تشريعات قضائية لازمة تكثر في محاكمنا دعاوى تحصيل الديون وطلبات تسليم المبيعات ورفع اليد عن الحيازات ونحوها ، وفي حال ثبوت تلك الدعاوى تنتهي - غالباً - بالحكم على المدعى عليه بأصل الدين ، أو بعين المدعى فيه ، أو ببدله ، أو بقيمته .
وهذه الأحكام قد يمضي الكثير من الوقت حتى صدورها ، وكذا حتى اكتسابها القطعية ووجوب النفاذ ، وحتى اكتمال تنفيذها وتمام وصول الحقوق لأصحابها .

ومثل هذه الأحكام لا يراعى فيها أشياء كثيرة ؛ منها :-
1/ التعويض عن ترويع صاحب الحق بسلبه حقه ؛ وما يمكن أن يواكب ذلك من آلامٍ نفسيةٍ قد تؤدي لأمراضٍ مزمنة .
2/ التعويض عن حرمان صاحب الحق من حقه طيلة مدة التقاضي ، الأمر الذي يدعوه للصَّرف على تأمين بدلٍ عنه .
3/ التعويض عن جهد صاحب الحق في سبيل تحصيل حقه ، وإنفاقه الكثير من وقته ، ووقته وجهده مما يقدر بالأجرة .
4/ التعويض عن التكاليف التي غرمها المدعي حتى اكتمال تنفيذ الحكم ، ومنها : أجرة المحامي والتعقيب والمواصلات .
5/ التعويض عن فرق الأسعار بين بداية الدعوى وانتهائها ، فسعر السلعة يوم فقدها أقل بكثير من سعرها يوم إعادتها .
ومع ذلك كله : فالمدعي يوشك أن لا يصدق أنه قد حكم له ، ليبدأ رحلة تدقيق الحكم حتى لا يكاد يؤمن بأن الحكم قد صار قطعياً ، فيشرع في الاستعداد لمرحلة المطالبة بتنفيذ الحكم .

وفي مرحلة المطالبة بالتنفيذ يكون كثيرٌ من المحكوم لهم قد استمرأ المطل ورتابة الإجراءات ، واعتاد غياب حقه عنه ، واستعاض عنه ببدله ، ففرحته باسترداد حقه - إن حصل - لا تساوي سروره بالحكم له به .

بل إن تحصيله لأصل الحق فقط - بعد كل ذلك العناء والشقاء والبذل - يجعله ينظر إلى القضاء بغير منظار العدل والإنصاف ، فينضم إلى المحكوم عليه في صف الناقمين على القضاء والقضاة ، وهكذا حتى يكون كل الناس أعداءٌ لمن وَلِيَ الأحكام ، بدلاً عن نصفهم الذين ظنهم الشاعر في قوله :
لا تَلِ الأحكامَ إنْ هُمْ سألوا = رغبةً فيكَ وخالفْ مَنْ عَذَلْ

إنَّ نِصفَ الناسِ أعداءٌ لمنْ = وَلِيَ الأحكامَ هذا إنْ عَدَلْ

إنَّ لِلنَّقصِ والاستثقالِ في = لفظةِ القاضي لَوَعظاً أو مَثَلْ

أي : أنَّ عدل القضاة يُرضي عنهم النصف المحق ؛ ويُسخط عليهم النصف الآخر .

وقضيتنا هذا اليوم تتلخص في الآتي :-
= في شهر محرم عام 1396هـ اشترى رجلٌ أرضاً سكنية مساحتها 400م2 بخمسة آلاف ريال مقبوضة ؛ إلا أنَّ البائع لم يفرغ للمشتري مع كثرة مراجعته .

= تبين للمشتري لاحقاً أنَّ حجة البائع في التأخير هو لزوم تخطيط الأرض رسمياً وليس على الورق فقط ، وأنه يسعى في ذلك بكامل جهده ؛ كما زعم له كاذباً .

= عندما اعتمد المخطط الرسمي بعد البيع بأكثر من عشرين عاماً ظهر أنه على أرضٍ أخرى للبائع غير الأرض المباعة التي لم يتقدم بتخطيطها أصلاً .

= طلب المشتري من البائع إبداله أرضاً من المخطط المعتمد بأرضه المشتراة سابقاً فرفض ؛ ما لم يدفع المشتري ثمناً للبدل بسعر اليوم .

= لم يوافق البائع على تعويض المدعي عن الأرض بالقيمة ؛ معللاً أنه هو السبب في التأخير ؛ لأنه لم يبادر ببنائها حال شرائها ؛ ولو بلا ترخيص بناء ولا إفراغ .

= أخيراً - وبعد مرور أكثر من عشرين عاماً على البيع - استعد البائع بالشروع في تخطيط الأرض المباعة لإفراغها للمشتري ، غير أنه رفض تحديد مدةٍ لتمام ذلك .

= نظرت إلى القضية من عدة جوانب فوجدت ما يلي :
أولاً : لم يحصل من المشتري أيَّ تأخير في دفع القيمة ، فقد سلمها كاملة في مجلس العقد عام 1396هـ .
ثانياً : لم يُلجئ المشتري البائع في طلب الإفراغ له ؛ لا حال البيع ولا بعده بوقت قريب ، بل انساق وراء وعوده الكاذبة أكثر من عشرين سنة .
ثالثاً : لم يُظهر البائع أيَّ مرونةٍ في التعامل مع المدعي أثناء نظر الدعوى ، ولم يُقَدِّر صبره عليه طيلة هذه المدة ، بل استمر في مطله إياه وإضراره به ومراوغته له ؛ لعله يصيب حُكماً يسند تصرفاته الظالمة .
رابعاً : جاء من شروط البيع : القدرة على التسليم ، وذلك لا يتأتى إلا بإفراغها ، وهو ما لم يفعله البائع .
خامساً : الإفراغ للمشتري واجب على البائع ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهو اعتماد المخطط في حينه .
سادساً : التخطيط المطلوب لا يمكن أن يقوم به المدعي ؛ إذ لا يمكن حصوله بغير طلب البائع أو وكيله ، وعدم السعي فيه بعد اكتمال البيع ظلم يحل عرض البائع وعقوبته .
سابعاً : أن تغرير البائع بالمشتري - مدة عشرين عاماً أو تزيد - ضررٌ لا يُقَرُّ على مثله ، والغَارُّ ضامن ، وقد فات المشتري - مما يمكنه فعله بالأرض - الشيء الكثير طيلة مدة التغرير .

كان كل هذا سبباً في أن أطلب من هيئة النظر تقدير قيمة الأرض المباعة بما تساويه في الوقت الحاضر كما لو لم تبع أصلاً ، فوردني قرارها ، وفيه : أنَّ الأرض موضع الدعوى- المباعة بخمسة آلاف ريال عام 1396هـ - تقدر قيمتها في الوقت الحاضر عام 1420هـ بثمانية وأربعين ألف ريال بحساب سعر المتر للأرض وهي غير مخططة .
عند ذلك حكمت على البائع بضمان قيمة الأرض للمدعي بسعر الوقت الحالي ، واكتسب الحكم القطعية بقرار محكمة التمييز ذي الرقم 449/1 المؤرخ في 25/ 4/ 1420هـ .

والتشريع القضائي المطلوب هو التالي :-
1/ لزوم الحكم للمتضرر بالتعويض عن ضرره - ولو لم يطلب ذلك في دعواه - تحقيقاً للعدل والقسط والإنصاف .
2/ وجوب التعويض عن جميع الأضرار اللاحقة بالمتضرر - المادية والمعنوية - والنص على ذلك في الحكم .
3/ لزوم الحكم على الغَارِّ والمماطل والظالم بالعقوبة المناسبة للحق العام ؛ زجراً عن الظلم وردعاً للظالم .
4/ الاجتهاد في تنويع العقوبة المادية والمعنوية على الظلمة بما يقطع شرهم وتغريرهم كلٌ بحسبه . والله أعلم وأحكم
-
-
-
-

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 6371 | تأريخ النشر : الخميس 1 ربيع الأول 1430هـ الموافق 26 فبراير 2009م

طباعة المقال

إرسال المقالة
(( التعويض العادل )) تكثر في محاكمنا دعاوى تحصيل الديون وطلبات تسليم المبيعات ورفع اليد عن الحيازات ونحوها ، وفي حال ثبوت تلك الدعاوى تنتهي - غالبا - بالحكم على المدعى عليه بأصل الدين ، أو بعين المدعى فيه ، أو ببدله ، أو بقيمته . وهذه الأحكام قد يمضي الكثير من الوقت حتى صدورها ، وكذا حتى اكتسابها القطعية ووجوب النفاذ ، وحتى اكتمال تنفيذها وتمام وصول الحقوق لأصحابها . ومثل هذه الأحكام لا يراعى فيها أشياء كثيرة ؛ منها :- 1/ التعويض عن ترويع صاحب الحق بسلبه حقه ؛ وما يمكن أن يواكب ذلك من آلام نفسية قد تؤدي لأمراض مزمنة . 2/ التعويض عن حرمان صاحب الحق من حقه طيلة مدة التقاضي ، الأمر الذي يدعوه للصرف على تأمين بدل عنه . 3/ التعويض عن جهد صاحب الحق في سبيل تحصيل حقه ، وإنفاقه الكثير من وقته ، ووقته وجهده مما يقدر بالأجرة . 4/ التعويض عن التكاليف التي غرمها المدعي حتى اكتمال تنفيذ الحكم ، ومنها : أجرة المحامي والتعقيب والمواصلات . 5/ التعويض عن فرق الأسعار بين بداية الدعوى وانتهائها ، فسعر السلعة يوم فقدها أقل بكثير من سعرها يوم إعادتها . ومع ذلك كله : فالمدعي يوشك أن لا يصدق أنه قد حكم له ، ليبدأ رحلة تدقيق الحكم حتى لا يكاد يؤمن بأن الحكم قد صار قطعيا ، فيشرع في الاستعداد لمرحلة المطالبة بتنفيذ الحكم . وفي مرحلة المطالبة بالتنفيذ يكون كثير من المحكوم لهم قد استمرأ المطل ورتابة الإجراءات ، واعتاد غياب حقه عنه ، واستعاض عنه ببدله ، ففرحته باسترداد حقه - إن حصل - لا تساوي سروره بالحكم له به . بل إن تحصيله لأصل الحق فقط - بعد كل ذلك العناء والشقاء والبذل - يجعله ينظر إلى القضاء بغير منظار العدل والإنصاف ، فينضم إلى المحكوم عليه في صف الناقمين على القضاء والقضاة ، وهكذا حتى يكون كل الناس أعداء لمن ولي الأحكام ، بدلا عن نصفهم الذين ظنهم الشاعر في قوله :لا تل الأحكام إن هم سألوا = رغبة فيك وخالف من عذل إن نصف الناس أعداء لمن = ولي الأحكام هذا إن عدل إن للنقص والاستثقال في = لفظة القاضي لوعظا أو مثلdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',1) أي : أن عدل القضاة يرضي عنهم النصف المحق ؛ ويسخط عليهم النصف الآخر . وقضيتنا هذا اليوم تتلخص في الآتي :- = في شهر محرم عام 1396هـ اشترى رجل أرضا سكنية مساحتها 400م2 بخمسة آلاف ريال مقبوضة ؛ إلا أن البائع لم يفرغ للمشتري مع كثرة مراجعته . = تبين للمشتري لاحقا أن حجة البائع في التأخير هو لزوم تخطيط الأرض رسميا وليس على الورق فقط ، وأنه يسعى في ذلك بكامل جهده ؛ كما زعم له كاذبا . = عندما اعتمد المخطط الرسمي بعد البيع بأكثر من عشرين عاما ظهر أنه على أرض أخرى للبائع غير الأرض المباعة التي لم يتقدم بتخطيطها أصلا . = طلب المشتري من البائع إبداله أرضا من المخطط المعتمد بأرضه المشتراة سابقا فرفض ؛ ما لم يدفع المشتري ثمنا للبدل بسعر اليوم . = لم يوافق البائع على تعويض المدعي عن الأرض بالقيمة ؛ معللا أنه هو السبب في التأخير ؛ لأنه لم يبادر ببنائها حال شرائها ؛ ولو بلا ترخيص بناء ولا إفراغ . = أخيرا - وبعد مرور أكثر من عشرين عاما على البيع - استعد البائع بالشروع في تخطيط الأرض المباعة لإفراغها للمشتري ، غير أنه رفض تحديد مدة لتمام ذلك . = نظرت إلى القضية من عدة جوانب فوجدت ما يلي : أولا : لم يحصل من المشتري أي تأخير في دفع القيمة ، فقد سلمها كاملة في مجلس العقد عام 1396هـ . ثانيا : لم يلجئ المشتري البائع في طلب الإفراغ له ؛ لا حال البيع ولا بعده بوقت قريب ، بل انساق وراء وعوده الكاذبة أكثر من عشرين سنة . ثالثا : لم يظهر البائع أي مرونة في التعامل مع المدعي أثناء نظر الدعوى ، ولم يقدر صبره عليه طيلة هذه المدة ، بل استمر في مطله إياه وإضراره به ومراوغته له ؛ لعله يصيب حكما يسند تصرفاته الظالمة . رابعا : جاء من شروط البيع : القدرة على التسليم ، وذلك لا يتأتى إلا بإفراغها ، وهو ما لم يفعله البائع . خامسا : الإفراغ للمشتري واجب على البائع ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهو اعتماد المخطط في حينه . سادسا : التخطيط المطلوب لا يمكن أن يقوم به المدعي ؛ إذ لا يمكن حصوله بغير طلب البائع أو وكيله ، وعدم السعي فيه بعد اكتمال البيع ظلم يحل عرض البائع وعقوبته . سابعا : أن تغرير البائع بالمشتري - مدة عشرين عاما أو تزيد - ضرر لا يقر على مثله ، والغار ضامن ، وقد فات المشتري - مما يمكنه فعله بالأرض - الشيء الكثير طيلة مدة التغرير . كان كل هذا سببا في أن أطلب من هيئة النظر تقدير قيمة الأرض المباعة بما تساويه في الوقت الحاضر كما لو لم تبع أصلا ، فوردني قرارها ، وفيه : أن الأرض موضع الدعوى- المباعة بخمسة آلاف ريال عام 1396هـ - تقدر قيمتها في الوقت الحاضر عام 1420هـ بثمانية وأربعين ألف ريال بحساب سعر المتر للأرض وهي غير مخططة . عند ذلك حكمت على البائع بضمان قيمة الأرض للمدعي بسعر الوقت الحالي ، واكتسب الحكم القطعية بقرار محكمة التمييز ذي الرقم 449/1 المؤرخ في 25/ 4/ 1420هـ . والتشريع القضائي المطلوب هو التالي :- 1/ لزوم الحكم للمتضرر بالتعويض عن ضرره - ولو لم يطلب ذلك في دعواه - تحقيقا للعدل والقسط والإنصاف . 2/ وجوب التعويض عن جميع الأضرار اللاحقة بالمتضرر - المادية والمعنوية - والنص على ذلك في الحكم . 3/ لزوم الحكم على الغار والمماطل والظالم بالعقوبة المناسبة للحق العام ؛ زجرا عن الظلم وردعا للظالم . 4/ الاجتهاد في تنويع العقوبة المادية والمعنوية على الظلمة بما يقطع شرهم وتغريرهم كل بحسبه . والله أعلم وأحكم - - - -
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع