلافة وراثة، امتلأت خزائن الحكام والولاة بالأموال، وذهبت حاشية الخلفاء، والولاة، بنصيب الأسد من تلك الأموال، وظهرت بذلك في المجتمع الإسلامي طبقة موفورة الثراء، فشغلها ذلك بالدنيا عن الدين، على حين نظر عامة الرعايا إلى أنفهسم، فوجدوا أيديهم صفراً من المال، والسلطان، وعلى أثره من أصحاب المال والسلطان، فما وسعهم إلا أن يسلكوا:
إما طريق المجاهدة من أجل الوصول إلى نيل ثقة الحكام، لإدخالهم مشاركين في الحظ والنصيب الموفور..
والبعض وهو القليلون:
آثروا الاستغناء والزهد.. وحسبوا عمل الحكام وتصرفاتهم الاستبدادية مسئولية، وبلاءً، وفتنة، محاسبهم الله عليها..  يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً( ).. .
لكن الأكثرون..:
لم يسعهم الدخول.. ولم يطب لهم السكوت على الظلم.. وهم ثلاثة أصناف:
صنف امتلأ بالحقد والغيظ، والسخط على النظام.. وبقي كاظماً غيظه..
وصنف كتب وألف، وجمع حوله الطالب، والراغب، وأدار رحى إثارة فتنة اختلاف الآراء الفقهية، والعقدية، حتى صير الناس أسرى لمذاهب وأهواء.. ولفرق ونحل شتى..
وكأني بهذا الصنف لهو الصنف الداعي إلى النار( )..
وكأن من أجابه من الناس قد قذفهم فيها.. وما أشبه فتنة المسلمين في المذاهب والنحل بالنار..
فالخلاف يحرق القلوب، كما تحرق النار وارديها.. وكل فتنة عمياء هي من طبائع الاستبداد.. فما وقع منها ماضياً.. وما حاصله منها حاضر.. فباستبداد أوائل ميقظيها..
وما يأتي منها مستقبلاً فعلى ما تصليه وتظرمه ولاءات دكتاتورية أنظمة الحال..
وقد سوغوا لظلمهم بمبررات التزام حال الواقع.. وتطبيق قانون نظام الحكم القائم، على حرية التوليف، والتجميع والتكاثر.. حرية الأنظمة الديمقراطية شريعة الغاب.. باسم التقنين.. والقانون..
إنها فتنة المستقبل.. ولا أبا بكر لها( )..
إنها فتنة العدالة المفقودة وقد أقصاها القضاء المعلمن في ظل القانون الوضعي أو في ظل إخضاع الأحكام لتقنين الحكام المتنفذين حزبياً وقد فازوا بـ( 99,99% ) بعد الاقتراع السري وجمع الأصوات..!!
وأخراهم كأولاهم..
 ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون( ).. .
وقليل منهم سجل لهم التاريخ مزايا وحسنات طاب بها ذكرهم في الآخرين..
ووعد الله المسلمين بفرج اليسر بعد ضيق العسر بقوله تعالى:  فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا .
ولن يغلب عسر يسرين على ما ورد تفسيراً للآيتين عن الحسن قال: كانوا يقولون..
ورواه ابن جرير حديثاً عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر أصحابه بهذه الآية فقال: ( لن يغلب عسر يسرين( ) ).
 
المحور الرابع:
مستقبل عولمة الفكر ونظام الحكم
إن حكام الأنظمة في البلاد الإسلامية والعربية، وقد تولدوا وصدروا عن مجتمعات الكراهية المتعاقبة، بما أنهم ليسوا الذين وضعوا أنفسهم في مكان الحكم، بناء على أهلية يتمتعون بها، ليست في غيرهم من أبناء مجتمع قومهم.. أو أنهم حصلوا على ذلك بالاختيار من بين الخيرة في المجتمع.. أو بالانتخاب الديمقراطي المدعى به منهجاً حراً مباشراً..
وبما أن الواقع يؤكد أنه ليس وصولهم بهذا أو ذاك.. وإنما الذي أوصلهم هو الولاء لأجنحة التغريب التبشيري.. والمتابعة للفكر الثقافي الأجنبي.. واللهث المستجدي من جمع الجم الصهيوني.. ومن الحرص الرأسمالي الصليبي.. والركض وراء السراب الثوري التعميمي.. والجري خلف التحرر القومي العلماني.. وكلهم يبرأ عن تقديم خدمة للغير دون مقابل ودون إرادة منفعة أكبر، وأجل.. أو على حساب مكانة أبيه.. أو جده.. أو باستغلال جهد عامل مستور أو مغمور..  ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة . سورة آل عمران (161).
وعليه فإن المنفعة هنا حاصلة بكفالة تنفيذ ما عجزوا عن تنفيذه، ضد الإسلام، عن طريق الاستعمار العسكري الطويل.. أو عن طريق التبشير المكثف والجاد، على مدى قرون..
أحوال عمت البلاد الإسلامية لم تفلح ولم تنجح كما يراد لها..
ولقد عقد الحكام الولاء مع ثالوث أجنحة المكر.. بكل إخلاص، حتى أفلحوهم، وأنجحوا خططهم، بدءاً بتعميم التغريب المشئوم، المتمثل في وضع المصطلحات والألفاظ الرنانة والبراقة.. المنطوية على أهم مقومات التضليل، والخداع، والمكر بالمسلمين، ليجلوهم وليلبسوا عليهم دينهم، وليبعدوهم عن التمسك بحقيقة الإسلام، عقيدة وشريعة ومنهج حياة..
مثل: إعلان التزام التجديد، والتحديث.. والترويج لإحلال الانفتاح العالمي.. وبث الدعاية للحضارة الإنسانية.. وإعلان القبول بوحدة قرار التعايش السلمي.. ومحاربة التعصب.. ونبذ التطرف.. والتنديد بالأصولية.. ومناصرة حقوق الإنسان..!!
وانتهاء بواقع إخضاع دراسة النصوص التشريعية الإسلامية، لطريقة التفكير الغربي، الرأسمالي، المطبع للواقع، والمتخذ له مصدراً للحكم، وليس موضعاً له، وجعل القياس في أخذ الحكم وتركه هو النفعية والمصلحية.. أو المنفعة والمصلحة.. وليس الحلال والحرام.. أو الحل والحرمة..
وقالوا بواجب إعمال فقه الواقع.. وعملوا على تطبيق حال الواقع، وحسبوه فقهاً..!! وصاغوا عليه الدساتير، والقوانين الوضعية.. وأحلوا به حظر الربا، وأكل أموال الناس بالباطل.. وفحش الزنا بالتراضي.. وكفر الردة باختيار حرية العقيدة والتدين.. وأجازوا سياسة النفاق، المتمثلة في ليّ الألسن بالكذب، بالتقول بها على الله ورسوله..
وحرموا بالواقع كذلك بعض ما أحل الله ورسوله، كتعدد الزوجات.. ورفض بعض ما أوجب الله ورسوله، كإلغاء الجهاد، وإنكار البراء من الكافرين، والظالمين، بالتزام ولائهم لهم مع الله، ومن دونه.
أما معقبات العولمة فالترحيب بالأموال والأعمال الأجنبية التغريبية، ثم الأخذ بوصايا أربابها المؤكدة على ضرورة التعديلات القانونية، بهذا الخصوص، وفرضية الخصخصة، لمؤسسات الدولة، حتى يتمكن الغرباء الأجانب من شرائها، وإدارتها، وصولاً إلا تنفيذ أخطر غزو يفوق غزو التبشير، ويسبق أفظع تحد واقعه مر، على مستقبل الأمة الإسلامية.. ومهما تحقق فشل الشركات الحكومية والمختلطة والمؤسسات الاقتصادية العامة.. فسبب موت الضمير في حياة الشعوب.. واستراتيجية الخصخصة.. وفكرتها من منظمات البنك الدولي وصندوق النقد بالتآمر على الأمة مع الداخل صناع التحديات والعوائق في سلطة التنفيذ ونظام الحكم المستفيدين بالنسبة % ولو لم يتظللوا بمهلكات الطمع والجشع.. ولو لم يمتازوا بافتقاد الضمير وغلول المصلحة لما قبلوا ولا نادوا بمصلحة الخصخصة.. ولحرصوا على تنمية المصالح العامة.. وللتجارة الخاصة حريتها.. وتنافسها.. والفساد متحقق في وزارة تجار الجملة.. وحكام عائدات النسبة بالـ % والله المستعان.
وبما أن مؤدى العلمنة وتحديها، واقع في هذا النوع المهم: فإنها كذلك واقعة في مجموعه خطايا أخرى، أهمها ما سنعرف.. موصوفة قريباً في فصول، تعني مظانها، وتستوحي مفهومها، ضمن مفاهيم قيمة تكون أعم وأشمل.. إن شاء الله تعالى.
يتبـــــــع .....