نشرت في صحيفة الوطن العدد 29519

قضائيات إن المملكة العربية السعودية فيما يعرض لها من قضايا الفساد الإداري أو المالي كسائر دول العالم الأخرى؛ ولذلك حرصت الحكومة أيدها الله على إعداد الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، ومن ثم عرضها على مجلس الشورى بحسب الاختصاص التشريعي، ثم إقرارها بالأمر السامي الكريم ذي الرقم (43) المؤرخ في 1/2/1428هـ.

وكانت قضايا الفساد المالي والإداري - قبلذاك- مفرقة في عدد من الدوائر الحكومية؛ مثل: ديوان المراقبة العامة، ودوائر التفتيش في كل وزارة أو مصلحة من المصالح العامة، والمباحث الإدارية، وكان التنسيق بين العديد من الوزارات والمصالح يأخذ وقتاً كبيراً ليتحقق واقعاً ملموساً، مما يمكن ذلك التأخير الفاسدين - خصوصاً الوافدين منهم - من الإفلات قبل إحكام السيطرة عليهم.

ورغبة من القيادة الحكيمة في توحيد الجهة المسؤولة عن قضايا الفساد أسست الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالأمر الملكي الكريم ذي الرقم أ/65 المؤرخ في 13/4/1432هـ، وكان تأسيسها إنجازاً كبيراً على المستويين المحلي والعالمي؛ لتكون ضابط ارتباط يجمع الدوائر المعنية بالتحري أو بالضبط أو التحقيق، وتتحرك خلالها بسلاسة وانسيابية تمنع من إخفاء الأدلة أو هروب أطرافها.

لقد أظهرت القيادة جديتها في إنشاء وتفعيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بما اشتمل عليه الأمر الملكي الكريم من أشد عبارات التأكيد وأقواها في خمس مواقع؛ بانطلاقه أولاً من حكم آية في كتاب الله عز وجل هي قوله تعالى {ولا تبغِ الفسادَ في الأرض إن الله لا يُحب المفسدين}، ثم بربط الهيئة بالملك مباشرة، ثم بالأمر بالإسراع في إعداد تنظيم الهيئة خلال ثلاثة أشهر من تاريخ الأمر الملكي هذا، ثم بالنص على شمولية مهام الهيئة كافة القطاعات الحكومية، وآخرها التأكيد بألا يستثنى من ذلك كائناً من كان.

عقب ذلك أوضح تنظيم الهيئة اختصاصاتها وضوحاً لا يشوبه غموض وبيَّنه بياناً لا يعتريه إجمال، ففي الفقرة الثالثة من المادة الثالثة جاء ما نصه [وللهيئة الاطلاع على مجريات التحقيق ومتابعة سير الإجراءات]، ثم في الفقرة العاشرة من الاختصاصات ورد أن للهيئة [متابعة مدى قيام الجهات المشمولة باختصاصات الهيئة بما يجب عليها إزاء تطبيق الأنظمة المجرِّمة للفساد المالي والإداري، والعمل على تعزيز مبدأ المساءلة لكل شخص مهما كان موقعه].

ثم في الفقرة الثانية من المادة الخامسة من التنظيم جاء ما نصه [على الجهات المشمولة باختصاصات الهيئة والجهات الخاصة المتعاقدة معها تزويد الهيئة بكل ما تطلبه من وثائق وبيانات ومعلومات تتصل بأعمالها]، ثم في الفقرة الثالثة من المادة الخامسة ورد أن على تلك الجهات [تمكين منسوبي الهيئة من تأدية مهامهم، وتزويدهم بما يطلبونه من وثائق وأوراق أو نسخ منها].

هذه هي الهيئة كما أرادها الملك، وتلك اختصاصاتها كما أجمعت عليها السلطتين التشريعية والتنفيذية من سلطات الدولة تجاه التعامل مع الهيئة في تنفيذ مهامها.

لقد شاء الله للهيئة أن تنشأ من عدم، فمكثت في تكوين هيكلها، وإعداد كوادرها مدة خمس سنوات حتى اليوم، وتحمل مسؤولوها النقد اللاذع والجارح أحياناً لقاء تأخر ظهور أثرها، وعندما أرادت الهيئة ممارسة اختصاصاتها بشكلٍ فاعل - وبحسب ما جاء في أداة تكوينها - ظهر أمين عام المجلس الأعلى للقضاء ليستثني منسوبي القضاء من اختصاص الهيئة؛ غافلاً عن كل تلك التأكيدات التي اشتمل عليها الأمر الملكي الكريم؛ مما يضع أكثر من علامة استفهام حول هذا الموقف.

ما كان لأي دائرة أن تتمنع من أداء واجبها تجاه اختصاصات الهيئة، وما كان لأي كائن من كان أن يستثني نفسه أو تابعيه من التلبث عن تلبية طلبات الهيئة، خصوصاً من السلطة القضائية التي هي سلطة الدولة وسطوتها في وجوه الفساد والفاسدين.

لا ينبغي أن يمر تمنع الأمانة العامة للمجلس الأعلى للقضاء دون تأنيب ولا تأديب؛ حتى لا تستساغ تلك المواقف من جهاز ثانٍ يرى أن له خصوصية من نوعٍ آخر.

وليعلم الجميع: أن لا حواجز أمام عمل الهيئة، ولا حصانة لأي قطاع من قطاعات الدولة في مواجهة قضايا الفساد؛ سواء القديم منها والحديث، وليحسب أي مسؤول حسابه مرات ومرات قبل أن يقدم على معارضة الهيئة فيما هو من اختصاصها المنصوص عليه في تنظيمها، أو في استراتيجيتها الموكول تنفيذها إليها؛ حتى لا يشعر أحد أنه فوق المساءلة لأي اعتبار، وحتى لا يغيب عن أحد أنه واقع تحت المساءلة بلا أدنى شك متى استحق ذلك.

بدون ذلك سيكون لكل قطاع تأويل، ولكل مسؤول ملاذ، ولكل فاسد مهرب، فلا تجد الهيئة من تطبق عليه نظامها إلا الضعفاء، فنهلك جميعاً كما هلك الذين من قبلنا ممن إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، كما صح ذلك عن الصادق المصدوق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 3741 | تأريخ النشر : الأحد 28 ربيع الثاني 1437هـ الموافق 7 فبراير 2016م

طباعة المقال

إرسال المقالة
القضاء .. ونزاهة .. وكائناً من كان إن المملكة العربية السعودية فيما يعرض لها من قضايا الفساد الإداري أو المالي كسائر دول العالم الأخرى؛ ولذلك حرصت الحكومة أيدها الله على إعداد الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، ومن ثم عرضها على مجلس الشورى بحسب الاختصاص التشريعي، ثم إقرارها بالأمر السامي الكريم ذي الرقم (43) المؤرخ في 1/2/1428هـ. وكانت قضايا الفساد المالي والإداري - قبلذاك- مفرقة في عدد من الدوائر الحكومية؛ مثل: ديوان المراقبة العامة، ودوائر التفتيش في كل وزارة أو مصلحة من المصالح العامة، والمباحث الإدارية، وكان التنسيق بين العديد من الوزارات والمصالح يأخذ وقتا كبيرا ليتحقق واقعا ملموسا، مما يمكن ذلك التأخير الفاسدين - خصوصا الوافدين منهم - من الإفلات قبل إحكام السيطرة عليهم. ورغبة من القيادة الحكيمة في توحيد الجهة المسؤولة عن قضايا الفساد أسست الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالأمر الملكي الكريم ذي الرقم أ/65 المؤرخ في 13/4/1432هـ، وكان تأسيسها إنجازا كبيرا على المستويين المحلي والعالمي؛ لتكون ضابط ارتباط يجمع الدوائر المعنية بالتحري أو بالضبط أو التحقيق، وتتحرك خلالها بسلاسة وانسيابية تمنع من إخفاء الأدلة أو هروب أطرافها. لقد أظهرت القيادة جديتها في إنشاء وتفعيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بما اشتمل عليه الأمر الملكي الكريم من أشد عبارات التأكيد وأقواها في خمس مواقع؛ بانطلاقه أولا من حكم آية في كتاب الله عز وجل هي قوله تعالى {ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}، ثم بربط الهيئة بالملك مباشرة، ثم بالأمر بالإسراع في إعداد تنظيم الهيئة خلال ثلاثة أشهر من تاريخ الأمر الملكي هذا، ثم بالنص على شمولية مهام الهيئة كافة القطاعات الحكومية، وآخرها التأكيد بألا يستثنى من ذلك كائنا من كان. عقب ذلك أوضح تنظيم الهيئة اختصاصاتها وضوحا لا يشوبه غموض وبينه بيانا لا يعتريه إجمال، ففي الفقرة الثالثة من المادة الثالثة جاء ما نصه [وللهيئة الاطلاع على مجريات التحقيق ومتابعة سير الإجراءات]، ثم في الفقرة العاشرة من الاختصاصات ورد أن للهيئة [متابعة مدى قيام الجهات المشمولة باختصاصات الهيئة بما يجب عليها إزاء تطبيق الأنظمة المجرمة للفساد المالي والإداري، والعمل على تعزيز مبدأ المساءلة لكل شخص مهما كان موقعه]. ثم في الفقرة الثانية من المادة الخامسة من التنظيم جاء ما نصه [على الجهات المشمولة باختصاصات الهيئة والجهات الخاصة المتعاقدة معها تزويد الهيئة بكل ما تطلبه من وثائق وبيانات ومعلومات تتصل بأعمالها]، ثم في الفقرة الثالثة من المادة الخامسة ورد أن على تلك الجهات [تمكين منسوبي الهيئة من تأدية مهامهم، وتزويدهم بما يطلبونه من وثائق وأوراق أو نسخ منها]. هذه هي الهيئة كما أرادها الملك، وتلك اختصاصاتها كما أجمعت عليها السلطتين التشريعية والتنفيذية من سلطات الدولة تجاه التعامل مع الهيئة في تنفيذ مهامها. لقد شاء الله للهيئة أن تنشأ من عدم، فمكثت في تكوين هيكلها، وإعداد كوادرها مدة خمس سنوات حتى اليوم، وتحمل مسؤولوها النقد اللاذع والجارح أحيانا لقاء تأخر ظهور أثرها، وعندما أرادت الهيئة ممارسة اختصاصاتها بشكل فاعل - وبحسب ما جاء في أداة تكوينها - ظهر أمين عام المجلس الأعلى للقضاء ليستثني منسوبي القضاء من اختصاص الهيئة؛ غافلا عن كل تلك التأكيدات التي اشتمل عليها الأمر الملكي الكريم؛ مما يضع أكثر من علامة استفهام حول هذا الموقف. ما كان لأي دائرة أن تتمنع من أداء واجبها تجاه اختصاصات الهيئة، وما كان لأي كائن من كان أن يستثني نفسه أو تابعيه من التلبث عن تلبية طلبات الهيئة، خصوصا من السلطة القضائية التي هي سلطة الدولة وسطوتها في وجوه الفساد والفاسدين. لا ينبغي أن يمر تمنع الأمانة العامة للمجلس الأعلى للقضاء دون تأنيب ولا تأديب؛ حتى لا تستساغ تلك المواقف من جهاز ثان يرى أن له خصوصية من نوع آخر. وليعلم الجميع: أن لا حواجز أمام عمل الهيئة، ولا حصانة لأي قطاع من قطاعات الدولة في مواجهة قضايا الفساد؛ سواء القديم منها والحديث، وليحسب أي مسؤول حسابه مرات ومرات قبل أن يقدم على معارضة الهيئة فيما هو من اختصاصها المنصوص عليه في تنظيمها، أو في استراتيجيتها الموكول تنفيذها إليها؛ حتى لا يشعر أحد أنه فوق المساءلة لأي اعتبار، وحتى لا يغيب عن أحد أنه واقع تحت المساءلة بلا أدنى شك متى استحق ذلك. بدون ذلك سيكون لكل قطاع تأويل، ولكل مسؤول ملاذ، ولكل فاسد مهرب، فلا تجد الهيئة من تطبق عليه نظامها إلا الضعفاء، فنهلك جميعا كما هلك الذين من قبلنا ممن إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، كما صح ذلك عن الصادق المصدوق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع