نشرت في مجلة اليمامة العدد 1894 - وصحيفة اليوم العدد 12317

قضائيات استكمالاً لحديثنا عن استرشادات القضاة نقول :
إنَّ القائمين على إدارة البحوث القضائية يأبونَ أن يصدُرَ من إدارتهم أيُّ جوابٍ تفصيليٍ إلى القاضي المسترشِدِ ؛ خشيةً من تكرار الوقوع في أخطاءَ جسيمةٍ تعود نِسْبَتُها إلى من صدرت الإجابة تحت توقيعه ؛ وبخاصةٍ : أنَّ المجلسَ قد يُقرِّرُ خلافَ ما في بعض توجيهات الوزارة ، فتُبطَلُ لأجلِ ذلك ما بُنِيَ عليها من أحكام .

ولذلك أيضاً : فإنَّ الخطاباتِ الجوابيَّةَ - الصادرةَ من تلك الإدارة – لا تكاد تنفكُّ عن تَكرار عباراتٍ بعينها ؛ مثل :
عليكم الرجوع إلى التعليمات المعمَّمة على المحاكم ، ففيها الجواب عن ذلك الاسترشاد .
أو : عليكم الحكم في القضية بالوجه الشرعي ومعاملة من لم يقتنع بمقتضى تعليمات التمييز .
أو : نُرفق لكم التعميم رقم ... وتاريخ .... للاطلاع وإجراء اللازم حسب المقتضى الشرعي .
ونحو ذلك من العبارات الفضفاضة التي لا تُسمِنُ ولا تُغني القاضي من جُوعِهِ المعرِفِيِّ الباعثِ له على الاسترشاد .

ولأنَّ الاسترشادَ يصدُرُ من قضاةٍ متفاوتين في أعمارهم ، وفي درجاتهم ، وفي سنوات خبرتهم ، بل قد يصدُرُ من قضاةٍ في محاكم التمييز ، ولا يمنع أن يصدُرَ من قضاة الهيئة الدائمة في مجلس القضاء الأعلى ؛ لعموم اللفظ في الفقرة (د) من المادة (89) من نظام القضاء ؛ وإنه : وإن لم يكن واقعاً ؛ إلا أنه واردٌ ومقبولٌ وواقعٌ في بلادٍ كثيرة . ولو تصوَّرنا ذلك لقطعنا أن الإدارةَ بوضعها الحالي ليست في مستوى ما شاء لها النظامُ أن تكون ، ولو أنَّ هذه الإدارةَ قد حَظِيَت بعناية المجلس الموقر - بتخصيص كفاءاتٍ عاليةٍ للعمل بها - لأدَّت دَوْرَها على جميع المستويات وبدون استثناء ؛ غير أنَّ واقِعَها اليوم يقصُرُ دورَها - في إرشاد القاضي - على التذكير بتعميمٍ ذي علاقةٍ بموضوع الدعوى ؛ وإن لم يكن حاسماً لموضوع الاسترشاد .

وبهذا الخيار النظاميِّ الثالث نرى أن القاضيَ يَفقِدُ آخرَ حَلٍ يُمكِنُهُ الاتكاءُ عليه والرجوعُ إليه عند الاستشكال ، فلم يبقَ له إلا الالتفاتُ إلى المحتسبين ؛ صديقٍ ، أو زميلٍ ، أو شيخٍ كان قد لازمه ؛ ولو كان يعمل في محكمة التمييز أو مجلس القضاء الأعلى ؛ ليُجِيبُوه مُحتسبين ؛ لا بصفةٍ رسمية .

ومن يلجأ إلى هذا الحل غالباً ما يسأل عدداً ممن يثق بهم ؛ ليطمئن إلى جوابهم ؛ غير أن مُعضِلَتَه تتعقَّد أكثر إذا اختلف الجواب ، أو تعارضت الأجوبةُ وأعياه الجمعُ بينها ، أو شقَّ عليه إِيرادُ الاعتراضات على مُرشِدِيه الذين أجابوه ؛ لِيَخرُجَ - من أجوبتهم النهائيةِ على إيراداتِه - إلى ما يُمْكِنُهُ الاعتمادُ عليه والاستنادُ إليه والعملُ بموجبه .
وبِحَسْبِ ما جُبِلت عليه نفسُ القاضي ، وما كانت عليه تربيتُه ، والثقافةُ التي تلقاها ، وبِحَسْبِ ما عايشه هو أو سمع عنه من تجاربَ مريرةٍ أو محرجةٍ : يلجأ بعضُ القضاة إلى : ما يرى أنَّه أحوطُ له من تلك الآراء ؛ ولو كان في غير مصلحة القضية أو أطرافها ؛ من باب : (( احفظ ولا تُصلِح )) . تلك القاعدة الخرقاء التي يستندون إليها عند الركون إلى هذا الخيار الاستئثاري ( الأنانيِّ ) المقيت ؛ إذ كفى بقولهم : ( ولا تُصلِح ) إثماً دالاً على رداءة الفكر وضيق الأفق وإضمار سوء الظن .

وقد يلجأ بعضهم إلى : ما فيه رفقٌ بأطراف القضية وتيسيرُ أمورِهِم من تلك الإرشادات ؛ وإن كان ذلك الطريقُ غيرَ مأمونٍ ؛ فقد يعودُ عليه بالضرر لاحقاً . إذ الأصلُ عند بعض مَرَاجِعِهِم : أن القاضيَ مُتَّهَمٌ حتى تثبُتَ براءتَه ؛ لا العكس ؛ نسأل الله السلامة من الخذلان .

ومن ذلك نخلُصُ إلى : أنَّ القاضيَ المبتدئَ - وفي كثيرٍ من أحوالِه - قد أُلقِيَ به في اليَمِّ مكتوفاً وقيل له : إياك إياك أن تبتلَّ بالماء . كان الله في عون الجميع .

عند هذا الحد : ضرب صاحبي بِيَدِهِ على الأخرى فَزِعاً ، وقال : أيُّ قضاءٍ هذا ؟!!! . أين المجلسُ ؟ ، أين الوزارةُ ؟ ، وهل ضاع التنسيقُ بينهما ، أم تاهت المصلحةُ العامة في الطريق إلى أيٍ منهما ؟ .

وعلى فرض ذلك : أين التخطيطُ التنمويُّ عن هذا القطاع ؟ ، وهل هان الأمرُ حتى نعِمت إداراتٌ حديثة الإنشاء ؛ مثل : الهيئة العليا للسياحة بما لم تنعم به مؤسساتُ السُّلطة القضائية من التطوير والتحديث والدعم .

إننا لا ننفك عن سماع أخبارٍ تطويريةٍ لهذا القطاع الهام من قطاعات الحكومة وغيره من القطاعات الناشئة ، في وقتٍ نعيش فيه سُباتَ أهل الكهف عند الالتفات للبحث عن تطويرات الجهاز القضائي وأنظمته ؛ لولا ما نلتقطه بين الحين والحين من أخبارٍ ؛ بعضُها : من القيادة العليا أعزها الله ، وبعضُها : من مقام الوزارة وفقها الله ؛ وإن كانت كأحجار الألماس بين أكوام الحصى .

للفائدة :
منذ تسع سنين وَقَفْتُ على خبرِ جهازٍ استشاريٍ قضائيٍ على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية يعمل فيه أكثرُ من ستمائة مستشار (( قاضي تمييز )) ؛ لإرشاد قضاة المحاكم الفدرالية عبر خطوطٍ ساخنةٍ ( مباشرة ) يَتَلَقَّى القاضي المسترشدُ – من خِلالها - الرأيَ من أهله ، موثَّقاً بمستنده ، مقروناً بسابقةٍ قضائيةٍ معتمدةٍ ، وإن كان الرأيُ يتضمَّنُ حُكماً جديداً صار هو سابقةً قضائيةً لمن بعده ؛ يُسارُ عليها عبر الولايات المتحدة الأمريكية كُلِّها ، ويُسطَّر في كتب القضاء والأنظمة والقوانين هناك . فهل لنا أن نرى جهازاً - ولو مُصَغَّرَاً - منه يَعملُ عَمَلَه في بلادنا ؟ .

إن لنا : أن نتطلعَ لمثل ذلك ؛ فالحكمةُ ضالتُنا ، ونحن أحقُّ بها متى وجدناها ، مثلما أنَّ علينا : نحتُ المعارف من معادنها . والله الموفق .

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 3392 | تأريخ النشر : السبت 20 محرم 1427هـ الموافق 18 فبراير 2006م

اضغط هنا للحصول على صورة المقالة

طباعة المقال

إرسال المقالة
دائرة الإرشاد القضائي 2-2 استكمالا لحديثنا عن استرشادات القضاة نقول : إن القائمين على إدارة البحوث القضائية يأبون أن يصدر من إدارتهم أي جواب تفصيلي إلى القاضي المسترشد ؛ خشية من تكرار الوقوع في أخطاء جسيمة تعود نسبتها إلى من صدرت الإجابة تحت توقيعه ؛ وبخاصة : أن المجلس قد يقرر خلاف ما في بعض توجيهات الوزارة ، فتبطل لأجل ذلك ما بني عليها من أحكام . ولذلك أيضا : فإن الخطابات الجوابية - الصادرة من تلك الإدارة – لا تكاد تنفك عن تكرار عبارات بعينها ؛ مثل : عليكم الرجوع إلى التعليمات المعممة على المحاكم ، ففيها الجواب عن ذلك الاسترشاد . أو : عليكم الحكم في القضية بالوجه الشرعي ومعاملة من لم يقتنع بمقتضى تعليمات التمييز . أو : نرفق لكم التعميم رقم ... وتاريخ .... للاطلاع وإجراء اللازم حسب المقتضى الشرعي . ونحو ذلك من العبارات الفضفاضة التي لا تسمن ولا تغني القاضي من جوعه المعرفي الباعث له على الاسترشاد . ولأن الاسترشاد يصدر من قضاة متفاوتين في أعمارهم ، وفي درجاتهم ، وفي سنوات خبرتهم ، بل قد يصدر من قضاة في محاكم التمييز ، ولا يمنع أن يصدر من قضاة الهيئة الدائمة في مجلس القضاء الأعلى ؛ لعموم اللفظ في الفقرة (د) من المادة (89) من نظام القضاء ؛ وإنه : وإن لم يكن واقعا ؛ إلا أنه وارد ومقبول وواقع في بلاد كثيرة . ولو تصورنا ذلك لقطعنا أن الإدارة بوضعها الحالي ليست في مستوى ما شاء لها النظام أن تكون ، ولو أن هذه الإدارة قد حظيت بعناية المجلس الموقر - بتخصيص كفاءات عالية للعمل بها - لأدت دورها على جميع المستويات وبدون استثناء ؛ غير أن واقعها اليوم يقصر دورها - في إرشاد القاضي - على التذكير بتعميم ذي علاقة بموضوع الدعوى ؛ وإن لم يكن حاسما لموضوع الاسترشاد . وبهذا الخيار النظامي الثالث نرى أن القاضي يفقد آخر حل يمكنه الاتكاء عليه والرجوع إليه عند الاستشكال ، فلم يبق له إلا الالتفات إلى المحتسبين ؛ صديق ، أو زميل ، أو شيخ كان قد لازمه ؛ ولو كان يعمل في محكمة التمييز أو مجلس القضاء الأعلى ؛ ليجيبوه محتسبين ؛ لا بصفة رسمية . ومن يلجأ إلى هذا الحل غالبا ما يسأل عددا ممن يثق بهم ؛ ليطمئن إلى جوابهم ؛ غير أن معضلته تتعقد أكثر إذا اختلف الجواب ، أو تعارضت الأجوبة وأعياه الجمع بينها ، أو شق عليه إيراد الاعتراضات على مرشديه الذين أجابوه ؛ ليخرج - من أجوبتهم النهائية على إيراداته - إلى ما يمكنه الاعتماد عليه والاستناد إليه والعمل بموجبه . وبحسب ما جبلت عليه نفس القاضي ، وما كانت عليه تربيته ، والثقافة التي تلقاها ، وبحسب ما عايشه هو أو سمع عنه من تجارب مريرة أو محرجة : يلجأ بعض القضاة إلى : ما يرى أنه أحوط له من تلك الآراء ؛ ولو كان في غير مصلحة القضية أو أطرافها ؛ من باب : (( احفظ ولا تصلح )) . تلك القاعدة الخرقاء التي يستندون إليها عند الركون إلى هذا الخيار الاستئثاري ( الأناني ) المقيت ؛ إذ كفى بقولهم : ( ولا تصلح ) إثما دالا على رداءة الفكر وضيق الأفق وإضمار سوء الظن . وقد يلجأ بعضهم إلى : ما فيه رفق بأطراف القضية وتيسير أمورهم من تلك الإرشادات ؛ وإن كان ذلك الطريق غير مأمون ؛ فقد يعود عليه بالضرر لاحقا . إذ الأصل عند بعض مراجعهم : أن القاضي متهم حتى تثبت براءته ؛ لا العكس ؛ نسأل الله السلامة من الخذلان . ومن ذلك نخلص إلى : أن القاضي المبتدئ - وفي كثير من أحواله - قد ألقي به في اليم مكتوفا وقيل له : إياك إياك أن تبتل بالماء . كان الله في عون الجميع . عند هذا الحد : ضرب صاحبي بيده على الأخرى فزعا ، وقال : أي قضاء هذا ؟!!! . أين المجلس ؟ ، أين الوزارة ؟ ، وهل ضاع التنسيق بينهما ، أم تاهت المصلحة العامة في الطريق إلى أي منهما ؟ . وعلى فرض ذلك : أين التخطيط التنموي عن هذا القطاع ؟ ، وهل هان الأمر حتى نعمت إدارات حديثة الإنشاء ؛ مثل : الهيئة العليا للسياحة بما لم تنعم به مؤسسات السلطة القضائية من التطوير والتحديث والدعم . إننا لا ننفك عن سماع أخبار تطويرية لهذا القطاع الهام من قطاعات الحكومة وغيره من القطاعات الناشئة ، في وقت نعيش فيه سبات أهل الكهف عند الالتفات للبحث عن تطويرات الجهاز القضائي وأنظمته ؛ لولا ما نلتقطه بين الحين والحين من أخبار ؛ بعضها : من القيادة العليا أعزها الله ، وبعضها : من مقام الوزارة وفقها الله ؛ وإن كانت كأحجار الألماس بين أكوام الحصى . للفائدة : منذ تسع سنين وقفت على خبر جهاز استشاري قضائي على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية يعمل فيه أكثر من ستمائة مستشار (( قاضي تمييز )) ؛ لإرشاد قضاة المحاكم الفدرالية عبر خطوط ساخنة ( مباشرة ) يتلقى القاضي المسترشد – من خلالها - الرأي من أهله ، موثقا بمستنده ، مقرونا بسابقة قضائية معتمدة ، وإن كان الرأي يتضمن حكما جديدا صار هو سابقة قضائية لمن بعده ؛ يسار عليها عبر الولايات المتحدة الأمريكية كلها ، ويسطر في كتب القضاء والأنظمة والقوانين هناك . فهل لنا أن نرى جهازا - ولو مصغرا - منه يعمل عمله في بلادنا ؟ . إن لنا : أن نتطلع لمثل ذلك ؛ فالحكمة ضالتنا ، ونحن أحق بها متى وجدناها ، مثلما أن علينا : نحت المعارف من معادنها . والله الموفق .
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع