|
قضائيات عندما باشرت العمل القضائي منتصف العام 1401هـ وجدت من السائغ لدى الأهالي طلب وإعطاء الأجرة على أداء الشهادة ، ولما سألت أحدهم عن سبب ذلك قال : أنا عامل في شركة أرامكو ، والشركة تحسم عليَّ مرتب اليوم الذي أتغيبه لأداء الشهادة ؛ ولو أخذت إذناً بالغياب ذلك اليوم .
وكذا قال لي أحد الأجراء الزراعيين الذين يعملون بالمياومة ( الأجر اليومي ) .
ومن هنا : تعارف الناس على تعويض الشاهد عن أجرته التي سيفقدها جراء تخلفه عن عمله ، ولم أسمع في سائر المحافظة : أن ذلك يقدح في عدالة الشاهد ، أو تُردُّ به شهادته .
وعندما بحثت هذه المسألة - في حينها - وجدت أنَّ الخلاف موجود بين العلماء في حكمها .
قال المرداوي يرحمه الله في الإنصاف [ - قَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ : أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا ) ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ مُطْلَقًا .
قَالَ فِي الْفُرُوعِ : وَيَحْرُمُ فِي الْأَصَحِّ أَخْذُ أُجْرَةٍ وَجُعْلٍ ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ ، وَمُنْتَخَبِ الْأَدَمِيِّ ، وَالْهِدَايَةِ ، وَالْمُذْهَبِ ، وَالْخُلَاصَةِ ، وَقَدَّمَهُ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَالنَّظْمِ ، وَالرِّعَايَتَيْنِ ، وَالْحَاوِي .
وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ إنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ .
وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهًا بِجَوَازِ الْأَخْذِ لِحَاجَةٍ ، تَعَيَّنَتْ أَوْ لَا ، وَاخْتَارَهُ .
وَقِيلَ : يَجُوزُ الْأَخْذُ مَعَ التَّحَمُّلِ .
وَقِيلَ : أُجْرَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
قَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ) ، وَكَذَا قَالَ فِي الْهِدَايَةِ ، وَالْمُذْهَبِ ، وَصَحَّحَهُ فِي الْفُرُوعِ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ ، وَمُنْتَخَبِ الْأَدَمِيِّ ، وَقَدَّمَهُ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَالنَّظْمِ ، وَالرِّعَايَتَيْنِ ، وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجُوزُ .
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ لِحَاجَةٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ ] . انتهى
وظهر لي من بحث المسألة الآتي :
1/ أنَّ إقامة الشهادة حقٌ لله تعالى ؛ لقوله جل شأنه { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } ، وقوله سبحانه { إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
2/ أنَّ أداء الشهادة فيه أربعة حقوق :-
أ- حق لله تعالى ؛ قال جل جلاله { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } .
ب- حق للمشهود له .
ج- حق للمشهود عليه ؛ ودليله مع ما قبله ما رواه البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا . فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ!، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا ، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ ؟. قَالَ : تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ )) .
د - حقٌ للشاهد ؛ بإبراء ذمته مما احتمله ، وطلبه المثوبة على ذلك لنفسه .
ومن حق الشاهد : أن لا يعود عليه أداء الشهادة بالضرر في نفسه ، أو ماله .
ومن الحق على الشاهد : أنَّ الضرر متى ما انتفى عنه وجب عليه الأداء .
ومما ينفي عنه الضرر احتمال بيت المال تعويضه عما يغرمه أو يفوت عليه بسبب أداء الشهادة ، أو أن يقبض عوضه من المشهود له أو من غيره .
من كل ما تقدم تبين لي الآتي :
1/ أنَّ التنظير المجرد عن الإلمام بالتطبيقات لا ينتج فقيهاً ؛ بقدر ما هو حملُ فقهٍ ونقلُ علمٍ ، ويكثر هذا في طلاب العلم غير المحققين .
2/ أنَّ مقررات الدراسة النظامية في كليات الشريعة لا تحقق الفائدة المرجوة للقاضي .
3/ أنَّ إعادة النظر في مواد الدراسة في المعهد العالي للقضاء أمر لازم ؛ خصوصاً مادتي : السوابق القضائية ، والمبادئ الشرعية العامة .
4/ أنَّ مبدأ [ رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ] من أهم ما يجب على طالب العلم والقاضي المبتدئ أن يلتزمه ؛ لينعتق من ربقة التقليد الأعمى ، وليسلم من شراك التمادي في غير الحق .
5/ أنَّ تفريغ كبار القضاة للتدريس في المعهد العالي للقضاء من أهم ما يجب على المعهد الاهتمام به .
6/ أنَّ الراجح من الأقوال لا يلزم أن يكون هو المشهور ، فكم من قولٍ راجحٍ يراه أكثر الناس مرجوحاً ؛ لكثرة من ضعَّفه ، لا لِقُوَّةِ ما استندوا عليه .
7/ أنَّ التقليد مما يحسنه الجميع ، وهو صفة العُبَّاد ، أما الاجتهاد فعزيز على كثير من الناس ، وهو صفة العلماء ؛ والفرق بينهما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُم )) .
8/ أنَّ على جميع طلبة العلم التفريق : بين الإقدام على القول بالحق ؛ ولو خالف العامة ، وبين تعمد المخالفة لطلب الشهرة ، وكذا التفريق : بين إرغام النفس على اتباع القول الحق ؛ ولو جَانَبَ الهوى ، وبين مجاراة الناس بالإذعان لما هم عليه من خطأ . والله أعلم
-
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
عدد التعليقات : 1 | عدد القراء : 4975 | تأريخ النشر : الجمعة 4 ذو القعدة 1430هـ الموافق 23 أكتوبر 2009مإرسال المقالة
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق
|
|||
|
|
|||
|
|
|||
|
تأريخ النشر: الثلاثاء 23 ذو القعدة 1430هـ الموافق 10 نوفمبر 2009مسيحية
طباعة التعليق