نشرت في مجلة اليمامة العدد 1918 - وصحيفة اليوم العدد 12324

قضائيات استقلالية القضاء مبدأٌ هامٌ من مبادئ ضمان نزاهة وشرف القضاء ، ويظهر أنه يُطلق ويُراد به أمران :-
الأول / من جهة القاضي نفسه . ويعني : التجرُّدَ والحياد ، وعدمَ التبعيَّةِ أو التحيُّزِ .

الثاني / من جهة كلِّ ذي سُلطة ، وهو أهم مرادات مصطلح ( استقلال القضاء ) ، ويعني : عدمَ الهيمنةِ والتسلُّطِ على رجال القضاء أو التَّدَخُّلِ في قضائهم .

ولذلك جاءت المادة الأولى من نظام القضاء السعودي الصادر عام 1395هـ بما نصه ( القضاة مستقلون ؛ لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية ، وليس لأحدٍ التدخلَ في القضاء ) .

بل صدرت الأوامر السامية الكريمة بمنع سحب المعاملات - من أيِّ جهةٍ كانت - بعد ورودها إلى القاضي حتى صدور الحكم فيها ؛ قطعاً للطريق على من يريد : تعطيل نظر الدعاوى ، أو : تأخير صدور الحكم في قضيةٍ ما . وهذا المنع تأكيدٌ لمبدأ الاستقلالية ، ومنعٌ من المعوقات الحسية لتحقيق العدل وقطع الخصومات بين الناس .

غير أن ما لا يمكن السيطرة عليه بالنظام ، هي : المعوقات المعنوية التي لا حصر لها ، والتي يخاف القضاة عادة من التعرض لها إذا لم يستجبوا لذلك التدخل المحظور في عملهم القضائي ؛ كأن : يخشى القاضي نقلاً تعسفياً ، أو : تأجيلَ النظر في طلبه النقل ، أو : تأخيرَ ترقيةٍ مستحقة ، أو : عدمَ تلبية طلبات احتياجات محكمته أو مكتبه ، أو : إرهاقه بكثرة طلبات الإفادة عن قضاياه مما يعطل نظره ما بين يديه ، أو بانتقاء أعقد القضايا لإحالتها إليه من بين زملائه ، أو : تقويضَ مكانته بين زملائه ومراجعيه باستهداف أحكامه بالملحوظات الهامشية ، أو : بتكثيف حملات التفتيش عليه لأدنى عارض ، ونحو ذلك .

بل إن شعور القاضي بعدم الأمن على نفسه حال نظره الدعوى ، وعدم اطمئنانه على عمله ومستقبله - متى رفض وساطةً أو توجيهاً يحرف مسار الحكم الذي كان سيصدره في القضية - كل ذلك يجعله ضعيفاً ؛ وإن تمالك نفسه وتحامل عليها وطلب المثالية ؛ ما دامت الجهات المتدخلة في عمله تجترئ على مخالفة أنظمة الدولة ، الأمر الذي يجعلها تجترئ على الإضرار به بأي وجهٍ من وجوه الإضرار السابق ذكرها ، أو غيرها مما يمكن ابتكاره من جهات التدخل .

وسواء : كان المتدخل فرداً أو جهة حكومية ، وسواء : في ذلك مرجع القاضي أو غيرهم .

وأهم مراحل تأمين استقلال القاضي ما كان قبل الحكم في القضية ، أما إذا صدر الحكم فإن لجهات الاختصاص حق الاعتراض على الحكم وطلب تدقيقه ، كما أن لجهات التدقيق إبداء ملحوظاتهم تجاه الحكم حسب النظام ، مع الإبقاء على الضمانات التي تمنع أيَّ تسلطٍ عليه كما في المادة أعلاه .

وقد فطن العقلاء من جميع الأمم إلى أهمية استقلال القضاء لضمان سير العدالة ولحفظ الحقوق وتحقيق الأمن في المجتمع ، فضمنوا دساتيرهم ذلك الأمر ، بل إنهم ذكروا : أن فصل السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية لازمٌ لتحقيق الاستقلالية المنشودة .

بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك بقول أحد منظريهم ما نصه (( لا وجود للحرية دون فصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ، وما على الحرية أن تخشى أيَّ أمرٍ يتعلق بالنظام القضائي بمفرده ، لكن عليها أن تخشى كلَّ أمرٍ إذا ما اتحد القضاءُ مع أيٍ من السلطتين الأخريين )) .

ومما تضمنه إعلان القاهرة حول استقلال القضاء ، الصادر عن المؤتمر الثاني للعدالة العربية (( أن النظام القضائي المستقل يُشكّل الدعامة الرئيسة لدعم الحريات المدنية ، وحقوق الإنسان ، وعمليات التطوير الشاملة ، والإصلاحات في أنظمة التجارة والاستثمار ، والتعاون الاقتصادي الإقليمي والدولي )) .

ودرع الوقاية من التعرض لمبدأ استقلالية القاضي هو ( النزاهة والعفاف ) ، وتسمى في مفردات العلوم الحديثة ( الرقابة الذاتية ) ، ومبعثها : الخوف من الله إن حاد القاضي عن طريق الحق ، والرجاء فيما عند الله إن قضى بالعدل ؛ ولو على ذي سلطان .

ويعبر عن ذلك السلف الصالح عند ذكر شروط تولي القضاء حيث يقولون (( لا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَاضِيًا حَتَّى تَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ : عَفِيفٌ , حَلِيمٌ , عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ , يَسْتَشِيرُ ذَوِي الأَلْبَابِ , لا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ )) .

وهذا يؤكد لزوم وضع ضوابط دقيقةٍ لتعيين القضاة ، ونقلهم ، أو ترقيتهم ؛ بحيث تبعث على الطمأنينة من الاختيار لمصلحة المجتمع .

وإنَّ عدمَ وجود الضوابط المطلوبة ، وكونَ مبعثِ القرارات مصلحةَ القاضي أو مصلحةَ جهة الاختيار : هو الخلل بعينه ؛ الذي ينخر في جهاز القضاء ، ويزلزل أركان حيادية القاضي وتجرده واستقلاله ، ويحقق تبعيته وتحيزه وانقياده لمن ظنه قد أحسن إليه ؛ ما دامت المصالح الذاتية القاصرة هي مبعث القرارات المصيرية المتعدية إلى جميع أفراد ومصالح المجتمع . فقديماً قيل : لطالما استعبد الإنسان إحسان .

ويمكن تلخيص السبل الكفيلة بترسيخ استقلال القضاء والقضاة في الآتي :-
1/ أمن القاضي على وظيفته ؛ بحيث لا يخشى الفصل التعسفي ، وهو ما نصت عليه المادة (2) من نظام القضاء ( القضاة غير قابلين للعزل إلا في الحالات المبينة في هذا النظَام ) . والحقُّ أنَّ النظامَ قد كفل هذا المبدأ ، غير أن الباقي على جهات الاختصاص هو حسنُ التطبيق ، كما يلزم تدقيقُ ذلك التطبيق من جهة اعتماده ؛ حرصاً على تحقيق العدالة لأهل العدل ، كما نحرص على تحقيقها منهم ؛ سواءً بسواءٍ .

2/ قطع كل الميزات التي لا يتساوى فيها القضاة مع بعضهم من أيِّ جهةٍ في الدولة ؛ حتى لا تكون سبباً في ضعف تجرد وحيادية القاضي ، فتؤثر على نزاهته وسلامة أحكامه .

3/ تمكين القاضي من الاتصال المباشر بأولي الأمر عند التعرض لما يخل باستقلاله ، ويمكن تأكيد هذا الحق بتكرار إعلانه كل عام ؛ حتى يكون أبلغ في الردع والزجر .

4/ تحديد العقوبات اللازمة لكل من يخل باستقلال القضاء ؛ سواء : من القضاة أنفسهم ، أو من غيرهم ليكون الجميع على بينةٍ من أمرهم . وفق الله الجميع لما يرضيه .

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 9331 | تأريخ النشر : السبت 10 رجب 1427هـ الموافق 5 أغسطس 2006م

اضغط هنا للحصول على صورة المقالة

طباعة المقال

إرسال المقالة
استقلال القضاء استقلالية القضاء مبدأ هام من مبادئ ضمان نزاهة وشرف القضاء ، ويظهر أنه يطلق ويراد به أمران :- الأول / من جهة القاضي نفسه . ويعني : التجرد والحياد ، وعدم التبعية أو التحيز . الثاني / من جهة كل ذي سلطة ، وهو أهم مرادات مصطلح ( استقلال القضاء ) ، ويعني : عدم الهيمنة والتسلط على رجال القضاء أو التدخل في قضائهم . ولذلك جاءت المادة الأولى من نظام القضاء السعودي الصادر عام 1395هـ بما نصه ( القضاة مستقلون ؛ لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية ، وليس لأحد التدخل في القضاء ) . بل صدرت الأوامر السامية الكريمة بمنع سحب المعاملات - من أي جهة كانت - بعد ورودها إلى القاضي حتى صدور الحكم فيها ؛ قطعا للطريق على من يريد : تعطيل نظر الدعاوى ، أو : تأخير صدور الحكم في قضية ما . وهذا المنع تأكيد لمبدأ الاستقلالية ، ومنع من المعوقات الحسية لتحقيق العدل وقطع الخصومات بين الناس . غير أن ما لا يمكن السيطرة عليه بالنظام ، هي : المعوقات المعنوية التي لا حصر لها ، والتي يخاف القضاة عادة من التعرض لها إذا لم يستجبوا لذلك التدخل المحظور في عملهم القضائي ؛ كأن : يخشى القاضي نقلا تعسفيا ، أو : تأجيل النظر في طلبه النقل ، أو : تأخير ترقية مستحقة ، أو : عدم تلبية طلبات احتياجات محكمته أو مكتبه ، أو : إرهاقه بكثرة طلبات الإفادة عن قضاياه مما يعطل نظره ما بين يديه ، أو بانتقاء أعقد القضايا لإحالتها إليه من بين زملائه ، أو : تقويض مكانته بين زملائه ومراجعيه باستهداف أحكامه بالملحوظات الهامشية ، أو : بتكثيف حملات التفتيش عليه لأدنى عارض ، ونحو ذلك . بل إن شعور القاضي بعدم الأمن على نفسه حال نظره الدعوى ، وعدم اطمئنانه على عمله ومستقبله - متى رفض وساطة أو توجيها يحرف مسار الحكم الذي كان سيصدره في القضية - كل ذلك يجعله ضعيفا ؛ وإن تمالك نفسه وتحامل عليها وطلب المثالية ؛ ما دامت الجهات المتدخلة في عمله تجترئ على مخالفة أنظمة الدولة ، الأمر الذي يجعلها تجترئ على الإضرار به بأي وجه من وجوه الإضرار السابق ذكرها ، أو غيرها مما يمكن ابتكاره من جهات التدخل . وسواء : كان المتدخل فردا أو جهة حكومية ، وسواء : في ذلك مرجع القاضي أو غيرهم . وأهم مراحل تأمين استقلال القاضي ما كان قبل الحكم في القضية ، أما إذا صدر الحكم فإن لجهات الاختصاص حق الاعتراض على الحكم وطلب تدقيقه ، كما أن لجهات التدقيق إبداء ملحوظاتهم تجاه الحكم حسب النظام ، مع الإبقاء على الضمانات التي تمنع أي تسلط عليه كما في المادة أعلاه . وقد فطن العقلاء من جميع الأمم إلى أهمية استقلال القضاء لضمان سير العدالة ولحفظ الحقوق وتحقيق الأمن في المجتمع ، فضمنوا دساتيرهم ذلك الأمر ، بل إنهم ذكروا : أن فصل السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية لازم لتحقيق الاستقلالية المنشودة . بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك بقول أحد منظريهم ما نصه (( لا وجود للحرية دون فصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ، وما على الحرية أن تخشى أي أمر يتعلق بالنظام القضائي بمفرده ، لكن عليها أن تخشى كل أمر إذا ما اتحد القضاء مع أي من السلطتين الأخريين )) . ومما تضمنه إعلان القاهرة حول استقلال القضاء ، الصادر عن المؤتمر الثاني للعدالة العربية (( أن النظام القضائي المستقل يشكل الدعامة الرئيسة لدعم الحريات المدنية ، وحقوق الإنسان ، وعمليات التطوير الشاملة ، والإصلاحات في أنظمة التجارة والاستثمار ، والتعاون الاقتصادي الإقليمي والدولي )) . ودرع الوقاية من التعرض لمبدأ استقلالية القاضي هو ( النزاهة والعفاف ) ، وتسمى في مفردات العلوم الحديثة ( الرقابة الذاتية ) ، ومبعثها : الخوف من الله إن حاد القاضي عن طريق الحق ، والرجاء فيما عند الله إن قضى بالعدل ؛ ولو على ذي سلطان . ويعبر عن ذلك السلف الصالح عند ذكر شروط تولي القضاء حيث يقولون (( لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال : عفيف , حليم , عالم بما كان قبله , يستشير ذوي الألباب , لا يخاف في الله لومة لائم )) . وهذا يؤكد لزوم وضع ضوابط دقيقة لتعيين القضاة ، ونقلهم ، أو ترقيتهم ؛ بحيث تبعث على الطمأنينة من الاختيار لمصلحة المجتمع . وإن عدم وجود الضوابط المطلوبة ، وكون مبعث القرارات مصلحة القاضي أو مصلحة جهة الاختيار : هو الخلل بعينه ؛ الذي ينخر في جهاز القضاء ، ويزلزل أركان حيادية القاضي وتجرده واستقلاله ، ويحقق تبعيته وتحيزه وانقياده لمن ظنه قد أحسن إليه ؛ ما دامت المصالح الذاتية القاصرة هي مبعث القرارات المصيرية المتعدية إلى جميع أفراد ومصالح المجتمع . فقديما قيل : لطالما استعبد الإنسان إحسان . ويمكن تلخيص السبل الكفيلة بترسيخ استقلال القضاء والقضاة في الآتي :- 1/ أمن القاضي على وظيفته ؛ بحيث لا يخشى الفصل التعسفي ، وهو ما نصت عليه المادة (2) من نظام القضاء ( القضاة غير قابلين للعزل إلا في الحالات المبينة في هذا النظام ) . والحق أن النظام قد كفل هذا المبدأ ، غير أن الباقي على جهات الاختصاص هو حسن التطبيق ، كما يلزم تدقيق ذلك التطبيق من جهة اعتماده ؛ حرصا على تحقيق العدالة لأهل العدل ، كما نحرص على تحقيقها منهم ؛ سواء بسواء . 2/ قطع كل الميزات التي لا يتساوى فيها القضاة مع بعضهم من أي جهة في الدولة ؛ حتى لا تكون سببا في ضعف تجرد وحيادية القاضي ، فتؤثر على نزاهته وسلامة أحكامه . 3/ تمكين القاضي من الاتصال المباشر بأولي الأمر عند التعرض لما يخل باستقلاله ، ويمكن تأكيد هذا الحق بتكرار إعلانه كل عام ؛ حتى يكون أبلغ في الردع والزجر . 4/ تحديد العقوبات اللازمة لكل من يخل باستقلال القضاء ؛ سواء : من القضاة أنفسهم ، أو من غيرهم ليكون الجميع على بينة من أمرهم . وفق الله الجميع لما يرضيه .
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع