نشرت في صحيفة الوطن

قضائيات إن الاختلاف في أحكام الفقه الإسلامي كغيره من الاختلافات في سائر الفنون ينقسم إلى نوعين : اختلاف تضاد ، واختلاف تنوع .

واختلاف التضاد/ مثل أن يقول الفقيه عن شيءٍ : أنه حرام ، ويقول الآخر عن ذات الشيء : أنه واجب .

أما اختلاف التنوع/ فمثل الاختلاف الحاصل بين الفقهاء في تحديد تسبيحات الركوع والسجود ، والتشهد في الصلاة ، ووضع اليدين حال الوقوف ، ومنه : الاختلاف في تفسير مفردات الآيات وأحاديث الأحكام .

- ويرى كثير من العلماء : أن أغلب الاختلافات الفقهية من النوع الأخير ، فلا تكاد ترى من اختلافات الفقهاء المتضادة إلا النزر اليسير بالنظر إلى الكم الهائل من الأحكام الفقهية .

- ولأن الغاية من مشروعية القضاء في كل ملة هي : الفصل في الخصومات والإلزام بها - كان لابد لأحكام القضاة من أن تكون مضبوطةً منسجمةً مع ما يماثلها ، فلا يصدر حكمٌ لرجلٍ من قاضٍ ما ، ليأتيَ قاضٍ آخر فيحكم عليه في قضيةٍ مماثلة .


= وحتى يتبين لنا أهمية هذا الأمر فعلينا أن نتأمل هذه القصة الافتراضية :-
زيد وعمرو أخوان شقيقان ، ويشتركان في كل ما لهما من حطام الدنيا ، وقد توفيا في حادث سيارة ، وليس لهما من القرابة غير جدهما لأبيهما وأربعة إخوة أشقاء .

- تقدم قرابتهما بطلب حصر إرث كلٍ من الأخوين ( زيد وعمرو ) ، فأحيل طلب حصر إرث زيد إلى القاضي الأول ، وأحيل حصر إرث عمرو إلى القاضي الثاني.

- القاضي الأول: أسقط الإخوة، وأعطى الجد لأب جميع المال. أما القاضي الثاني: فأعطى الجد ثلث المال فقط، وهو الأحظ له ، وأعطى الإخوة بقية المال .

- اعترض الإخوة على حكم القاضي الأول ، واعترض الجد على حكم القاضي الثاني ، فأحيلت القضيتان إلى محكمة الاستئناف ، ثم أحيل حكم الأول إلى الدائرة الأولى ، وأحيل حكم الثاني إلى الدائرة الثانية .


= إن موقف دائرتي محكمة الاستئناف لا يخلو من ثلاث حالات :-

الحال الأولى/ أن تؤيد إحدى الدائرتين الحكم المعروض عليها ، وتتفق معها الدائرة الأخرى في اجتهادها ، فتنقض الحكم المعروض عليها ، وتحكم بخلافه .

- وفي هذه الحال : تكون الدائرة الناقضة للحكم المخالف في نظرها قد رأت التقنين والإلزام للرأي الذي رجحته على خلاف رأي القاضي الابتدائي .

الحال الثانية/ أن تنقض كل دائرة الحكم المعروض عليها ، فينقلب حال الورثة - في القضيتين - رأساً على عقب ، غير أن الاختلاف يظل باقياً بين الحكمين .

الحال الثالثة/ أن تؤيد كل دائرة الحكم المعروض عليها ، فيبقى الاختلاف قائماً بين الحكمين .

- وفي هاتين الحالين لابد من عرض الأمر على المحكمة العليا بناءً على المادتين (13) ، (14) من نظام القضاء ، وهناك: لابد للمحكمة العليا من اختيار أحد الحكمين ، وتقرير مبدأ عام بشأنه ، ونبذ الحكم الآخر ، ومثل هذا يُعَدُّ : تقنيناً وإلزاماً .


= إن تقنين جميع الأحكام القضائية - باختيار أحد الأقوال في كل مسألة خلافية - إلزام بالأخذ به ، فكان لابد لطرح هذا الإلزام من ذكر كل الأقوال في المسألة الواحدة .

- غير أن ذكر جميع الآراء في كل مسألة سيجعل القانون مبعث حيرة وتردد ، وسيدفع بالقاضي إلى التخبط في انتقاء الرأي المناسب ما لم يتضمن القانون بيان ما يصح من كل تلك الأقوال ، وتوجيه أدلته ، وما لا يصح منها ، والرد على شبهته .

- عندها سيخرج القانون عن إطاره ، ليكون موسوعة فقهية لا قانوناً ، ثم إن ألزمنا القضاة بما رجحناه وقعنا فيما فررنا منه ، وإن تركنا الاختيار للقاضي عدنا من حيث بدأنا ، ولم يكن لترجيحنا مزيد فائدة .


= من كل ما تقدم نقطع بـ :-

- أن التقنين بلا إلزام عبث ومضيعة للوقت وتكرار لما هو موجود بين أيدينا اليوم من مراجع ومصادر وبحوث ؛ يجمعها أحدنا من ههنا وههنا ، ليقول : مؤلفها أنا .

- أن التقنين بلا إلزام مدعاة لأن يفجأنا قاضٍ بالحكم بصحة عقد التورق ، ثم يتحول عنه لاحقاً إلى ما يخالفه بحجة : ذاك على ما قضينا ، وهذا على ما نقض .

- أن التقنين بلا إلزام يجعل دماء الناس وأعراضهم وأموالهم رهناً بأيدي رجال يرون اليوم ما يرغبون عنه غداً ؛ بلا ضابط ولا رابط ؛ فيكون الرأس من المقاتل تارة دون تارة ، وضربه موجب للقصاص حيناً ، وغير موجب له حيناً أخرى .

- أن التقنين بلا إلزام سيفتح الباب على مصراعيه لمداخل الشيطان على القضاة ، فيقضي أحدهم بالشفعة للجار مرة ، ولا يقضي له بها مرة أخرى ؛ وإن كان بينهما طريق مشترك .

- أن التقنين بلا إلزام سيغلق الباب أمام الشركات المحلية والعالمية فلا تُقدم على الاستثمار في بلادٍ قانونها في رؤوس قضاتها ؛ يشرقون به ويغربون كيفما شاؤوا .

- أن التقنين بلا إلزام يمنع من توقع الحكم ؛ فيستمرئ الظالم جرمه ؛ لأنه يطمع في أن يختار القاضي من أقوال المسألة ما يوافق هواه ، وييأس المظلوم من وصول حقه إليه ؛ لخشيته أن يختار القاضي من أقوال المسألة ما لا يؤيد مطلبه ، فتتضاعف معاناته وتزداد خسائره .


= ليس لنا أمام آلاف القضايا المعروضة يومياً على المحاكم العدلية والإدارية وأخواتهما إلا أن نقنن الأحكام القضائية كلها ، ونلزم القضاة بما نقننه لهم من أحكام ، فنسلم من اختلاف الآراء ، ومن تعدد الاجتهادات ، وتنافر التوجهات ، وتقلب الأمزجة .


= فإن قال قائل : ما الذي يبقى للقاضي بعد التقنين والإلزام ؟.

- فالجواب أن يقال : إن وظيفة القاضي الحقة هي إدارة دفة القضية ؛ من حين وصول القضية إلى مكتبه ، وحتى قفل باب المرافعة فيها ؛ ولأن إدارة دفة القضية تشكل تسعين في المائة من الوظيفة القضائية ؛ فلن يبقى سوى عشرة في المائة من وظيفة القاضي فقط لانتقاء الحكم المناسب لحسمها ، وبذا يكون تقنين الأحكام سبباً لحفظ جهد القاضي في تجهيزه القضية للحكم .


= فلو أن قاضياً أحسن إدارة دفة القضية ، ثم أساء في اختيار الحكم : لكان في فعله هذا ثلاث طوام ؛ كل واحدة شر من أختها ، وهي على التوالي :-

الطامة الأولى/ الإهدار المؤسف لكل جهدٍ بذله أثناء نظره القضية .

الطامة الثانية/ التسليط الأليم لجهات التدقيق على الحكم بالتعديل أو النقض .

الطامة الثالثة/ الوقوع في التناقض الذي ينأى عنه العقلاء ؛ إذ كيف يقال : لا إلزام ، ونحن لا نزال نرى قرارات الاستدراك على أحكام القضاة تكاد تصل إلى النصف مما يدقق من الأحكام .


= على أنه لا ينبغي لعاقلٍ أن يغفل عما توفره القوانين من مساحات كافية لاجتهادات القضاة فيما لا يمكن للقانون تحديده ؛ إما : بحكم كونه من المتغيرات ، أو : لأنه مما يخضع لأحكام العادات والأعراف ، أو : لدخوله في حدود السلطة التقديرية اللازمة لكل قاض . والله الموفق


http://www.cojss.com/vb/showthread.php?p=29829

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 4912 | تأريخ النشر : الأحد 7 رمضان 1432هـ الموافق 7 أغسطس 2011م

طباعة المقال

إرسال المقالة
(( حكم الإلزام بالتقنين )) إن الاختلاف في أحكام الفقه الإسلامي كغيره من الاختلافات في سائر الفنون ينقسم إلى نوعين : اختلاف تضاد ، واختلاف تنوع . واختلاف التضاد/ مثل أن يقول الفقيه عن شيء : أنه حرام ، ويقول الآخر عن ذات الشيء : أنه واجب . أما اختلاف التنوع/ فمثل الاختلاف الحاصل بين الفقهاء في تحديد تسبيحات الركوع والسجود ، والتشهد في الصلاة ، ووضع اليدين حال الوقوف ، ومنه : الاختلاف في تفسير مفردات الآيات وأحاديث الأحكام . - ويرى كثير من العلماء : أن أغلب الاختلافات الفقهية من النوع الأخير ، فلا تكاد ترى من اختلافات الفقهاء المتضادة إلا النزر اليسير بالنظر إلى الكم الهائل من الأحكام الفقهية . - ولأن الغاية من مشروعية القضاء في كل ملة هي : الفصل في الخصومات والإلزام بها - كان لابد لأحكام القضاة من أن تكون مضبوطة منسجمة مع ما يماثلها ، فلا يصدر حكم لرجل من قاض ما ، ليأتي قاض آخر فيحكم عليه في قضية مماثلة . = وحتى يتبين لنا أهمية هذا الأمر فعلينا أن نتأمل هذه القصة الافتراضية :- زيد وعمرو أخوان شقيقان ، ويشتركان في كل ما لهما من حطام الدنيا ، وقد توفيا في حادث سيارة ، وليس لهما من القرابة غير جدهما لأبيهما وأربعة إخوة أشقاء . - تقدم قرابتهما بطلب حصر إرث كل من الأخوين ( زيد وعمرو ) ، فأحيل طلب حصر إرث زيد إلى القاضي الأول ، وأحيل حصر إرث عمرو إلى القاضي الثاني. - القاضي الأول: أسقط الإخوة، وأعطى الجد لأب جميع المال. أما القاضي الثاني: فأعطى الجد ثلث المال فقط، وهو الأحظ له ، وأعطى الإخوة بقية المال . - اعترض الإخوة على حكم القاضي الأول ، واعترض الجد على حكم القاضي الثاني ، فأحيلت القضيتان إلى محكمة الاستئناف ، ثم أحيل حكم الأول إلى الدائرة الأولى ، وأحيل حكم الثاني إلى الدائرة الثانية . = إن موقف دائرتي محكمة الاستئناف لا يخلو من ثلاث حالات :- الحال الأولى/ أن تؤيد إحدى الدائرتين الحكم المعروض عليها ، وتتفق معها الدائرة الأخرى في اجتهادها ، فتنقض الحكم المعروض عليها ، وتحكم بخلافه . - وفي هذه الحال : تكون الدائرة الناقضة للحكم المخالف في نظرها قد رأت التقنين والإلزام للرأي الذي رجحته على خلاف رأي القاضي الابتدائي . الحال الثانية/ أن تنقض كل دائرة الحكم المعروض عليها ، فينقلب حال الورثة - في القضيتين - رأسا على عقب ، غير أن الاختلاف يظل باقيا بين الحكمين . الحال الثالثة/ أن تؤيد كل دائرة الحكم المعروض عليها ، فيبقى الاختلاف قائما بين الحكمين . - وفي هاتين الحالين لابد من عرض الأمر على المحكمة العليا بناء على المادتين (13) ، (14) من نظام القضاء ، وهناك: لابد للمحكمة العليا من اختيار أحد الحكمين ، وتقرير مبدأ عام بشأنه ، ونبذ الحكم الآخر ، ومثل هذا يعد : تقنينا وإلزاما . = إن تقنين جميع الأحكام القضائية - باختيار أحد الأقوال في كل مسألة خلافية - إلزام بالأخذ به ، فكان لابد لطرح هذا الإلزام من ذكر كل الأقوال في المسألة الواحدة . - غير أن ذكر جميع الآراء في كل مسألة سيجعل القانون مبعث حيرة وتردد ، وسيدفع بالقاضي إلى التخبط في انتقاء الرأي المناسب ما لم يتضمن القانون بيان ما يصح من كل تلك الأقوال ، وتوجيه أدلته ، وما لا يصح منها ، والرد على شبهته . - عندها سيخرج القانون عن إطاره ، ليكون موسوعة فقهية لا قانونا ، ثم إن ألزمنا القضاة بما رجحناه وقعنا فيما فررنا منه ، وإن تركنا الاختيار للقاضي عدنا من حيث بدأنا ، ولم يكن لترجيحنا مزيد فائدة . = من كل ما تقدم نقطع بـ :- - أن التقنين بلا إلزام عبث ومضيعة للوقت وتكرار لما هو موجود بين أيدينا اليوم من مراجع ومصادر وبحوث ؛ يجمعها أحدنا من ههنا وههنا ، ليقول : مؤلفها أنا . - أن التقنين بلا إلزام مدعاة لأن يفجأنا قاض بالحكم بصحة عقد التورق ، ثم يتحول عنه لاحقا إلى ما يخالفه بحجة : ذاك على ما قضينا ، وهذا على ما نقض . - أن التقنين بلا إلزام يجعل دماء الناس وأعراضهم وأموالهم رهنا بأيدي رجال يرون اليوم ما يرغبون عنه غدا ؛ بلا ضابط ولا رابط ؛ فيكون الرأس من المقاتل تارة دون تارة ، وضربه موجب للقصاص حينا ، وغير موجب له حينا أخرى . - أن التقنين بلا إلزام سيفتح الباب على مصراعيه لمداخل الشيطان على القضاة ، فيقضي أحدهم بالشفعة للجار مرة ، ولا يقضي له بها مرة أخرى ؛ وإن كان بينهما طريق مشترك . - أن التقنين بلا إلزام سيغلق الباب أمام الشركات المحلية والعالمية فلا تقدم على الاستثمار في بلاد قانونها في رؤوس قضاتها ؛ يشرقون به ويغربون كيفما شاؤوا . - أن التقنين بلا إلزام يمنع من توقع الحكم ؛ فيستمرئ الظالم جرمه ؛ لأنه يطمع في أن يختار القاضي من أقوال المسألة ما يوافق هواه ، وييأس المظلوم من وصول حقه إليه ؛ لخشيته أن يختار القاضي من أقوال المسألة ما لا يؤيد مطلبه ، فتتضاعف معاناته وتزداد خسائره . = ليس لنا أمام آلاف القضايا المعروضة يوميا على المحاكم العدلية والإدارية وأخواتهما إلا أن نقنن الأحكام القضائية كلها ، ونلزم القضاة بما نقننه لهم من أحكام ، فنسلم من اختلاف الآراء ، ومن تعدد الاجتهادات ، وتنافر التوجهات ، وتقلب الأمزجة . = فإن قال قائل : ما الذي يبقى للقاضي بعد التقنين والإلزام ؟. - فالجواب أن يقال : إن وظيفة القاضي الحقة هي إدارة دفة القضية ؛ من حين وصول القضية إلى مكتبه ، وحتى قفل باب المرافعة فيها ؛ ولأن إدارة دفة القضية تشكل تسعين في المائة من الوظيفة القضائية ؛ فلن يبقى سوى عشرة في المائة من وظيفة القاضي فقط لانتقاء الحكم المناسب لحسمها ، وبذا يكون تقنين الأحكام سببا لحفظ جهد القاضي في تجهيزه القضية للحكم . = فلو أن قاضيا أحسن إدارة دفة القضية ، ثم أساء في اختيار الحكم : لكان في فعله هذا ثلاث طوام ؛ كل واحدة شر من أختها ، وهي على التوالي :- الطامة الأولى/ الإهدار المؤسف لكل جهد بذله أثناء نظره القضية . الطامة الثانية/ التسليط الأليم لجهات التدقيق على الحكم بالتعديل أو النقض . الطامة الثالثة/ الوقوع في التناقض الذي ينأى عنه العقلاء ؛ إذ كيف يقال : لا إلزام ، ونحن لا نزال نرى قرارات الاستدراك على أحكام القضاة تكاد تصل إلى النصف مما يدقق من الأحكام . = على أنه لا ينبغي لعاقل أن يغفل عما توفره القوانين من مساحات كافية لاجتهادات القضاة فيما لا يمكن للقانون تحديده ؛ إما : بحكم كونه من المتغيرات ، أو : لأنه مما يخضع لأحكام العادات والأعراف ، أو : لدخوله في حدود السلطة التقديرية اللازمة لكل قاض . والله الموفق http://www.cojss.com/vb/showthread.php?p=29829
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع