|
نشرت في مجلة اليمامة العدد 1889 - وصحيفة اليوم العدد 12303
قضائيات يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (( يحدث للناس من الأقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور )) .ولذلك : فإن مجتمعنا قبل أربعين سنة تقريباً لم يكن يعاني من الخصومات التي نشهدها هذه الأيام ؛ ولا بنسبة واحدٍ في المائة 1% ؛ غير أنه : كلما تقدم الزمان قلَّ الورع ، وزادت المشكلات ، وتعقدت الإجراءات ، فتأخر الحسم ، واحتاج الناس لضبط أمورهم أنظمة وقوانين ؛ لكلٍ منها جهة تقوم على تطبيقها والحكم بها ، وهكذا حتى صار للقضاء ثلاث مراحل ؛ هي :
1/ قضاء ما قبل الحكم ؛ ويسمى : قضاء الصلح ، وقضاء التحقيق .
2/ قضاء الحكم .
3/ قضاء ما بعد الحكم ؛ ويسمى : قضاء التنفيذ .
أما قضاء ما قبل الحكم (( التحقيق ، والصلح )) /
فمهمته : استقبال الدعاوى ، وتحريرها ، والتحري عن ملابسات الحادثة ، وجمع خيوطها الكاشفة لها وأدلتها من مسرح وقوعها بالنسبة للدعاوى الجنائية ، ومحاولة بذل الصلح بين أطراف الدعاوى ؛ قبل إحالتها إلى قضاء الحكم (( المحاكم )) للبت فيها ؛ عند تعذر التوفيق واستحالة الصلح بين المتداعيين في عموم القضايا ؛ الجنائية وغيرها .
وتتجلى أهمية هذه المرحلة : أن فيها ينتهي ما نسبته أربعون في المائة 40% من المشاكل العارضة ؛ وبخاصة : الأمور الماليَّة البسيطة ، والخلافات الأسريَّة ، إضافة إلى : أن قضاء التحقيق يوفر أكثر من ثلاثين في المائة 30% من مهمة حسم القضية لدى قضاء الحكم ؛ وذلك يتمثل في : تحرير الدعاوى بصورة نظامية ، وتبليغ المدعى عليهم بها ، ومعرفة جوابهم عليها ، بعد إنهاء إجراءات التحري والبحث في عناوين أطراف القضية ، والتكفيل عليهم ، والإحاطة بكل ما من شأنه تسهيل مهمة قاضي الحكم في المحاكم .
أما قضاء الحكم /
فمهمته : سماع الدعاوى المستعصية على قضاء التحقيق ، وأخذ الجواب عنها ، والنظر في الأدلَّة ، والدفوع ، والاستعانة بالخبراء في سبيل إنهاء الدعوى بالحكم .
ومنه : قضاء الاستئناف ؛ وهو : الدرجة الثانية من قضاء الحكم ؛ ومهمته : تصحيح حكم المحكمة الابتدائية ، أو إنشاء حكمٍ جديدٍ .
ومنه كذلك : قضاء النقض أو المحكمة العليا ؛ وهي : الدرجة الأخيرة من التقاضي لدى قضاء الحكم ، ولا يخرج في مهامه عن قضاء الاستئناف ؛ بل هي ذات المهام على نحوٍ أدقَّ وأعمق .
أما قضاء ما بعد الحكم (( التنفيذ )) /
فمهمته : لا تتعرض لاستحقاق المحكوم له ، ولا لسلامة دعواه أو أدلته ، ولا لتصحيح الحكم ؛ بل هي محصورة في : إنفاذه على النحو التالي :-
- إن كان حكماً جنائياً : أشرف قاضي التنفيذ على استيفائه ممن هو عليه ؛ طبقاً للأصول الشرعية والمبادئ النظامية .
- إن كان حكماً مالياً : تولى جميع المهام ، وسلك كافة السبل النظامية لاستحصاله ممن هو في ذمته إلى مستحقه ؛ حسب ما نُصَّ عليه في الحكم .
- إن كان الحكم في مسألة أُسَرِيَّة : اتخذ كل الإجراءات الكفيلة بتنفيذ ما تعرَّض له قضاء المحكمة ؛ من إشرافٍ على الزوجين بنفسه ، أو تعيين مشرفٍ من قِبَلِه ؛ مثل : إمام المسجد ، أو عمدة المحلة ، أو قريبٍ ثقةٍ من الزوج أو الزوجة ، أو أحدِ المجاورين الثقات . وكذا : تسليم القاصر إلى وليِّه الشرعي أو حاضنه المقدَّم ، وكذا : إيصال النفقات ، وتوزيع الأنصباء في التركات ، ومراقبة الوصي على اليتيم أو الوقف ، وغير ذلك .
ومن أعمال قاضي التنفيذ : التحرِّي عن أموال المدين (( مدعي الإعسار )) ، وسؤال جميع الدوائر ذات العلاقة والبنوك والشركات المساهمة ، وكل ما يمكن أن يكون قد كتم أموالاً له لديها ؛ حتى لا يدع مجالاً للمدين لإخفاء أمواله عن دائنيه .
بقي القول : أن قضاء التحقيق تقوم به ـ لدينا ـ جهة مستقلة ؛ هي : هيئة التحقيق والادعاء العام .
والحق الذي لا مرية فيها : وجوب إدراجها ضمن مؤسسات وزارة العدل ، وأن تستقل بإدارةٍ خاصةٍ بها يكون المرجع فيها رئيسها . وأما شؤونها المالية : فبالإضافة إلى لزوم كونها مستقلةً بميزانيةٍ خاصة ؛ إلا أنه ينبغي أن تدرج ـ أيضاً ـ تحت مظلة وزارة العدل .
وهيئة التحقيق ـ اليوم ـ عملها مقصورٌ على الأمور الجنائية ؛ دون غيرها من القضايا الأخرى التي ينبغي أن تتولاها بدلاً عن قضاء الصلح المطبق في كثير من دول العالم ؛ ليكون قضاء التحقيق شاملاً ما يتناسب معه ؛ بحكم كونهما في مرحلة واحدة ؛ هي : مرحلة ما قبل الحكم ؛ حتى نصل في تطوير القضاء إلى العمل بقضاء الصلح مستقلاً عن قضاء التحقيق ، وقضاء الحكم ، وقضاء التنفيذ .
أما قضاء التنفيذ فلا وجود له ـ عندنا ـ على الإطلاق ، وأمر تنفيذ الأحكام مردُّه إلى دوائر الحقوق المدنية في مراكز الشرطة إلى عهدٍ قريب ، ثم بعد صدور ( نظام المرافعات الشرعية ) تاهَ أمرُ التنفيذ بين الإمارات والمحافظات والمراكز من جهة ، وبين مخافر الشرط من جهة ثانية ، وبين قضاء الحكم من جهة ثالثة ، فزاد وضع تنفيذ الأحكام تعقيداً ؛ الأمر الذي يجعل من اللازم : التخطيط الفوري لإنشاء جهاز قضاء التنفيذ ، وسنِّ الأنظمة والقوانين بشأنه ، وتدريس ذلك في كلية الشريعة والمعهد العالي للقضاء ، وطرحه للبحث في الدراسات العليا والبحوث الجامعية ، وعقد المؤتمرات والندوات والدورات في موضوعه .
فأيُّ قيمةٍ لحكم ٍلا نفاذ له! ، أو لأمرٍ لا طاعة له!! ، أو لإدارةٍ لا نظام لها!!! ؛ فقديماً قيل :
فينا مَعاشِرُ لم يَبْنُوا لقومِهمُ = وإن بَنى قومُهُمْ ما أَفْسَدوا عادُوا
لا يَرْشُدون ولن يَرْعَوا لِمُرْشِدِهمْ = فالغَيُّ منهُمْ معاً والجَهْلُ ميعادُ
والبيتُ لا يُبْتَنَى إلا لهُ عَمَدٌ = ولا عِمادَ إذا لمْ تُرْسَ أَوْتادُ
فإنْ تجمَّعَ أَوتادٌ وأعمدَةٌ = وساكنٌ، بلغوا الأمرَ الذي كادوا
وإنْ تجمَّعَ أقوامٌ ذَوُو حَسَبٍ = اصطادَ أَمْرَهُمُ بالرُّشْدِ مُصْطادُ
لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُمْ = ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهُمْ سادُوا
تُلفَى الأمورُ بأهلِ الرُّشْدِ ما صَلَحَتْ = فإنْ تَوَلَّوا فبالأشرارِ تَنْقادُ
إذا تَوَلَّى سَراةُ القومِ أَمْرَهُمُ = نَما على ذاك أَمْرُ القومِ فازْدادُوا
لا يَرْشُدون ولن يَرْعَوا لِمُرْشِدِهمْ = فالغَيُّ منهُمْ معاً والجَهْلُ ميعادُ
والبيتُ لا يُبْتَنَى إلا لهُ عَمَدٌ = ولا عِمادَ إذا لمْ تُرْسَ أَوْتادُ
فإنْ تجمَّعَ أَوتادٌ وأعمدَةٌ = وساكنٌ، بلغوا الأمرَ الذي كادوا
وإنْ تجمَّعَ أقوامٌ ذَوُو حَسَبٍ = اصطادَ أَمْرَهُمُ بالرُّشْدِ مُصْطادُ
لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُمْ = ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهُمْ سادُوا
تُلفَى الأمورُ بأهلِ الرُّشْدِ ما صَلَحَتْ = فإنْ تَوَلَّوا فبالأشرارِ تَنْقادُ
إذا تَوَلَّى سَراةُ القومِ أَمْرَهُمُ = نَما على ذاك أَمْرُ القومِ فازْدادُوا
في الختام أقترح ما يلي :-
1/ من المهم : أن يفعَّل دور وزارة العدل في الدولة ؛ فبإرادة العدل : تنهض الدُّول وتقوم ، وبتحقيقه : تبقى وتدوم .
2/ من المهم : أن يندرج القضاء ـ كلُّه ـ تحت مظلة وزارة العدل ؛ إدارياً ، ومالياً ؛ بمراحله الثلاث : التحقيق ، والحكم ، والتنفيذ ، وبدرجاته الثلاث : الابتدائي ، والاستئناف ، والنقض ، وبنوعيه : الإداري ( ديوان المظالم ) ، والعادي .
3/ من المهم : أن يندرج القضاة ـ كلُّهم ـ تحت مظلة المجلس الأعلى للقضاء ؛ إدارياً ، وقضائياً ، وتنظيمياً ، بعد إعداده وتهيئته لتولي تلك المهام الجسام والوظائف العظام .
تُرى لو قررت الدولة ـ وفقها الله ـ هذه المبادئ في هذا العهد الزاهر الناهض نحو التطوير والإصلاح : كم ؟ وكم ؟ سيعود عليها ذلك بالنفع وتبوئ المكانة العالية في مجال القضاء وإحقاق العدل على الصعيد الدولي .
وكم ؟ وكم ؟ وكم ؟ سيعود بالنفع على أفراد المتقاضين من مواطنين وغيرهم ؛ بضمان إشراف القضاء على المطالبات بالحقوق ؛ ابتداءً بالتحقيق في المطالبة ، مروراً بنظرها والحكم فيها ، وانتهاءً بالإشراف على تنفيذ الحكم .
إننا بتحقيق ذلك نقضي على أيِّ تجاوزات أو تفريط في مرحلتي التحقيق والتنفيذ . والله الموفق .
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 5890 | تأريخ النشر : السبت 7 ذو الحجة 1426هـ الموافق 7 يناير 2006ماضغط هنا للحصول على صورة المقالة
إرسال المقالة
|
|||
|
|
|||
|