قضائيات يقضي الفلاح زمناً طويلاً في مزرعته ، ما إن ينتهي من زراعة الموسم الصيفي حتى يبدأ في التحضير لزراعة الموسم الشتوي ، وهكذا لا يلوي على شيء - غير هذا الأمر - سنين عديدة .

ولا يَفُتُّ في عضد المزارع تَعَرُّضُ زرعه لآفةٍ سماوية ، أو إتلافٍ بفعل فاعل ، أو تردِّي كمية الإنتاج في سنةٍ من السنوات على غير العادة ، بل إنه يُبادر - على الفور - باتخاذ أسرع الإجراءات لتدارك الحدث ، أو تلافي الكثير من عواقبه ، أو اغتنام ما بقي من الموسم ولو بزراعة شيءٍ آخر .

وصاحب المزرعة ليس كالعامل فيها من حيث الاندفاع لاغتنام المواسم ، إذ إنَّ بعض العمال متى شعر بالملل تمرَّد على صاحبه وترك مهنته رغماً عن كفيله ، وفي عهدٍ ليس بالبعيد جِداً - يوم أن كان العمال أَرِقَّاءَ لدى أصحاب المزارع - كان التعبير عن الملل من رتابة العمل يصل إلى حد الانتحار ؛ كما في قصة المثل العامي : جَاْلُ الرَّكِيَّةِ ولا جَاْل ابن عَمَّار .

أما إذا تسرب السأم إلى نفس الفلاح ، أو تراكمت عليه الديون : فإنه يسارع إلى عرض مزرعته للبيع ، فَيستريح من عنائها ، وَتُرزق المزرعةُ بفلاحٍ مندفعٍ متحمسٍ يُسابق ظِلَّه في تنظيفها وتجديدها وتأمين نواقصها ؛ ليبدأ رحلةً جديدةً تُسعد به المزرعة ويَسعد بها .

وفي العادة يأتي الفلاح الجديد ومعه ما يُؤَمِّلُ منه النفع في مشروعه القادم ، وقد يستغني عن كثيرٍ من الآليات القديمة والعمال السابقين والمعدات المستعملة .
يفعل الكثير ذلك - حتى مع يقينهم بجدارة بعض العمال وصلاحية بعض المعدات - خوفاً من أن تُؤثر الروح المعنوية المتردِّيَة على أداء العمال في المرحلة المستهدفة ، أو خشيةً من عدم اندماج العاملين مع السياسة المطلوبة ، أو سداً لذريعة تعاطف العامل مع سيده الراحل بتسريب أسرار العمل الجديد ، ونحو ذلك .

وحال الإدارات الحكومية والخاصة بأنواعها ليست بعيدة عن هذا الأمر ، مما يعني : أن ذلك سلوكٌ إنسانيٌ تلقائيٌ ينشد المديرون منه المصلحة من وجهة نظر عامتهم .

ولذلك نرى كثيراً من كبار المسؤولين يصطحبون معهم طواقم عملهم السابق لأداء عملهم الجديد ، ولو اختلفت مرجعياتهم السابق منها عن اللاحق .
المهم لدى هؤلاء الكبار السرعة في بسط النفوذ ، والدقة في تحصيل الولاءات الموثوقة ، ولذلك : فإن أغلب أتباع النظام السابق يُستغنى عنهم ، أو يُعَطَّلُون ، أو يُنقلون إلى وظائف أدنى ، هذا إذا لم يُنَكَّلْ بهم ؛ كما في قوله تبارك وتعالى { وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } .

أما من لا يَحسب للأمر حساباتٍ مستقبلة - ولو ظنية - فهم يفدون إلى أعمالهم الجديدة فرادى ، ولا يجدون أمامهم غير وضع الثقة اضطراراً في من يلقونه أمامهم ، ومتى أراد الواحد من هؤلاء التماس الجادة لجأ إلى أحد أمرين :

الأول/ التقليب والإرعاد : بتحويل الوظائف من أشخاصٍ إلى آخرين ؛ لتسليط بعضهم على بعض بانكشاف خفايا أعمالهم لمن يخلفهم ، ولخلخلة الترابط بين أعوان المدير السلف ، ولخلق أجواء جديدة يمكن السيطرة على أولئك الأفراد على نحوٍ أدق من ذي قبل . وهذه الطريقة يلجأ إليها من يعجز عن جلب الكفاءات الموثوقة سلفاً ، وينأى بنفسه عن الطريقة التالية .

الثاني/ التقريب والإبعاد : باستبعاد المقربين إلى من سبقه ، واستجلاب المبعدين منه ؛ ولو لم يكونوا أكفياء ، بعد استطلاعٍ رديءٍ عن أحوال سلفه الراحل .

وكلتا الطريقتين عقيمتان في المنظور الإداري البعيد ، فالطريقة الأولى غالبة الفساد جالبة الحساد ، والثانية كثيرة الغلط مثيرة اللغط .

والحاذق - ممن يُبتلى بإدارة جهازٍ ما ، ولا يقدر على جلب طاقمه الأول - يستطيع استحضار من يُمكنه الاعتماد عليهم في ما وُكِلَ إليه ؛ ولو من خارج الدائرة ، فيستعين بهم ؛ ولو مؤقتاً ؛ سواء بنظام : التعاقد ، أو الإعارة ، أو الندب ، أو النقل بترقية .

وفي ذات الوقت يرى ببصره وبصيرته أفراد الحرس القديم ، فيتعامل معهم على النحو الآتي :-

1/ من يستحق الوثوق به في عمله الذي هو فيه : يُقِرُّه عليه ، لا لأنه لا يجد غيره .

2/ من يقدر على أداء أعمالٍ أكبر ووظائفَ أخطر : يُسنِدُ إليه ما يُناسبه ، لا لأنه ضِدٌ لسابقه .

3/ من لا يقدر على احتمال أمانته التي في يده : يُحِيلُهُ إلى ما يصلح له ، لا للخبطة أوراق الملف الأول .

4/ من يَحسُنُ الاستغناء عنه لِتَعَذُّرِ نفعه : يُحَدِّدُ له مهلةً مناسبة لإيجاد مناخٍ آخر ، لا لأنه من أصفياء العهد القديم .

وأثناء اتخاذه تلك القرارات : يستشعر هذا المسؤول قدرة الله عليه الذي أقدره على من وَلِيَ أمرهُم ، ويستصحب علم الله بسره ونجواه ، ويستمد من الله العون والسداد ؛ الذي استخلفه ، ويرى عمله ، وَسَيُنَبِّئُه به يوم أن يُرَدَّ إليه سبحانه عالم الغيب والشهادة .

والسعيد من هؤلاء المصطفين من لا يجعل عليه سبيلاً لأقوال الغوغاء ، ولا لمكائد الوشاة ، ولا لأحابيل المغرضين .

ورحم الله القائل :


إذا كان عونُ الله للمرء شاملاً = تهيَّا له من كل شيءٍ مُراده

وإن لم يكن عونٌ من الله للفتى = فأوَّل ما يجني عليه اجتهاده




-

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 5574 | تأريخ النشر : الخميس 28 ربيع الثاني 1430هـ الموافق 23 أبريل 2009م

طباعة المقال

إرسال المقالة
(( بشر الحرث بكداد جديد )) يقضي الفلاح زمنا طويلا في مزرعته ، ما إن ينتهي من زراعة الموسم الصيفي حتى يبدأ في التحضير لزراعة الموسم الشتوي ، وهكذا لا يلوي على شيء - غير هذا الأمر - سنين عديدة . ولا يفت في عضد المزارع تعرض زرعه لآفة سماوية ، أو إتلاف بفعل فاعل ، أو تردي كمية الإنتاج في سنة من السنوات على غير العادة ، بل إنه يبادر - على الفور - باتخاذ أسرع الإجراءات لتدارك الحدث ، أو تلافي الكثير من عواقبه ، أو اغتنام ما بقي من الموسم ولو بزراعة شيء آخر . وصاحب المزرعة ليس كالعامل فيها من حيث الاندفاع لاغتنام المواسم ، إذ إن بعض العمال متى شعر بالملل تمرد على صاحبه وترك مهنته رغما عن كفيله ، وفي عهد ليس بالبعيد جدا - يوم أن كان العمال أرقاء لدى أصحاب المزارع - كان التعبير عن الملل من رتابة العمل يصل إلى حد الانتحار ؛ كما في قصة المثل العامي : جال الركية ولا جال ابن عمار . أما إذا تسرب السأم إلى نفس الفلاح ، أو تراكمت عليه الديون : فإنه يسارع إلى عرض مزرعته للبيع ، فيستريح من عنائها ، وترزق المزرعة بفلاح مندفع متحمس يسابق ظله في تنظيفها وتجديدها وتأمين نواقصها ؛ ليبدأ رحلة جديدة تسعد به المزرعة ويسعد بها . وفي العادة يأتي الفلاح الجديد ومعه ما يؤمل منه النفع في مشروعه القادم ، وقد يستغني عن كثير من الآليات القديمة والعمال السابقين والمعدات المستعملة . يفعل الكثير ذلك - حتى مع يقينهم بجدارة بعض العمال وصلاحية بعض المعدات - خوفا من أن تؤثر الروح المعنوية المتردية على أداء العمال في المرحلة المستهدفة ، أو خشية من عدم اندماج العاملين مع السياسة المطلوبة ، أو سدا لذريعة تعاطف العامل مع سيده الراحل بتسريب أسرار العمل الجديد ، ونحو ذلك . وحال الإدارات الحكومية والخاصة بأنواعها ليست بعيدة عن هذا الأمر ، مما يعني : أن ذلك سلوك إنساني تلقائي ينشد المديرون منه المصلحة من وجهة نظر عامتهم . ولذلك نرى كثيرا من كبار المسؤولين يصطحبون معهم طواقم عملهم السابق لأداء عملهم الجديد ، ولو اختلفت مرجعياتهم السابق منها عن اللاحق . المهم لدى هؤلاء الكبار السرعة في بسط النفوذ ، والدقة في تحصيل الولاءات الموثوقة ، ولذلك : فإن أغلب أتباع النظام السابق يستغنى عنهم ، أو يعطلون ، أو ينقلون إلى وظائف أدنى ، هذا إذا لم ينكل بهم ؛ كما في قوله تبارك وتعالى { وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون } . أما من لا يحسب للأمر حسابات مستقبلة - ولو ظنية - فهم يفدون إلى أعمالهم الجديدة فرادى ، ولا يجدون أمامهم غير وضع الثقة اضطرارا في من يلقونه أمامهم ، ومتى أراد الواحد من هؤلاء التماس الجادة لجأ إلى أحد أمرين : الأول/ التقليب والإرعاد : بتحويل الوظائف من أشخاص إلى آخرين ؛ لتسليط بعضهم على بعض بانكشاف خفايا أعمالهم لمن يخلفهم ، ولخلخلة الترابط بين أعوان المدير السلف ، ولخلق أجواء جديدة يمكن السيطرة على أولئك الأفراد على نحو أدق من ذي قبل . وهذه الطريقة يلجأ إليها من يعجز عن جلب الكفاءات الموثوقة سلفا ، وينأى بنفسه عن الطريقة التالية . الثاني/ التقريب والإبعاد : باستبعاد المقربين إلى من سبقه ، واستجلاب المبعدين منه ؛ ولو لم يكونوا أكفياء ، بعد استطلاع رديء عن أحوال سلفه الراحل . وكلتا الطريقتين عقيمتان في المنظور الإداري البعيد ، فالطريقة الأولى غالبة الفساد جالبة الحساد ، والثانية كثيرة الغلط مثيرة اللغط . والحاذق - ممن يبتلى بإدارة جهاز ما ، ولا يقدر على جلب طاقمه الأول - يستطيع استحضار من يمكنه الاعتماد عليهم في ما وكل إليه ؛ ولو من خارج الدائرة ، فيستعين بهم ؛ ولو مؤقتا ؛ سواء بنظام : التعاقد ، أو الإعارة ، أو الندب ، أو النقل بترقية . وفي ذات الوقت يرى ببصره وبصيرته أفراد الحرس القديم ، فيتعامل معهم على النحو الآتي :- 1/ من يستحق الوثوق به في عمله الذي هو فيه : يقره عليه ، لا لأنه لا يجد غيره . 2/ من يقدر على أداء أعمال أكبر ووظائف أخطر : يسند إليه ما يناسبه ، لا لأنه ضد لسابقه . 3/ من لا يقدر على احتمال أمانته التي في يده : يحيله إلى ما يصلح له ، لا للخبطة أوراق الملف الأول . 4/ من يحسن الاستغناء عنه لتعذر نفعه : يحدد له مهلة مناسبة لإيجاد مناخ آخر ، لا لأنه من أصفياء العهد القديم . وأثناء اتخاذه تلك القرارات : يستشعر هذا المسؤول قدرة الله عليه الذي أقدره على من ولي أمرهم ، ويستصحب علم الله بسره ونجواه ، ويستمد من الله العون والسداد ؛ الذي استخلفه ، ويرى عمله ، وسينبئه به يوم أن يرد إليه سبحانه عالم الغيب والشهادة . والسعيد من هؤلاء المصطفين من لا يجعل عليه سبيلا لأقوال الغوغاء ، ولا لمكائد الوشاة ، ولا لأحابيل المغرضين . ورحم الله القائل : إذا كان عون الله للمرء شاملا = تهيا له من كل شيء مراده وإن لم يكن عون من الله للفتى = فأول ما يجني عليه اجتهادهdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="1,red" star="***,green" style="display:none"',1) -
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع