|
نشرت في صحيفة الإقتصادية العدد 4752
نظاميات في الجزء الأول من هذا الموضوع ( جمع الشمل القضائي ) ظهر أنَّ الجهات القضائية غير التقليدية في المملكة العربية السعودية تتوازعها قرابة عشرين جهةً حكوميةً للنظر في نحو أربعين اختصاصاً قضائياً ، وربما أكثر من ذلك .ولجمع الشمل القضائي في المملكة ههنا حلان ؛ أحدهما : غائيٌّ ، والآخر : انتقاليٌّ .
أما الحل الغائيُّ : فمع أنه ممكن التحقيق ابتداءً ، وخلال مدةٍ وجيزةٍ من صدور القرار السياسي باعتماده ، إلا أنَّ من الواقعية - في الوقت الحاضر – اعتبار ذلك الحل مثالياً ؛ ريثما يتم ترتيب البيت القضائي من الداخل .
ويستلزم هذا الحل المثاليُّ ثلاثة أمورٍ هامة :-
الأمر الأول / تغيير تركيبة بعض الجهات الحكومية ؛ إذ لو تأملنا مسمى ( هيئة التحقيق والإدعاء العام ) لظهر لنا الازدواجيةُ في المهمة المناطة بالهيئة ؛ فهي الجهة المسؤولة عن التحقيق أولاً ، في ذات الوقت الذي هي الجهة التي تَدَّعِيْ على من حققت معه واطلعت على أدلة إدانته أو دلائل براءته .
وبدون مزايدةٍ من أحدٍ على افتراض الثقة بجميع رجال الهيئة وفي شقيها ( التحقيق ، الإدعاء العام ) ، فذلك ما لا حيدة عنه أبداً ، إلا أنَّ مبادئَ الحق والعدل توجب الفصل بين الشقين ؛ لتكونا دائرتين لا ارتباط لأيٍ منهما بالأخرى ؛ ويحصل ذلك : بنقل مهمة التحقيق إلى ما يسمى في كثيرٍ من دول العالم بـ ( قضاء التحقيق ) ، وبإقرار اختصاص الهيئة الموقرة بـ ( الإدعاء العام ) والوظائف الإشرافية الأخرى .
الأمر الثاني / تحديد الاختصاصات ؛ بأن تكون جهات الضبط مثل ( الشرطة ، المباحث ، هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحوها ) مسؤولةً عن : ضبط المتهمين ، وجمع الأدلة ، ومن ثَمَّ عرض الجميع على قضاء التحقيق . وأن تكون مهمة قضاء التحقيق : تنقيح الأدلة بعد جمعها ، وتصفية ما لا فائدة من الترافع بشأنه من القضايا أمام المحاكم المختصة ؛ لتوفير الوقت والجهد على جهات الإدعاء العام وعلى القضاء ، إضافة إلى رعاية مصالح أطراف القضية ذاتها . ويبقى الإدعاء العام : ممثلاً الدولةَ في القضايا العامة أثناء نظرها أمام الدوائر القضائية المختصة بعد ضبطها وانتهاء التحقيق فيها .
الأمر الثالث / توحيد الكوادر القضائية . ويتمثل هذا بتحوير مسميات جميع أعضاء اللجان القضائية في جميع الوزارات والمصالح الحكومية بما يوافقها من كادر القضاة أولاً ، ثم نقل تلك الكوادر إلى ملاك وزارة العدل التي بدورها تقوم على إعداد ما يلزم لمباشرة هذه اللجان اختصاصاتها القضائية المنصوص عليها في أنظمتها .
وهنا يمكن تلخيص خطوات التقاضي - بعد تحقيق هذه الأمور الثلاثة - في الآتي :-
أولاً / بعد اعتماد أيِّ نظامٍ من الجهات المختصة - ومنها : مجلس الشورى - يلزم تزويد وزارة العدل بصورةٍ منه لاعتماده وتطبيقه ؛ حتى تقوم الوزارة بتبليغه فوراً لجميع الجهات القضائية المسؤولة .
ثانياً / تتولى إدارات وهيئات الضبط الجنائي - المعتمدة في المادة ( 26 ) من نظام الإجراءات الجزائية - مهمة استقبال البلاغات والشكاوى ، والقبض على المتهمين ، واستجوابهم ، وجمع الأدلة .
ثالثاً / يتولى ( قضاء التحقيق ) فحص الأدلة وتنقيحها ، والتحري عن ملابسات القضايا ، والاستعانة بالخبراء في ما يستلزم ذلك ، وتقرير ما يراه بشأن تلك القضايا وأصحابها ؛ من : المضي في رفع الدعوى بإحالتها للإدعاء العام ، أو : حفظ القضية وتبرئة المتهمين ؛ لعدم كفاية الأدلة .
رابعاً / تتولى الجهات المختصة في المصالح والوزارات الحكومية مهمة الإدعاء العام - على أيٍ من منسوبيها ، أو في الدعاوى الناشئة عنها - أمام الجهات القضائية (( المحاكم ، والدوائر ، واللجان ، والهيئات )) بعد توحيدها وإدراجها تحت مظلة ( وزارة العدل ) ، ولها : أن تكل ذلك إلى ( هيئة الإدعاء العام ) بحسب الاختصاص ، كما لها : الاشتراك مع المدعي العام في رفع الدعوى .
خامساً / تُخَصِّصُ وزارةُ العدل دوائرَ في محاكمها ؛ لتطبيق أنظمة الدولة التجارية والجزائية ، وكذا في ديوان المظالم للقضايا الإدارية والتأديبية ، ويتولى أعضاء اللجان والهيئات القضائية السابقة فيها مهمتي : النظر في القضايا الداخلة في اختصاصهم ، وتقرير الحكم المناسب بحسب ما هو منصوصٌ عليه في النظام المستند إليه ؛ على أن يشترك - مع كل لجنةٍ أو هيئة - قاضٍ شرعيٌ ؛ للنظر في سلامة الأدلة من الناحية الشرعية .
سادساً / تبادر وزارة العدل بإعداد الدورات الشرعية التأهيلية لمن يحتاج إليها من أعضاء اللجان القضائية المنقولة ، وتجهيز إدارات الاستشارات القضائية المتخصصة ؛ لإسعاف اللجان بما قد تحتاج إلى معرفته من المبادئ الشرعية والقواعد الفقهية .
إنَّ التقاضي بموجب هذه الخطوات الست : هو ما يجب أن تكون عليه الحال مستقبلاً ، ولا يحتاج تنفيذه إلا لبضعةِ أوامرَ ساميةٍ ؛ للفصل بين اختصاصات الدوائر المعنية ، ونقل الكوادر القضائية إلى جهاتها الصحيحة ، ودمج الصلاحيات المتشابهة مع بعضها ، كما سلف بيانه ، وكما سبق حصوله عند إحداث وزارة الصناعة والكهرباء ، وإعادة الصناعة إلى وزارة التجارة ، ومع فصل المياه عن وزارة الزراعة ، ثم دمج الكهرباء بوزارة المياه ، وبدمج الإسكان بوزارة الشؤون البلدية والقروية ، وبفصل الأوقاف عن وزارة الحج ، وضمها بالدعوة والإرشاد بعد فصلهما عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء ، وغيرها كثير .
من ذلك كله نعلم يقيناً : أنَّ دمج جميع اللجان والهيئات القضائية في ( وزارة العدل ) إدارياً ومالياً ، وتحت مظلة ( المجلس الأعلى للقضاء ) مطلبٌ ينبغي تَحَقُّقُهُ إنْ عاجلاً أو آجلاً ؛ بما في ذلك : قضاء التحقيق ، وديوان المظالم .
وأما الحل الانتقالي - الذي لا يمكن الصيرورة إلى أقلَّ منه ؛ عند إرادة ( جمع الشمل القضائي ) - فيتلخص في أمرين :-
الأول : ندب عضوٍ قضائيٍّ في كلِّ لجنةٍ ( فرعية ، ابتدائية ، عليا ) حال نظر القضايا الداخلة في اختصاصها ؛ للمشاركة في نظر وتمحيص الأدلة من منظورٍ شرعيٍ .
الثاني : تمكين المحكوم عليه : من الاعتراض على ما يصدر عليه من أحكامٍ من أيٍ من اللجان أو الهيئات أو المجالس القضائية الحكومية ، ومن طلب تدقيق تلك الأحكام لدى ( ديوان المظالم ) في القضايا الإدارية والتأديبية ، ولدى ( المحكمة العليا ) في سائر القضايا الأخرى ( التجارية ، والجزائية ، والحقوقية ، والجنائية ) وبدون استثناءٍ ؛ إذ لا أحد فوق القانون ، ولا عصمةَ لأحدٍ بغير أحكام الشريعة .
ولو قال قائل : إنَّ كثيراً من أعضاء اللجان القضائية المطلوب دمجها في ( المجلس الأعلى للقضاء ) لهم سمتٌ يختلف عن القضاة في المحاكم الشرعية وديوان المظالم ، فكيف يندمجون مع بعضهم تحت مظلةٍ واحدة ؟!.
فجوابه : أنه لن يعدم بعضهم من بعضٍ خيراً ، وسيأخذ كلٌ منهم أحسن ما لدى صاحبه ، وهذا هدفٌ من ضمن أهداف الدمج المطلوب ، والذي يتحقق منه : تخفيف القيود النفسية على القضاة ، وترطيب الأجواء بين القضاة وزملائهم الجدد ، وتبادل الخبرات النافعة فيما بينهم ، وإيجاد ميادين للمنافسة في كل ما يعود بالنفع العام ، وتنفيس بعض الضغوط الاجتماعية على معاشر القضاة .
أمَّا تَخَلُّفُ بعض المستحبات ، أو وجود بعض المكروهات فلا يمنع من الاستفادة من الزملاء المنقولين ؛ لأنَّ العدالة المطلوبة تتحقق بمجرد : فعل الواجبات ، واجتناب المحرمات ، والتحلي بالمروءة ، وهذه الثلاثة مدعاةٌ لتحقق ما فوقها من : فعل أكثر المستحبات ، واجتناب أغلب المكروهات . والله الموفق .
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
عدد التعليقات : 2 | عدد القراء : 6877 | تأريخ النشر : الأحد 22 رمضان 1427هـ الموافق 15 أكتوبر 2006مإرسال المقالة
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق
|
|||
|
|
|||
|
|
|||
|
تأريخ النشر: الخميس 23 شعبان 1428هـ الموافق 6 سبتمبر 2007مسيحية
طباعة التعليق