|
نشرت في صحيفة الإقتصادية العدد 5004
نظاميات شاء الله أن تُطبِقَ عليَّ شباك القضاء؛ كما أوضحت ذلك في مقالة بعنوان (مكاره على الطريق)، في وقتٍ كنت أكره فيه أن أكون قاضياً؛ لما عاناه والدي يرحمه الله من تجارب مريرةٍ - في قضيةٍ واحدة - مع خمسةٍ من القضاة كلهم تُنقَضُ أحكامهم؛ في الفترة (1384هـ - 1400هـ)، فقد عايشت معظم تلك الفترة؛ أكتب لوالدي استدعاءاته وخطاباته للمسؤولين، من لدن جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز يرحمه الله، وحتى أصحاب الفضيلة القضاة ناظري الدعوى، مروراً بأصحاب السمو الملكي وزير الداخلية، وأمير منطقة الرياض، وبسماحة رئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ غفر الله له، وبمعالي وزير العدل في حينه الشيخ محمد الحركان رحمه الله.= ومع هذا الإصرار وتلك المثابرة فقد ترك والدي قضيته باختياره لدى القاضي السادس؛ تزامناً مع ولوجي معترك القضاء، وكان لذلك الاحتقان النفسي أثره عليَّ في ثلاث مراحل متقاربة من مراحل دخولي مجال العمل الحكومي:-
المرحلة الأولى/ الصدود والإعراض مِنِّي عن العمل في القضاء؛ خوفاً من الوقوع في مثل ما وقفت عليه من أخطاء جسيمة في قضية والدي يرحمه الله، وقد عانيت خلال هذه المرحلة من الملل والسأم الكثير، ولم يؤنسني فيها غير ما تشتمل عليه مكتبتي، وما يقع في يدي من مطبوعاتٍ أياً كان موضوعها، وبقيت على تلك الحال قرابة خمسة أشهر، حتى احتال عليَّ مدير شؤون الموظفين بوزارة العدل آنذاك الشيخ عبد الرحمن بن محمد الفريان ، فباشرت العمل ملازماً قضائياً في المحكمة الكبرى بالرياض بتاريخ 23/ 1/ 1399هـ.
المرحلة الثانية/ بعد المباشرة اتخذت مقعداً بجوار فضيلة القاضي، أكتب له ما يُمليه عليَّ في الضبط من قضايا حقوقية وجنائية، دون أن أفقه شيئاً مما يأمرني بتدوينه؛ فلست أعلم: لِمَ أخذ ببعض كلام الخصوم وترك بعضه، وَلِمَ أملاه بفصيح اللغة التي لم يتكلم بها الخصوم، وَلِمَ أمرني برصد بعض العبارات باللهجة العامية نصاً، وَلِمَ لا يحكم في القضية منذ الجلسة الأولى ما دامت جاهزة للحكم؛ في عِدَّةِ أسئلةٍ لم تُفَسَّر لي ابتداءً، ولم أسأل عنها حياءً.
= مكثت على تلك الحال ثلاثة أشهر كانت أثقل عليَّ من حالي الأولى، وزاد من عَنَتِهَا الإجهادُ البدنيُّ والذهني من جَرَّاء التحاقي بالدراسة المسائية في المعهد العالي للقضاء، فما إن أنتهي من غدائي بعد خروجي من العمل ظهراً، إلا ويحين موعد الدراسة بعد صلاة العصر وحتى التاسعة ليلاً، وكان التفسير الأوحد - من المقربين منِّي - لحالي البائسةِ تلك أنها نتاج عين عائن، أو هكذا زعموا !.
المرحلة الثالثة/ بعد تلك الثلاثة الأشهر أدركت أنَّ الوقت يمضي دون تحقيق فائدةٍ تذكر، ولما أعتد السلبيةَ في أداء الأعمال، ولا تنفيذَ العمل دون فهمٍ لأسبابه وغاياته، كما لم أعتد البقاء على حالٍ واحدة في تأدية المهمات، وإذا لم أجد ما أُغَيِّرُهُ أقوم بتغيير ترتيب موجودات مكتبي، وتحديث تصنيف محتويات مكتبتي، فما كان مِنِّي إلا أن أَجَلْتُ نظري في أرجاء المكتب القضائي؛ فإذا بي أجد غرفةً مغلقةً بها مكتبين ودواليب ملأى بالملفات والضبوط، غير أنَّ الغبار يكسو تلك الموجودات بشكلٍ يكتم الأنفاس، فسألت عنها، فقيل لي: إنها ضبوط القضايا التي نظرها قضاة المكتب السابقون منذ افتتاحه عام 1383هـ وحتى مباشرة القاضي الحالي مطلع عام 1399هـ.
= استأذنت القاضي في أن أختلي بالمكتب مدة أسبوعين، فأذن لي مشكوراً، وبعد تجهيزه جعلت دوامي كله فيه؛ فبدأتُ بقراءة التعاميم ورصد مختصراتها في دفتر، ذاكراً الرقم والتاريخ والمصدر، ثم ثَنَّيتُ بمطالعة الضبوط؛ أبدأ كل قضيةٍ من جلستها الأولى ثم الثانية فالثالثة مهما تباعدت الجلسات، حتى أصل إلى الحكم فأتأمل دليله وتعليله وأسجله في دفتري، فتكوَّن لديَّ معرفةٌ بطريقة فتح الجلسة، وأدركت الكثير من دواعي رفع الجلسات، وطريقة استجواب الشهود وانتقاش المعلومات منهم، كما تجلَّى لي أسباب حصر الدعاوى في إطارٍ ضيقٍ يكون - في المحصلة - هو مطلب الخصم؛ وإن ظَنَّ أنَّ ما تركه القاضي من كلامه مُهِمَّاً في توضيح ما يدعيه، وقد ساعدني في ذلك أنني كنت أتخيل أني أحضر تلك الجلسات، أسمع كلامهم، وأرى مكانهم، وأستشعر مواقف القاضي ناظر الدعوى المناسبة من تلك الأحداث.
= أنهيت شهراً كاملاً في ذلك المكتب، ثم عدت إلى مكتب القاضي في حالٍ أفضل من ذي قبل، وكنت مزوداً هذه المرة بخبراتٍ قضائيةٍ ونظاميةٍ ممتدةٍ لأكثر من سبعة عشر عاماً هي سنوات تلك المحفوظات.
= طلبت من القاضي الموافقة لسكرتير المكتب على طلبه إجازةً عادية، وتعهدت بالعمل بدلاً عنه في الوارد، والصادر، وتوديع المعاملات، وتحديد المواعيد، ورصد نماذج الإثباتات (الاغتراب، الإعالة، تعديل اللقب، إثبات الزوجة والأولاد) ونحو ذلك، وبعد تدريبٍ مدته أسبوع توليت تلك الأعمال مدة شهري الإجازة.
= طلبت من القاضي أن أعمل بجوار كاتب الحجج، فبقيت أرقبه وأساعده شهراً، ثم قمت بعمله شهرين بإشرافه؛ أضبط حجج الاستحكام، وأحرر الإعلانات عن طلبات التملك، وعن إثبات أو تعديل المساحات والأطوال.
= عندما أكملت دراية الأعمال المكتبية والإنهائية (ذات القسائم) لزمت فضيلة القاضي؛ أضبط القضايا الحقوقية والجنائية والإنهائية ذات الصكوك (حصر الإرث، الولاية، بيع مال القاصر أو الشراء له، استبدال الأوقاف، قسمة الأملاك بين الورثة) ونحوها مما تختص بنظره المحاكم العامة.
= في هذه الفترة لم أترك شيئاً يُهِمُّني معرفته إلا سألت القاضي عنه، وكنت أقول له رأيي لا أتردد، وكان - وفقه الله - يستطلع ما لديَّ في بعض القضايا، وَيَكِلُ إليَّ نظر بعضها، حتى أنهيت ملازمتي في ذلك المكتب المبارك.
= بعد مباشرتي القضاء لم أجد مشقةً في الإشراف على جميع الأعمال المكتبية والإدارية والفنية في المحاكم التي عملت بها؛ فقد زاولت كل مجالات العمل في المكاتب القضائية، وما يَستَجِدُ منها أَجِدُ الأرضية المناسبة للتعامل معه، في وقتٍ أرى بعض زملائي من لم يمارس في ملازمته غير نوعٍ واحدٍ من القضايا، فبقي عالةً على كاتب ضبطه فيما سوى ذلك.
= لقد أفادتني تجربتي هذه في مسيرتي في القضاء، فأحببت نقلها إلى زملائي الملازمين الجدد وتعميم الفائدة منها، فكتبت لمجلس القضاء الأعلى مقترحاً بتنظيم أعمال الملازمين على النحو الذي مر ذكره، مُطَعَّماً بما استفدته من خبراتٍ خلال عملي، غير أنَّ المجلس الموقر وجد لذلك المقترح مكاناً مناسباً لحفظه فيه. والله الموفق
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
عدد التعليقات : 2 | عدد القراء : 13991 | تأريخ النشر : الأحد 9 جمادى الآخرة 1428هـ الموافق 24 يونيو 2007مإرسال المقالة
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق
|
|||
|
|
|||
|
|
|||
|
تأريخ النشر: الخميس 30 رمضان 1428هـ الموافق 11 أكتوبر 2007مسيحية
طباعة التعليق