|
نشرت في صحيفة الإقتصادية العدد 4824
نظاميات للعمل القضائي في أيِّ دولةٍ من دول العالم آلياتٌ نشطةٌ وأخرى معطلةٌ أو مشلولة ، وقد تكون الآلياتُ في بعض الدول مفقودةً أصلاً ؛ إلا أنه - سيراً على انتهاجنا طريقَ التفاؤل في ما نطرحه من مشكلاتٍ قائمة ، وسعياً في طلب الأفضل من الحلول الممكنة ، واختياراً لسبيل دغدغة المشاعر الوطنية وتحريك المياه الراكدة - جرى اختيارنا لاثنتي عشرة آلية من آليات التطوير المطلوبة ؛ واخترت وصفها بالمطلوبة دون باقي الأوصاف السالفة ؛ لأنَّ فيها نوعَ ترفعٍ عما دونها ، ولأنَّ المطلوبَ أقوى في التعبير من المأمول .والآلياتُ التي نتطرَّق لها هنا هي : الوسائل الإدارية الكفيلة بتطوير وتحسين أداء أيِّ عملٍ إداريٍ ، وبدونها لا يمكن للعمل أن يكون على مستوى الطموحات الرسمية والشعبية على حدٍ سواء .
ومن الآليات المطلوبة في سبيل تطوير العمل القضائي :-
الآلية الأولى : اللقاءات القضائية الرسمية .
إنَّ جهازنا القضائيَّ يفتقر للقاءات الرسمية من القيادات بأفراد القضاة ؛ أسوةً بالمجالس العليا للقضاء في العالم ، والتي يُرَتِّبُ مسؤولوها طريقة الالتقاء بأفراد القضاة ومراسم ذلك ، وينظمون الندوات والمؤتمرات الداخلية للاتصال بهم في سبيل تطوير العمل القضائي ؛ بحيث يعلم القاضي حقوقه قبل اللقاء ، وينعم باستيفائها وقت اللقاء ، وتظهر آثار ذلك عليه بعد اللقاء ، فيتخلَّق بما رأى وما سمع من مراجعه ؛ إذ الناس على دين ولاتهم .
أما قضاتنا - اليوم - فلا يحصل أسعدهم حظاً إلا على بضعِ دقائقَ ؛ لعرض حاجةٍ ، أو لسؤالٍ عن مشكلةٍ ، أو لبيان موقفٍ ، أو لتوضيح غموضٍ ؛ دون ترتيبٍ سابقٍ ولا خصوصيةٍ لائقة ، بل إنَّ حاجة بعضهم لطلب النقل ونحوه هي سبب التقائه بقيادته القضائية ، ولولا تلك الحاجةُ لما حصل لأحدهم مع قيادته أدنى لقاءٍ حتى يترك العمل الحكومي لنحو موتٍ أو تقاعد ؛ فضلاً عن ظروف الُّلقيا بالقيادة ، والتي يُحشر فيها القاضي مع المراجعين من أصحاب القضايا أثناء الانتظار ووقت المقابلة ؛ مما يُؤَثِّرُ - ولاشك - على المهمة التي خطَّط القاضي لبحثها .
ولو علمت القيادة - أنَّ ممارسات المقابلة قد تنعكس على سلوكيات بعض القضاة تجاه مراجعيهم - لأعادوا النظر في طريقة الاستقبال والمباحثة .
الآلية الثانية : البحوث والدراسات .
ليس للبحوث والدراسات ذكرٌ في قاموس مجلس القضاء الأعلى ، ولا فرق في المعاملة بين من ليس له نشاطٌ بحثيٌّ أو علميٌّ وبين قاضٍ يعد بحثاً أو أكثر في مجال عمله وآخر يجهز الدراسات في سبيل تطوير العمل القضائي . والقاضي الإيجابي قد يُنظَرُ إليه بحذرٍ شديد يؤدي إلى نقل خدماته نحو قطاعٍ آخر ولو بترقيةٍ ظاهرية ، أو إلى كسر شوكته بنقلٍ مصلحيٍ ؛ حتى يمتنع أو يرتدع عن مثل فعله آخرون .
ومن لا نشاط له يستوي في الترقيات مع غيره ولا فرق ؛ إن لم يكن أفضل في أمر الترقية والنقل ونحوهما .
ومن المعلوم أن للبحوث والدراسات المتخصصة أثرٌ كبيرٌ في تطوير المهارات وتذليل الصعوبات وتبادل الخبرات ؛ الأمر الذي حدا بخبراء الإدارة إلى اعتبارها شرطاً أساساً في الترقية ونحوها من ميزات العمل الوظيفي .
فأساتذة الجامعات والأطباء مثلاً لا يمكن لأحدهم التدرج في مراتب وظائفهم إلا بإعداد البحوث والدراسات المحكَّمة المشروط إعدادها تحت إشراف جهةٍ مختصة .
والقضاء ليس في غنىً عن التطوير والتحديث ولا التحسين والتجديد ، وهذه سبيلها : البحوث والدراسات ، ووسائل التبصير بها : حضور المؤتمرات والندوات المتخصصة ، وطريق تحقيقها : الإلزام بالمشاركة فيها عند إرادة التدرج في مراتب السلك القضائي ، أو الرغبة في الحصول على الامتيازات الإدارية الخاصة .
ويمكن للقيادة القضائية تحديد موضوعات يختار القاضي أحدها لبحثه ودراسته وإثرائه بالآراء والمقترحات والتجارب العملية والخبرات المنقولة ، وبعد مراجعة البحث وتقييمه يتحدد مدى استحقاق صاحبه لما يأمل في تحققه من مرجعه .
كما يمكن للقاضي أن يقترح إعداد دراسة لقضيةٍ أو أكثر سبق له نظرها والحكم فيها ؛ ليوجز أهم ما قام به من عملٍ أثناء نظر تلك القضايا وطريقة إدارتها وكيفية الاهتداء إلى أدلة أحكامها العقلية والنقلية منها ، وإخضاع بحثه هذا للتحكيم من لجنة علمية قضائية وأكاديمية مختصة ، وبعد استكمال الباحث تعديلات ما استدركته عليه لجنة التحكيم تتولى الوزارة طباعته وتوزيعه على جميع القضاة .
ولو ألزم القاضي بذلك لاجتمع له من إعداده ثمانية بحوث على الأقل طيلة عمله في القضاء ، ولتوفر لديه ستة آلاف بحث قضائي خلال سنوات خدمته ( هذا على اعتبار عدد القضاة المتواضع حالياً ) ، فكيف! لو ازداد عددهم إلى ما نأمل في تحققه إن شاء الله تعالى .
الآلية الثالثة : التفاعل الفوري للشكاوى المعلنة والنقد .
عندما تنشر إحدى الصحف نقداً لأداء جهة حكومية يبادر مسؤولوها في بحث موضوع النقد والتحري عنه ، ثم كتابة ما يسمى ( التجاوب ) في ذات الصحيفة ؛ إما : بالشكر والتقدير على التنبيه إلى الخطأ أو المشكلة ، والإفادة بالمسارعة إلى علاجها أو الوعد بحلها ، وإما : بتفنيد الخبر وبيان وجه الصحة في ذلك الأمر ، أما أن يترك مجال النقد مفتوحاً وباب التشكي مشرعاً ( وكأنك لم تسمع ولم يقل ) ، فتلك دلالة على أمرين ؛ التجاهل العمدي والتهاون السلبي بكل ما يقلق العامة ، والاعتراف الضمني بالخطأ والعجز عن حله ، أو أحدهما في أحسن الأحوال تلك الجهة المنتقدة .
ومن اللازم إدارياً بل ومن الواجب نظاماً وطاعة لولاة الأمر : المبادرة إلى بحث الخطأ ، والتحري عن المشكلة ، والتفاعل مع العامة عبر وسيلة الإعلام مصدر التنبيه .
فالنقد وبحثه والتجاوب مع وسائل الإعلام فيما تنشره من مشكلات كل ذلك من سبل تطوير العمل القضائي ؛ أياً كانت حقيقة الخبر ؛ فالتجاوب - في حد ذاته سواء كان : تصديقاً مُحَقَّقَاً ، أو تكذيباً موثقاً - فيه فتحٌ لأبواب ثقافةٍ لا تزال مغلقةً عن غير أهلها ، وحبيسةَ أسوار الخصوصية المُقَنَّعَة والهيبة الزائفة .
الآلية الرابعة : الحضور الإعلامي القضائي .
كنا ولا زلنا ننتقد الخوض من غير المختصين في غير مجالاتهم ؛ تحقيقاً لمبدأ : من تكلم في غير فَنِّهِ أتى بالعجائب ، وكنا ولا زلنا نأمل من المختصين أن لا يتحدثوا في ما كفاهم غيرهم مؤونته .
وإننا لنرى للمختص حقه ونعطيه قدره متى صال وجال في ما يتقنه مما وكل إليه . فقد أحسنت حكومة خادم الحرمين الشريفين في تخصيص قطاعٍ حكوميٍ لكل خدمةٍ يحتاجها الناس ؛ كما جعلت للقضاء جهازاً لا يمكن لغير القضاة أن يخوضوا في مسائله ، ولو خاضوا فيها لبان عوارهم ، وكما خصصت الدولة للطب جهازه وللأمن جهازه وللتجارة والصناعة جهاتها كذلك .
ومن الملحوظ بعين التقدير والتبجيل والإجلال : أنَّ سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ : عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ حفظه الله ، وسلفه سماحة الشيخ : عبد العزيز بن عبد الله بن باز يرحمه الله ، ومن سار على نهجهم من أصحاب المعالي والفضيلة المفتين وأساتذة الجامعات كلهم ينأون بأنفسهم أن يفتوا في كل ما له علاقة بالقضاء ؛ لا من قريب ولا من بعيد .
وكم سمعنا وَشَنَّفَ مسامعنا من تصريحاتٍ لهم في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة ؛ يأبون فيها الإفتاء في ما يرون أنه من اختصاص المحاكم ، ويرشدون السائل إلى مراجعة المحكمة المختصة للحصول على ما يشفيه ويكفيه أمر مسألته ، وليس ذلك عجزاً منهم - رعاهم الله - فهم الذين استقى القضاة من علومهم ، ونهلوا من فنونهم ، وعقلوا عنهم ما لم يكونوا يعلمون ؛ غير أنَّ الله أراد بهم خيراً وتعرضوا للدعاء لهم بالرحمة كما في قول القائل : رحم الله من عرف حَدَّه فوقف عنده .
وإذا التفتنا إلى من تعرَّض للظهور في وسائل الإعلام من القضاة نجده أبعد الناس عن بحث أمور القضاء بحسب تخصصه ؛ فتجد أحدهم يفتي في مسائل قد كفاه إياها أهلها من المفتين ، وبدلاً من أن ينشروا ثقافة القضاء ، ويبحثوا أمور المعاملات وأحكام الدعاوى والبينات ، وأنظمة العدل ، وبيان طرق حفظ وتحصيل الحقوق نراهم يلجأون إلى الفتوى في أمور العبادات والحلال والحرام ؛ مزاحمين أهل الاختصاص في عملهم ، ومحرجيهم في اجتهاداتهم التي يبنونها على خبراتهم العريقة في الفتوى ورعاية أحوال المستفتين ، ومضيعاً وقته وجهده فيما عمله وتخصصه القضائي أولى به منه .
وهؤلاء القضاة - الذين منَّ الله عليهم بالحضور في برامج الإذاعة والتلفاز وفي حلقات الذكر في المساجد وفي المحاضرات والندوات الدينية - لو أنهم سخروا جهدهم فيما ينفع الناس - من أمورٍ وُكِلَت إليهم من ولاة أمرهم - لكان ذلك أجدى وأحرى أن يتطور به العمل القضائي ، ويستفيد منه عامة الناس وخصوصاً أمثالهم من القضاة ؛ فتلاقح الأفكار كتلاقح الأزهار كل نوعٍ ينفع مثيله ؛ فيكثر به جنسه ، وتعمر به أرضه ، ويبقى به أصله . والله المستعان
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 5788 | تأريخ النشر : الثلاثاء 6 ذو الحجة 1427هـ الموافق 26 ديسمبر 2006مإرسال المقالة
|
|||
|
|
|||
|