نشرت في منتدى مركز الدراسات القضائية التخصصي

تشريعات قضائية لازمة روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ؛ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ . قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ !، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ؟. قَالَ : فَمَنْ ؟!.) .
وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَأْخُذَ أُمَّتِي مَا أَخَذَ الْأُمَمَ وَالْقُرُونَ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ !، كَمَا فَعَلَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ ؟. قَالَ : وَهَلْ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ !.) .

عندما افتتحت محطات التلفزة في المملكة العربية السعودية منتصف الثمانينات الهجرية من القرن الماضي نقلت لنا شاشاتها فيما نقلت الأفلام العربية ، وكانت أغلب المشاهد فيها غرامية في المقام الأول ، مع بعض المشاهد البوليسية والفكاهية ، ولم تكن فكرة تلك الأفلام هادفة نحو إصلاح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، بل كانت في معظمها موجهة نحو تخدير الشعوب العربية وإشغالها بقضايا الحب والغرام ، وبالدعاية لشتى أنواع المشروبات المسكرة والمفترة ، بل كانت تهدف إلى زعزعة الكيان الاجتماعي المترابط ، وحلحلة التماسك الديني ، والعمل على اهتزاز الثقة بالمرجعيات الاجتماعية والدينية ، وبناء رموز وطنية بديلة في مجالات الغناء والتمثيل أولاً ، ثم في مجال كرة القدم لاحقاً .

هذه الجهود المكثفة والمدعومة من جهات خارجية بالتمويل والإنتاج والتوزيع استطاعت خلال عقدين من الزمن أن تغير البيئة السائدة تغييراً جذرياً ؛ حتى كادت المساجد - في بلاد إنتاجها - أن تخلو من المصلين ، وحتى خلع أكثر النساء الحجاب اضطراراً ؛ لكيلا يوصموا بالرجعية والتخلف ، بل وصل الأمر إلى أن صار النقاب - عندهم - شعاراً للعاهرات يستترن به من سوء أفعالهن ، فنبذه العفيفات كيلا يظن بهم السوء .

وزاد الطين بلة أن اتخذه الممثلون الرجال وسيلة للتخفي والإفلات من أيدي رجال الشرطة في أفلام الإجرام ، فزاد من وضع الارتياب بكل من يلبس لباس الحشمة الكاملة .

وكان منتجو الأفلام العاهرة يدندنون حول تهوين أمر الفاحشة ، وتقريب خطوات الشيطان إليها ، واختراع أنواع الحيل المقربة إلى حدوثها ، ولجؤوا لتحقيق ذلك المأرب إلى تذويب الخوف من الزنا والفضيحة والعهر بما أسموه العقد العرفي ؛ فيما إذا اتخذ الأهل موقفاً مضاداً من رغبة بناتهم الزواج ممن أحبوهم من زملائهم في الدراسة أو العمل ونحوهم .

فما على البنت الهائمة بحب الشاب المرفوضة خطبته من أهل الفتاة إلا أن تهرب معه إلى المدينة ، ويعقدا قرانهما لدى بعض أشباه القوادين ممن نصب نفسه مأذوناً بلا ترخيصٍ نظامي ولا تأهيلِ شرعي .

لقد كثرت هذه الأحداث في الأفلام العربية ، وشاع خبرها بين الفتيان والفتيات في جميع الدول العربية ، ولجأ إليها بعضهم فعلاً أو تهديداً لأهليهم ؛ للحيلولة دون الوقوف أمام رغباتهم الجامحة .

وحادثتنا من أغرب وأعجب وأندر حوادث هذا النوع ، وملخصها كما يلي :-

= الشاب : فتى في الخامسة والعشرين من عمره ، مكتمل الشباب والحيوية والوسامة ، وعلى خلقٍ رفيعٍ جداً ، من أسرة متوسطة الحال ، تخرج في قسم الإدارة من إحدى جامعات المملكة ، ولم يعمل في القطاع العام ، بل اتجه على الفور إلى افتتاح مؤسسة مقاولات ، وشق طريقه بجهدٍ بالغٍ وصبرٍ فريدٍ نحو المال والشهرة .

= الفتاة : في الثامنة عشرة من عمرها ، ذات حظٍ وافرٍ من الجمال الظاهر عليها ، من أسرةٍ غنيةٍ جداً لها مكانتها ووزنها الاجتماعي والمالي ، والدتها من رعايا إحدى الدول العربية ، وتعيش مع والديها خارج المملكة أغلب أيام السنة ؛ لارتباط والدها بتجارته الخارجية .

= في مطلع العام 1407هـ تقدم الشاب لخطبة الفتاة ، فوافق والدها على الفور ، وقبض مهر ابنته ، وعندما أخبر أخاه بالخبر ثارت ثائرة ابن أخيه وزوج ابنته الكبرى ، وطلب من عمه إلغاء الزواج على الفور .

= أصرت الفتاة ووالدتها على قبول الخاطب ، ولم يتعجل والد الفتاة برفض الخاطب مع شدة حرصه على رضى ابن أخيه .

= عندما هدد ابن الأخ بطلاق زوجته - شقيقة الفتاة المخطوبة في حال إتمام الزواج - استجاب والد الفتاة لتلك الضغوط العائلية ، واستدعى الشاب وأعاد له مهره ، ولم يكن قد عقد له بعد ، ولم يكن ثمة سببٌ مقنعٌ للرفض غير المستوى المالي المتواضع الذي يرزح تحته الخاطب وأهله .

= خلال مدة الشد والجذب بين والد الفتاة وابن أخيه - وقبل رفض الخطبة رسمياً - كانت العلاقة العاطفية بين الخاطب ومخطوبته قد ازدادت توثقاً ومتانة ، ولذا لم يستجب الشاب للرفض غير المسبب ، وكذلك الفتاة مما اضطر والد الفتاة إلى شكاية الشاب لدى الحاكم الإداري مرتين ، في كل مرة يؤخذ عليه التعهد بعدم التعرض للفتاة ولا الاتصال بذويها لا حاضراً ولا مستقبلاً .

= غادرت الفتاة ووالديها البلاد إلى سكنهم خارج المملكة ، وما هي إلا أيام حتى لحق بهم الشاب ، واتصل بالفتاة على حين غفلة من أهلها ، واستعان بطبيبةٍ نفسيةٍ لتذليل صعوبات إقناع الفتاة بالتمرُّد على أهلها وكسر حواجز الخوف لديها ، فتمكنت الطبيبة من إنجاز مهمتها ، وأمكن الشاب أن يعقد على الفتاة عقداً عرفياً - كما زعم - استطاع بموجبه الدخول بها .

= لم يتوقف دهاء الشاب عند هذا الحد ، بل اخترع قصة لتثبيت العقد العرفي ؛ مفادها : أن جعل الفتاة تقيم عليه دعوى بطلب تثبيت العقد لها عليه بحجة حملها منه ، وأنها في الشهر الرابع !!!، فاستجابت المحكمة - هناك - لهذه الدعوى بعد الإطلاع على تقريرٍ طبيٍ مزورٍ يشهد بحصول الحمل وعمره ، مع أن الاتصال بين الشاب والفتاة - وقتها - لم يتجاوز بضعة أيام .

= استمر الشاب في إحكام ربط علاقته بالفتاة وتوثيقها بأن دفع رسماً إضافياً للمحكمة - هناك - حتى يكتسب القرار الصفة القطعية ، فلا يقبل الطعن فيه من أولياء فتاته .

= اضطر الشاب لتغييب فتاته عن أهلها مدة تسعة أيام ؛ لإنجاز هذه المهمة الخطيئة بخطواتها الثلاث السالفة .

= كان والد الفتاة وإخوانها - خلال التسعة الأيام - في حالة يُرثى لها ، اتصل - خلالها - الأب بالسفير السعودي ؛ للمشاركة في البحث عن ابنته ، فسخَّر السفير إمكانات السفارة وعلاقاتها بمسؤولي تلك الدولة في البحث عن البنت ، غير أن ذلك كله لم يجد شيئاً .

= عندما أكمل الشاب تحصينات عقده على الفتاة اتصل بوالدها ، وأخبره بحاله مع ابنته ، فأبلغ الأب معالي السفير بالخبر ، فأمره بالترحيب بالأمر ، ومهادنة الشاب الغازي ، وإظهار القبول بالأمر الواقع .

= أتقن الأب التمثيل على الزوج ، واستقبله في منزله استقبال الفاتحين ، وأولم له بحضور جميع أفراد أسرته ، وأظهر الفرح بهذا الارتباط مدة ثلاثة أيامٍ بلياليها ، بل وصل الأمر بأن أمر الأب أحد أبنائه بإيصال الفتاة إلى سكن زوجها كل ليلة ؛ بعد الأيام الثلاثة الأولى من تبليغهم خبر العقد .

= كان حتماً أن تتغلب حكمة الشيوخ على دهاء الشباب في نهاية الأمر ، فبعد أن اطمأن الشاب لوضعه مع فتاته أمام أسرتها : طلب الأب من الشاب وابنته أن يسبقوهما بالسفر إلى المملكة ؛ لإتمام الفرح هناك رسمياً ، وأمام أسرتيهما ، فغادرا فرحين بهذه النتيجة السارة .

= أقام الشابان في الفندق ليلتين بعد وصولهما ، وفي اليوم الثالث ظهرت باكورة ثمار تعاضد الأب - هناك - مع صهره الأكبر - هنا - ، ومن خلال التنسيق المحكم بين معالي السفير - هناك - والحاكم الإداري - هنا - ، فانتهى الأمر بكل واحدٍ من الشابين في زنزانةٍ مدة عشرة أيام .

= لم يدخر الشاب وسعاً لاسترضاء والد الفتاة ، وكذلك هي لم تأل جهداً في استعطاف والديها طيلة أيام احتجازهما بلا فائدة .

= سُلِّمت الفتاة لوالدها ، وأُخرج الشاب بالكفالة ، وأُحيل الجميع إلى المحكمة ، وكُنت المبتلى بنظر هذه الدعوى . والله المستعان

= ابتدأت نظر القضية وحكمت فيها خلال جلسةٍ واحدة في 7/ 4/ 1409هـ ، وكان - مما جاء في المرافعة - الآتي :

أولاً : قصر الأب مطالبته على فسخ العقد الذي يحمله الشاب ، ولم يطلب غير ذلك .

ثانياً : صدَّق الشاب كل ما ذكره المدعي ، واكتفى بالقول : بأنه كان مكرهاً على رفض الخطبة من صهره الأكبر ، وأنه ما فعل فعلته الخاطئة إلا بعد أن لمس من المدعي وزوجته الموافقة على طلبه .

ثالثاً/ استشهد الشاب على حصول الموافقة من الأب بما أظهره الأب من ترحيبٍ به وبفتاته أثناء استدراجهما .

رابعاً : حاول الشاب التأثير على المدعي بتوسيط عددٍ من المشايخ والأعيان دون جدوى .

خامساً : كان على المحكمة ترغيب المدعى عليه في حسم الأمر ؛ حرصاً على حسن علاقة فتاته بأهلها ، فأبى الإذعان لطلب المدعي ، واعتذر بمحبته للفتاة ومحبتها له ؛ الأمر الذي يحتم عليهما عدم الانفصال عن بعضهما .

سادساً : حاول الشاب الاستشهاد بفتاوى مكتوبةٍ لمشايخ مذهبه تجيز عقد الفتاة لنفسها دون وليها ، وبعد التحري عن تلك الفتاوى أفاد مُفتوها بعدم صحة هذه الفتاوى ، وأن الأمر موكولٌ للمحكمة .

سابعاً : استندت المحكمة - هناك - لتثبيت العقد العرفي على حصول الحمل فقط ، ولم تستند على أن هناك عقداً مستوفٍ أركانه وشروطه المعتبرة شرعاً ؛ مما يعني : عدم اعتداد المحكمة - هناك - بالعقد العرفي أصلاً ، وهذا - ولاشك - تقصيرٌ ظاهر ومخالفةٌ واضحة ، فالحمل وحده لا يُصحح العلاقة الزوجية الباطلة ، ولا يجعل الحرام حلالاً ، بخلاف العقود ذات الإيجاب والقبول ؛ ولو كانت معيبة ؛ فإن الفاسد من العقود متى اتصل به القبض أو المباشرة صح ولزم .

ثامناً : كانت الأحاديث الصحيحة مستند القول ببطلان مثل هذه العقود ، ومنها :
- ما صحَّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ ) رواه الخمسة إلا النسائي
- وما صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ ، وَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ ) .

= صدر الحكم بإبطال هذا النكاح ، وإفهام الفتاة بأن عليها العدة الشرعية ، وأن لا تمكن المدعى عليه من نفسها لكونها لا تحل له إلا بعقد صحيح ومهر جديد .

= صدق الحكم من محكمة التمييز بقرارها ذي الرقم 271/ أش المؤرخ في 12/ 5/ 1409هـ .

= وضعت الفتاة بنتاً بعد ثمانية أشهر من التفريق بينها وبين فتاها ، وسُلمت الوليدة للشاب بحكم كونه والداً لها ؛ بإقراره ، ولشبهة ذلك الحكم القضائي القاصر .

والتشريع القضائي المطلوب هو التالي :-
1/ التأكيد على دور الإعلام في تنفير المجتمع من التصرفات الرعناء المؤثرة على بِنية المجتمع المسلم .

2/ الاهتمام بما ينفع الناس في مضامين المقررات الدراسية للبنين والبنات ، وتقديمه على البِناء الثقافي المجرد ، فالأهم أولى من المهم .

3/ التركيز على الثقافة الشرعية والقانونية في أمور الجرائم والجنح ، والتخويف من عواقبها وآثارها المدمرة للأفراد والأسر .

4/ إعطاء الجوانب الروحية والسلوكية الأهمية المناسبة في جوانب التربية ، وغرس تلك المبادئ السامية في نفوس الناشئة ؛ بوضع الخطط والبرامج للأنشطة المدرسية ؛ لتتضمن الزيارات التوعوية للمستشفيات والسجون من أجل أخذ العبرة والموعظة .

5/ تشديد الرقابة على الأولاد في سنوات المراهقة ؛ حيث ينشط التمرد والطيش ، وتتفجر الطاقات الطبيعية ، فيسهل على كل منحرفٍ اصطيادُ هؤلاء الأغرار بالوعود الزائفة ، وإغواؤهم بكل وسائل الاستغفال المتوافرة .

6/ سَنُّ العقوبات الرادعة على مستدرجي الفتيات المراهقات ، وإشهار تلك العقوبات ؛ لتكون رادعاً لمن يقترف تلك الخطايا ، وزاجراً لمن تراوده نفسه اقترافها .

7/ نشر المراكز الاجتماعية في الأحياء ، وإعطائها الصلاحيات المناسبة في سبيل القيام بمهامها الرائدة .

8/ الإسراع في إنشاء قضاء ما قبل الحكم ( قضاء الصلح ) ، لتقليص أسباب الخلاف ، وقطع طرق الشر والفساد والإفساد بين أفراد المجتمع المحافظ . والله أعلم وأحكم


-

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

عدد التعليقات : 1 | عدد القراء : 5215 | تأريخ النشر : الأربعاء 19 جمادى الآخرة 1431هـ الموافق 2 يونيو 2010م

طباعة المقال

إرسال المقالة
(( الزواج العرفي )) روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ؛ حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه . قلنا : يا رسول الله !، اليهود والنصارى ؟. قال : فمن ؟!.) . وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا تقوم الساعة حتى يأخذ أمتي ما أخذ الأمم والقرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع . قالوا : يا رسول الله !، كما فعلت فارس والروم ؟. قال : وهل الناس إلا أولئك !.) . عندما افتتحت محطات التلفزة في المملكة العربية السعودية منتصف الثمانينات الهجرية من القرن الماضي نقلت لنا شاشاتها فيما نقلت الأفلام العربية ، وكانت أغلب المشاهد فيها غرامية في المقام الأول ، مع بعض المشاهد البوليسية والفكاهية ، ولم تكن فكرة تلك الأفلام هادفة نحو إصلاح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، بل كانت في معظمها موجهة نحو تخدير الشعوب العربية وإشغالها بقضايا الحب والغرام ، وبالدعاية لشتى أنواع المشروبات المسكرة والمفترة ، بل كانت تهدف إلى زعزعة الكيان الاجتماعي المترابط ، وحلحلة التماسك الديني ، والعمل على اهتزاز الثقة بالمرجعيات الاجتماعية والدينية ، وبناء رموز وطنية بديلة في مجالات الغناء والتمثيل أولا ، ثم في مجال كرة القدم لاحقا . هذه الجهود المكثفة والمدعومة من جهات خارجية بالتمويل والإنتاج والتوزيع استطاعت خلال عقدين من الزمن أن تغير البيئة السائدة تغييرا جذريا ؛ حتى كادت المساجد - في بلاد إنتاجها - أن تخلو من المصلين ، وحتى خلع أكثر النساء الحجاب اضطرارا ؛ لكيلا يوصموا بالرجعية والتخلف ، بل وصل الأمر إلى أن صار النقاب - عندهم - شعارا للعاهرات يستترن به من سوء أفعالهن ، فنبذه العفيفات كيلا يظن بهم السوء . وزاد الطين بلة أن اتخذه الممثلون الرجال وسيلة للتخفي والإفلات من أيدي رجال الشرطة في أفلام الإجرام ، فزاد من وضع الارتياب بكل من يلبس لباس الحشمة الكاملة . وكان منتجو الأفلام العاهرة يدندنون حول تهوين أمر الفاحشة ، وتقريب خطوات الشيطان إليها ، واختراع أنواع الحيل المقربة إلى حدوثها ، ولجؤوا لتحقيق ذلك المأرب إلى تذويب الخوف من الزنا والفضيحة والعهر بما أسموه العقد العرفي ؛ فيما إذا اتخذ الأهل موقفا مضادا من رغبة بناتهم الزواج ممن أحبوهم من زملائهم في الدراسة أو العمل ونحوهم . فما على البنت الهائمة بحب الشاب المرفوضة خطبته من أهل الفتاة إلا أن تهرب معه إلى المدينة ، ويعقدا قرانهما لدى بعض أشباه القوادين ممن نصب نفسه مأذونا بلا ترخيص نظامي ولا تأهيل شرعي . لقد كثرت هذه الأحداث في الأفلام العربية ، وشاع خبرها بين الفتيان والفتيات في جميع الدول العربية ، ولجأ إليها بعضهم فعلا أو تهديدا لأهليهم ؛ للحيلولة دون الوقوف أمام رغباتهم الجامحة . وحادثتنا من أغرب وأعجب وأندر حوادث هذا النوع ، وملخصها كما يلي :- = الشاب : فتى في الخامسة والعشرين من عمره ، مكتمل الشباب والحيوية والوسامة ، وعلى خلق رفيع جدا ، من أسرة متوسطة الحال ، تخرج في قسم الإدارة من إحدى جامعات المملكة ، ولم يعمل في القطاع العام ، بل اتجه على الفور إلى افتتاح مؤسسة مقاولات ، وشق طريقه بجهد بالغ وصبر فريد نحو المال والشهرة . = الفتاة : في الثامنة عشرة من عمرها ، ذات حظ وافر من الجمال الظاهر عليها ، من أسرة غنية جدا لها مكانتها ووزنها الاجتماعي والمالي ، والدتها من رعايا إحدى الدول العربية ، وتعيش مع والديها خارج المملكة أغلب أيام السنة ؛ لارتباط والدها بتجارته الخارجية . = في مطلع العام 1407هـ تقدم الشاب لخطبة الفتاة ، فوافق والدها على الفور ، وقبض مهر ابنته ، وعندما أخبر أخاه بالخبر ثارت ثائرة ابن أخيه وزوج ابنته الكبرى ، وطلب من عمه إلغاء الزواج على الفور . = أصرت الفتاة ووالدتها على قبول الخاطب ، ولم يتعجل والد الفتاة برفض الخاطب مع شدة حرصه على رضى ابن أخيه . = عندما هدد ابن الأخ بطلاق زوجته - شقيقة الفتاة المخطوبة في حال إتمام الزواج - استجاب والد الفتاة لتلك الضغوط العائلية ، واستدعى الشاب وأعاد له مهره ، ولم يكن قد عقد له بعد ، ولم يكن ثمة سبب مقنع للرفض غير المستوى المالي المتواضع الذي يرزح تحته الخاطب وأهله . = خلال مدة الشد والجذب بين والد الفتاة وابن أخيه - وقبل رفض الخطبة رسميا - كانت العلاقة العاطفية بين الخاطب ومخطوبته قد ازدادت توثقا ومتانة ، ولذا لم يستجب الشاب للرفض غير المسبب ، وكذلك الفتاة مما اضطر والد الفتاة إلى شكاية الشاب لدى الحاكم الإداري مرتين ، في كل مرة يؤخذ عليه التعهد بعدم التعرض للفتاة ولا الاتصال بذويها لا حاضرا ولا مستقبلا . = غادرت الفتاة ووالديها البلاد إلى سكنهم خارج المملكة ، وما هي إلا أيام حتى لحق بهم الشاب ، واتصل بالفتاة على حين غفلة من أهلها ، واستعان بطبيبة نفسية لتذليل صعوبات إقناع الفتاة بالتمرد على أهلها وكسر حواجز الخوف لديها ، فتمكنت الطبيبة من إنجاز مهمتها ، وأمكن الشاب أن يعقد على الفتاة عقدا عرفيا - كما زعم - استطاع بموجبه الدخول بها . = لم يتوقف دهاء الشاب عند هذا الحد ، بل اخترع قصة لتثبيت العقد العرفي ؛ مفادها : أن جعل الفتاة تقيم عليه دعوى بطلب تثبيت العقد لها عليه بحجة حملها منه ، وأنها في الشهر الرابع !!!، فاستجابت المحكمة - هناك - لهذه الدعوى بعد الإطلاع على تقرير طبي مزور يشهد بحصول الحمل وعمره ، مع أن الاتصال بين الشاب والفتاة - وقتها - لم يتجاوز بضعة أيام . = استمر الشاب في إحكام ربط علاقته بالفتاة وتوثيقها بأن دفع رسما إضافيا للمحكمة - هناك - حتى يكتسب القرار الصفة القطعية ، فلا يقبل الطعن فيه من أولياء فتاته . = اضطر الشاب لتغييب فتاته عن أهلها مدة تسعة أيام ؛ لإنجاز هذه المهمة الخطيئة بخطواتها الثلاث السالفة . = كان والد الفتاة وإخوانها - خلال التسعة الأيام - في حالة يرثى لها ، اتصل - خلالها - الأب بالسفير السعودي ؛ للمشاركة في البحث عن ابنته ، فسخر السفير إمكانات السفارة وعلاقاتها بمسؤولي تلك الدولة في البحث عن البنت ، غير أن ذلك كله لم يجد شيئا . = عندما أكمل الشاب تحصينات عقده على الفتاة اتصل بوالدها ، وأخبره بحاله مع ابنته ، فأبلغ الأب معالي السفير بالخبر ، فأمره بالترحيب بالأمر ، ومهادنة الشاب الغازي ، وإظهار القبول بالأمر الواقع . = أتقن الأب التمثيل على الزوج ، واستقبله في منزله استقبال الفاتحين ، وأولم له بحضور جميع أفراد أسرته ، وأظهر الفرح بهذا الارتباط مدة ثلاثة أيام بلياليها ، بل وصل الأمر بأن أمر الأب أحد أبنائه بإيصال الفتاة إلى سكن زوجها كل ليلة ؛ بعد الأيام الثلاثة الأولى من تبليغهم خبر العقد . = كان حتما أن تتغلب حكمة الشيوخ على دهاء الشباب في نهاية الأمر ، فبعد أن اطمأن الشاب لوضعه مع فتاته أمام أسرتها : طلب الأب من الشاب وابنته أن يسبقوهما بالسفر إلى المملكة ؛ لإتمام الفرح هناك رسميا ، وأمام أسرتيهما ، فغادرا فرحين بهذه النتيجة السارة . = أقام الشابان في الفندق ليلتين بعد وصولهما ، وفي اليوم الثالث ظهرت باكورة ثمار تعاضد الأب - هناك - مع صهره الأكبر - هنا - ، ومن خلال التنسيق المحكم بين معالي السفير - هناك - والحاكم الإداري - هنا - ، فانتهى الأمر بكل واحد من الشابين في زنزانة مدة عشرة أيام . = لم يدخر الشاب وسعا لاسترضاء والد الفتاة ، وكذلك هي لم تأل جهدا في استعطاف والديها طيلة أيام احتجازهما بلا فائدة . = سلمت الفتاة لوالدها ، وأخرج الشاب بالكفالة ، وأحيل الجميع إلى المحكمة ، وكنت المبتلى بنظر هذه الدعوى . والله المستعان = ابتدأت نظر القضية وحكمت فيها خلال جلسة واحدة في 7/ 4/ 1409هـ ، وكان - مما جاء في المرافعة - الآتي : أولا : قصر الأب مطالبته على فسخ العقد الذي يحمله الشاب ، ولم يطلب غير ذلك . ثانيا : صدق الشاب كل ما ذكره المدعي ، واكتفى بالقول : بأنه كان مكرها على رفض الخطبة من صهره الأكبر ، وأنه ما فعل فعلته الخاطئة إلا بعد أن لمس من المدعي وزوجته الموافقة على طلبه . ثالثا/ استشهد الشاب على حصول الموافقة من الأب بما أظهره الأب من ترحيب به وبفتاته أثناء استدراجهما . رابعا : حاول الشاب التأثير على المدعي بتوسيط عدد من المشايخ والأعيان دون جدوى . خامسا : كان على المحكمة ترغيب المدعى عليه في حسم الأمر ؛ حرصا على حسن علاقة فتاته بأهلها ، فأبى الإذعان لطلب المدعي ، واعتذر بمحبته للفتاة ومحبتها له ؛ الأمر الذي يحتم عليهما عدم الانفصال عن بعضهما . سادسا : حاول الشاب الاستشهاد بفتاوى مكتوبة لمشايخ مذهبه تجيز عقد الفتاة لنفسها دون وليها ، وبعد التحري عن تلك الفتاوى أفاد مفتوها بعدم صحة هذه الفتاوى ، وأن الأمر موكول للمحكمة . سابعا : استندت المحكمة - هناك - لتثبيت العقد العرفي على حصول الحمل فقط ، ولم تستند على أن هناك عقدا مستوف أركانه وشروطه المعتبرة شرعا ؛ مما يعني : عدم اعتداد المحكمة - هناك - بالعقد العرفي أصلا ، وهذا - ولاشك - تقصير ظاهر ومخالفة واضحة ، فالحمل وحده لا يصحح العلاقة الزوجية الباطلة ، ولا يجعل الحرام حلالا ، بخلاف العقود ذات الإيجاب والقبول ؛ ولو كانت معيبة ؛ فإن الفاسد من العقود متى اتصل به القبض أو المباشرة صح ولزم . ثامنا : كانت الأحاديث الصحيحة مستند القول ببطلان مثل هذه العقود ، ومنها : - ما صح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ) رواه الخمسة إلا النسائي - وما صح عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا نكاح إلا بولي ، والسلطان ولي من لا ولي له ) . = صدر الحكم بإبطال هذا النكاح ، وإفهام الفتاة بأن عليها العدة الشرعية ، وأن لا تمكن المدعى عليه من نفسها لكونها لا تحل له إلا بعقد صحيح ومهر جديد . = صدق الحكم من محكمة التمييز بقرارها ذي الرقم 271/ أش المؤرخ في 12/ 5/ 1409هـ . = وضعت الفتاة بنتا بعد ثمانية أشهر من التفريق بينها وبين فتاها ، وسلمت الوليدة للشاب بحكم كونه والدا لها ؛ بإقراره ، ولشبهة ذلك الحكم القضائي القاصر . والتشريع القضائي المطلوب هو التالي :- 1/ التأكيد على دور الإعلام في تنفير المجتمع من التصرفات الرعناء المؤثرة على بنية المجتمع المسلم . 2/ الاهتمام بما ينفع الناس في مضامين المقررات الدراسية للبنين والبنات ، وتقديمه على البناء الثقافي المجرد ، فالأهم أولى من المهم . 3/ التركيز على الثقافة الشرعية والقانونية في أمور الجرائم والجنح ، والتخويف من عواقبها وآثارها المدمرة للأفراد والأسر . 4/ إعطاء الجوانب الروحية والسلوكية الأهمية المناسبة في جوانب التربية ، وغرس تلك المبادئ السامية في نفوس الناشئة ؛ بوضع الخطط والبرامج للأنشطة المدرسية ؛ لتتضمن الزيارات التوعوية للمستشفيات والسجون من أجل أخذ العبرة والموعظة . 5/ تشديد الرقابة على الأولاد في سنوات المراهقة ؛ حيث ينشط التمرد والطيش ، وتتفجر الطاقات الطبيعية ، فيسهل على كل منحرف اصطياد هؤلاء الأغرار بالوعود الزائفة ، وإغواؤهم بكل وسائل الاستغفال المتوافرة . 6/ سن العقوبات الرادعة على مستدرجي الفتيات المراهقات ، وإشهار تلك العقوبات ؛ لتكون رادعا لمن يقترف تلك الخطايا ، وزاجرا لمن تراوده نفسه اقترافها . 7/ نشر المراكز الاجتماعية في الأحياء ، وإعطائها الصلاحيات المناسبة في سبيل القيام بمهامها الرائدة . 8/ الإسراع في إنشاء قضاء ما قبل الحكم ( قضاء الصلح ) ، لتقليص أسباب الخلاف ، وقطع طرق الشر والفساد والإفساد بين أفراد المجتمع المحافظ . والله أعلم وأحكم -
(1) - عنوان التعليق : رأي

تأريخ النشر: الجمعة 19 جمادى الأولى 1432هـ الموافق 22 أبريل 2011مسيحية

ï؟½ï؟½ ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½
فضيلة الشيخ د.ناصر بن داود ، ألا ترى أن تصحيح مثل هذا العقد أولى من التفريق، ولو كان على قول مرجوح، خصوصاً بعد مضي مدة على نشوئه وابتداء الحمل . وقد رأيتُك في بعض مقالاتك حولك بعض أحكامكم القضائية تُعملون قولاً مرجوحاً أو رأياً آخر. أليست هذه الدعوى منها =================== أخي الفاضل : محب للخير . هناك فرق بين من يعتقد صحة هذا النكاح فيصحح نكاحه من أجل اعتقاده . وبين : من يعتقد بطلانه ؛ غير أنه تورط فيه بغير إرادة كاملة ، ونتج عن النكاح حمل ، فيصحح النكاح من أجل الحمل . وبين : من يعتقد بطلان النكاح ، ويبيت النية على قصد المخالفة ؛ لغرض سيء ؛ كمن يراغم أولياء المرأة بمثل هذا النكاح ، وهنا لابد من التفريق ؛ ليستشعر خطورة ما أقدم عليه ، وليرتدع عن مثل فعله من يترقب التصحيح . وفي الحالة الأخيرة : يمكن التصحيح باستئناف عقد جديد مكتمل لما يستلزمه . وهذا ما حصل في قصتنا هذه . والله الموفق

طباعة التعليق

إرسال التعليق
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع