|
نشرت في منتدى مركز الدراسات القضائية التخصصي
تشريعات قضائية لازمة روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ؛ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ . قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ !، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ؟. قَالَ : فَمَنْ ؟!.) .وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَأْخُذَ أُمَّتِي مَا أَخَذَ الْأُمَمَ وَالْقُرُونَ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ !، كَمَا فَعَلَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ ؟. قَالَ : وَهَلْ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ !.) .
عندما افتتحت محطات التلفزة في المملكة العربية السعودية منتصف الثمانينات الهجرية من القرن الماضي نقلت لنا شاشاتها فيما نقلت الأفلام العربية ، وكانت أغلب المشاهد فيها غرامية في المقام الأول ، مع بعض المشاهد البوليسية والفكاهية ، ولم تكن فكرة تلك الأفلام هادفة نحو إصلاح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، بل كانت في معظمها موجهة نحو تخدير الشعوب العربية وإشغالها بقضايا الحب والغرام ، وبالدعاية لشتى أنواع المشروبات المسكرة والمفترة ، بل كانت تهدف إلى زعزعة الكيان الاجتماعي المترابط ، وحلحلة التماسك الديني ، والعمل على اهتزاز الثقة بالمرجعيات الاجتماعية والدينية ، وبناء رموز وطنية بديلة في مجالات الغناء والتمثيل أولاً ، ثم في مجال كرة القدم لاحقاً .
هذه الجهود المكثفة والمدعومة من جهات خارجية بالتمويل والإنتاج والتوزيع استطاعت خلال عقدين من الزمن أن تغير البيئة السائدة تغييراً جذرياً ؛ حتى كادت المساجد - في بلاد إنتاجها - أن تخلو من المصلين ، وحتى خلع أكثر النساء الحجاب اضطراراً ؛ لكيلا يوصموا بالرجعية والتخلف ، بل وصل الأمر إلى أن صار النقاب - عندهم - شعاراً للعاهرات يستترن به من سوء أفعالهن ، فنبذه العفيفات كيلا يظن بهم السوء .
وزاد الطين بلة أن اتخذه الممثلون الرجال وسيلة للتخفي والإفلات من أيدي رجال الشرطة في أفلام الإجرام ، فزاد من وضع الارتياب بكل من يلبس لباس الحشمة الكاملة .
وكان منتجو الأفلام العاهرة يدندنون حول تهوين أمر الفاحشة ، وتقريب خطوات الشيطان إليها ، واختراع أنواع الحيل المقربة إلى حدوثها ، ولجؤوا لتحقيق ذلك المأرب إلى تذويب الخوف من الزنا والفضيحة والعهر بما أسموه العقد العرفي ؛ فيما إذا اتخذ الأهل موقفاً مضاداً من رغبة بناتهم الزواج ممن أحبوهم من زملائهم في الدراسة أو العمل ونحوهم .
فما على البنت الهائمة بحب الشاب المرفوضة خطبته من أهل الفتاة إلا أن تهرب معه إلى المدينة ، ويعقدا قرانهما لدى بعض أشباه القوادين ممن نصب نفسه مأذوناً بلا ترخيصٍ نظامي ولا تأهيلِ شرعي .
لقد كثرت هذه الأحداث في الأفلام العربية ، وشاع خبرها بين الفتيان والفتيات في جميع الدول العربية ، ولجأ إليها بعضهم فعلاً أو تهديداً لأهليهم ؛ للحيلولة دون الوقوف أمام رغباتهم الجامحة .
وحادثتنا من أغرب وأعجب وأندر حوادث هذا النوع ، وملخصها كما يلي :-
= الشاب : فتى في الخامسة والعشرين من عمره ، مكتمل الشباب والحيوية والوسامة ، وعلى خلقٍ رفيعٍ جداً ، من أسرة متوسطة الحال ، تخرج في قسم الإدارة من إحدى جامعات المملكة ، ولم يعمل في القطاع العام ، بل اتجه على الفور إلى افتتاح مؤسسة مقاولات ، وشق طريقه بجهدٍ بالغٍ وصبرٍ فريدٍ نحو المال والشهرة .
= الفتاة : في الثامنة عشرة من عمرها ، ذات حظٍ وافرٍ من الجمال الظاهر عليها ، من أسرةٍ غنيةٍ جداً لها مكانتها ووزنها الاجتماعي والمالي ، والدتها من رعايا إحدى الدول العربية ، وتعيش مع والديها خارج المملكة أغلب أيام السنة ؛ لارتباط والدها بتجارته الخارجية .
= في مطلع العام 1407هـ تقدم الشاب لخطبة الفتاة ، فوافق والدها على الفور ، وقبض مهر ابنته ، وعندما أخبر أخاه بالخبر ثارت ثائرة ابن أخيه وزوج ابنته الكبرى ، وطلب من عمه إلغاء الزواج على الفور .
= أصرت الفتاة ووالدتها على قبول الخاطب ، ولم يتعجل والد الفتاة برفض الخاطب مع شدة حرصه على رضى ابن أخيه .
= عندما هدد ابن الأخ بطلاق زوجته - شقيقة الفتاة المخطوبة في حال إتمام الزواج - استجاب والد الفتاة لتلك الضغوط العائلية ، واستدعى الشاب وأعاد له مهره ، ولم يكن قد عقد له بعد ، ولم يكن ثمة سببٌ مقنعٌ للرفض غير المستوى المالي المتواضع الذي يرزح تحته الخاطب وأهله .
= خلال مدة الشد والجذب بين والد الفتاة وابن أخيه - وقبل رفض الخطبة رسمياً - كانت العلاقة العاطفية بين الخاطب ومخطوبته قد ازدادت توثقاً ومتانة ، ولذا لم يستجب الشاب للرفض غير المسبب ، وكذلك الفتاة مما اضطر والد الفتاة إلى شكاية الشاب لدى الحاكم الإداري مرتين ، في كل مرة يؤخذ عليه التعهد بعدم التعرض للفتاة ولا الاتصال بذويها لا حاضراً ولا مستقبلاً .
= غادرت الفتاة ووالديها البلاد إلى سكنهم خارج المملكة ، وما هي إلا أيام حتى لحق بهم الشاب ، واتصل بالفتاة على حين غفلة من أهلها ، واستعان بطبيبةٍ نفسيةٍ لتذليل صعوبات إقناع الفتاة بالتمرُّد على أهلها وكسر حواجز الخوف لديها ، فتمكنت الطبيبة من إنجاز مهمتها ، وأمكن الشاب أن يعقد على الفتاة عقداً عرفياً - كما زعم - استطاع بموجبه الدخول بها .
= لم يتوقف دهاء الشاب عند هذا الحد ، بل اخترع قصة لتثبيت العقد العرفي ؛ مفادها : أن جعل الفتاة تقيم عليه دعوى بطلب تثبيت العقد لها عليه بحجة حملها منه ، وأنها في الشهر الرابع !!!، فاستجابت المحكمة - هناك - لهذه الدعوى بعد الإطلاع على تقريرٍ طبيٍ مزورٍ يشهد بحصول الحمل وعمره ، مع أن الاتصال بين الشاب والفتاة - وقتها - لم يتجاوز بضعة أيام .
= استمر الشاب في إحكام ربط علاقته بالفتاة وتوثيقها بأن دفع رسماً إضافياً للمحكمة - هناك - حتى يكتسب القرار الصفة القطعية ، فلا يقبل الطعن فيه من أولياء فتاته .
= اضطر الشاب لتغييب فتاته عن أهلها مدة تسعة أيام ؛ لإنجاز هذه المهمة الخطيئة بخطواتها الثلاث السالفة .
= كان والد الفتاة وإخوانها - خلال التسعة الأيام - في حالة يُرثى لها ، اتصل - خلالها - الأب بالسفير السعودي ؛ للمشاركة في البحث عن ابنته ، فسخَّر السفير إمكانات السفارة وعلاقاتها بمسؤولي تلك الدولة في البحث عن البنت ، غير أن ذلك كله لم يجد شيئاً .
= عندما أكمل الشاب تحصينات عقده على الفتاة اتصل بوالدها ، وأخبره بحاله مع ابنته ، فأبلغ الأب معالي السفير بالخبر ، فأمره بالترحيب بالأمر ، ومهادنة الشاب الغازي ، وإظهار القبول بالأمر الواقع .
= أتقن الأب التمثيل على الزوج ، واستقبله في منزله استقبال الفاتحين ، وأولم له بحضور جميع أفراد أسرته ، وأظهر الفرح بهذا الارتباط مدة ثلاثة أيامٍ بلياليها ، بل وصل الأمر بأن أمر الأب أحد أبنائه بإيصال الفتاة إلى سكن زوجها كل ليلة ؛ بعد الأيام الثلاثة الأولى من تبليغهم خبر العقد .
= كان حتماً أن تتغلب حكمة الشيوخ على دهاء الشباب في نهاية الأمر ، فبعد أن اطمأن الشاب لوضعه مع فتاته أمام أسرتها : طلب الأب من الشاب وابنته أن يسبقوهما بالسفر إلى المملكة ؛ لإتمام الفرح هناك رسمياً ، وأمام أسرتيهما ، فغادرا فرحين بهذه النتيجة السارة .
= أقام الشابان في الفندق ليلتين بعد وصولهما ، وفي اليوم الثالث ظهرت باكورة ثمار تعاضد الأب - هناك - مع صهره الأكبر - هنا - ، ومن خلال التنسيق المحكم بين معالي السفير - هناك - والحاكم الإداري - هنا - ، فانتهى الأمر بكل واحدٍ من الشابين في زنزانةٍ مدة عشرة أيام .
= لم يدخر الشاب وسعاً لاسترضاء والد الفتاة ، وكذلك هي لم تأل جهداً في استعطاف والديها طيلة أيام احتجازهما بلا فائدة .
= سُلِّمت الفتاة لوالدها ، وأُخرج الشاب بالكفالة ، وأُحيل الجميع إلى المحكمة ، وكُنت المبتلى بنظر هذه الدعوى . والله المستعان
= ابتدأت نظر القضية وحكمت فيها خلال جلسةٍ واحدة في 7/ 4/ 1409هـ ، وكان - مما جاء في المرافعة - الآتي :
أولاً : قصر الأب مطالبته على فسخ العقد الذي يحمله الشاب ، ولم يطلب غير ذلك .
ثانياً : صدَّق الشاب كل ما ذكره المدعي ، واكتفى بالقول : بأنه كان مكرهاً على رفض الخطبة من صهره الأكبر ، وأنه ما فعل فعلته الخاطئة إلا بعد أن لمس من المدعي وزوجته الموافقة على طلبه .
ثالثاً/ استشهد الشاب على حصول الموافقة من الأب بما أظهره الأب من ترحيبٍ به وبفتاته أثناء استدراجهما .
رابعاً : حاول الشاب التأثير على المدعي بتوسيط عددٍ من المشايخ والأعيان دون جدوى .
خامساً : كان على المحكمة ترغيب المدعى عليه في حسم الأمر ؛ حرصاً على حسن علاقة فتاته بأهلها ، فأبى الإذعان لطلب المدعي ، واعتذر بمحبته للفتاة ومحبتها له ؛ الأمر الذي يحتم عليهما عدم الانفصال عن بعضهما .
سادساً : حاول الشاب الاستشهاد بفتاوى مكتوبةٍ لمشايخ مذهبه تجيز عقد الفتاة لنفسها دون وليها ، وبعد التحري عن تلك الفتاوى أفاد مُفتوها بعدم صحة هذه الفتاوى ، وأن الأمر موكولٌ للمحكمة .
سابعاً : استندت المحكمة - هناك - لتثبيت العقد العرفي على حصول الحمل فقط ، ولم تستند على أن هناك عقداً مستوفٍ أركانه وشروطه المعتبرة شرعاً ؛ مما يعني : عدم اعتداد المحكمة - هناك - بالعقد العرفي أصلاً ، وهذا - ولاشك - تقصيرٌ ظاهر ومخالفةٌ واضحة ، فالحمل وحده لا يُصحح العلاقة الزوجية الباطلة ، ولا يجعل الحرام حلالاً ، بخلاف العقود ذات الإيجاب والقبول ؛ ولو كانت معيبة ؛ فإن الفاسد من العقود متى اتصل به القبض أو المباشرة صح ولزم .
ثامناً : كانت الأحاديث الصحيحة مستند القول ببطلان مثل هذه العقود ، ومنها :
- ما صحَّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ ) رواه الخمسة إلا النسائي
- وما صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ ، وَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ ) .
= صدر الحكم بإبطال هذا النكاح ، وإفهام الفتاة بأن عليها العدة الشرعية ، وأن لا تمكن المدعى عليه من نفسها لكونها لا تحل له إلا بعقد صحيح ومهر جديد .
= صدق الحكم من محكمة التمييز بقرارها ذي الرقم 271/ أش المؤرخ في 12/ 5/ 1409هـ .
= وضعت الفتاة بنتاً بعد ثمانية أشهر من التفريق بينها وبين فتاها ، وسُلمت الوليدة للشاب بحكم كونه والداً لها ؛ بإقراره ، ولشبهة ذلك الحكم القضائي القاصر .
والتشريع القضائي المطلوب هو التالي :-
1/ التأكيد على دور الإعلام في تنفير المجتمع من التصرفات الرعناء المؤثرة على بِنية المجتمع المسلم .
2/ الاهتمام بما ينفع الناس في مضامين المقررات الدراسية للبنين والبنات ، وتقديمه على البِناء الثقافي المجرد ، فالأهم أولى من المهم .
3/ التركيز على الثقافة الشرعية والقانونية في أمور الجرائم والجنح ، والتخويف من عواقبها وآثارها المدمرة للأفراد والأسر .
4/ إعطاء الجوانب الروحية والسلوكية الأهمية المناسبة في جوانب التربية ، وغرس تلك المبادئ السامية في نفوس الناشئة ؛ بوضع الخطط والبرامج للأنشطة المدرسية ؛ لتتضمن الزيارات التوعوية للمستشفيات والسجون من أجل أخذ العبرة والموعظة .
5/ تشديد الرقابة على الأولاد في سنوات المراهقة ؛ حيث ينشط التمرد والطيش ، وتتفجر الطاقات الطبيعية ، فيسهل على كل منحرفٍ اصطيادُ هؤلاء الأغرار بالوعود الزائفة ، وإغواؤهم بكل وسائل الاستغفال المتوافرة .
6/ سَنُّ العقوبات الرادعة على مستدرجي الفتيات المراهقات ، وإشهار تلك العقوبات ؛ لتكون رادعاً لمن يقترف تلك الخطايا ، وزاجراً لمن تراوده نفسه اقترافها .
7/ نشر المراكز الاجتماعية في الأحياء ، وإعطائها الصلاحيات المناسبة في سبيل القيام بمهامها الرائدة .
8/ الإسراع في إنشاء قضاء ما قبل الحكم ( قضاء الصلح ) ، لتقليص أسباب الخلاف ، وقطع طرق الشر والفساد والإفساد بين أفراد المجتمع المحافظ . والله أعلم وأحكم
-
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
عدد التعليقات : 1 | عدد القراء : 5215 | تأريخ النشر : الأربعاء 19 جمادى الآخرة 1431هـ الموافق 2 يونيو 2010مإرسال المقالة
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق
|
|||
|
|
|||
|
|
|||
|
تأريخ النشر: الجمعة 19 جمادى الأولى 1432هـ الموافق 22 أبريل 2011مسيحية
طباعة التعليق