نشرت في صحيفتي : الرياض والمسلمون

فقهيات الحمدلله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين . وبعد :-
يقول الله جلَّ ثناؤه (( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ))
ويقول جلَّ جلاله (( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ))
ويقول تبارك وتعالى (( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ))

إن الله منذ استخلف آدم عليه السلام وذريته في الأرض ، وهم يقومون بعمارة الأرض ، ويتطلَّبون ما جعله الله لهم فيها ، ويُطوِّعونه لما تصلح به أحوالهم ؛ فلا تخلو ساعة من ساعات ليلهم ونهارهم إلا وقد أظهرهم الله على علم جديد لم يكن لديهم قبل ذلك .

ثم تتابعت فيهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وتوحيده وتحكيم شرعه في كل شؤون حياتهم . وكلما شطحوا في علمٍ من علومهم أوضح لهم أنبياؤهم الحكم ، ودلُّوهم إلى ما ينفعهم .

وقد قضى الله عـزَّ وجلَّ أن يتقدم العلم كثيراً في هذا الزمان بقدرٍ- يظهر- أنه لم يكن كذلك من قبل .
وذلك من علامات آخر الزمان لما رواه الدارمي عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ قال :-
* إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ أَبُثُّ الْعِلْمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَتَّى يَعْلَمَهُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِمْ أَخَذْتُهُمْ بِحَقِّي عَلَيْهِمْ *

والعلم الذي كشف للناس البارود والتيار الكهربيَّ ، هو الذي نوَّع استخداماته إلى ضارة ونافعة .
كما أن العلم الذي عرف به الناس كيف يزرعون الفاكهة والحبوب ، هو الذي سخَّره بعضهم لزراعة شجيرات المخدرات وما شابهها . وهكذا يسخَّر العلم في ما ينفع الناس ، وقد يسيء استغلاله من لا يعرف حقَّه ممن أعمى الله بصائرهم عن الحق .

فوجب على علماء الشريعة إيضاح الجائز وشروطه ، وبيان المحظور وأسبابه في كل ما يطرأ في حياة الناس من أمر دنياهم .

وعندما أظهر الأطباء ما أسموه : التلقيح الصناعي ، أو أطفال الأنابيب . واستخدموه علاجاً لبعض حالات العقم بين الأزواج - قام علماء الشريعة بإيضاح الحكم الشرعي لهذا الكشف العلمي الجديد في حينه ؛ فأجازوه بين الزوجين ، وجعلوا له شروطاً وقيوداً معروفة .

ثم ظهر في نفس المجال ما يسمى : بالاستنساخ . والذي لم يظهر أنه قد طبِّق على البشر حتى الآن .
وخلاصته : أن بإمكان الطبيب أن يأخذ بويضةً من أنثى ، ويقوم بتفريغها من نواتها ، ثم يحقنها بخليَّة حيَّة مأخوذة من كائنٍ حيٍ من جنس الأنثى صاحبة البويضة ، أو من الأنثى نفسها فتندمجان كما لو تم تلقيحها بحيوانٍ منوي .

وسبب التفريغ للبويضة هو : أن البويضة الناضجة تحتوي على ( 23 كروموزوم ) هي نصف عدد المورثات التي يتكون منها الكائن الحي ، وكذلك الحيوان المنوي الناضج . فإذا حصل التلاقح بين بويضة وحيوان ناضجين حصل الحمل بإذن الله .
والخليَّة الحيَّة من أي أجزاء الكائن الحيِّ تحوي العدد كاملا ( 46 كروموزوم ) ، وكذلك الحيوان المنوي قبل النضوج ؛ ولذلك إذا أراد الطبيب حقن الخليَّة الحيَّة في البويضة الناضجة ، فلابد له من تفريغ البويضة من نواتها التي تحوي المورثات الخاصة بها ؛ حتى يمكن اندماج الخلية بالبويضة المفرغة من نواتها فيحصل الحمل بإذن الله . غير أن الحمل لن يأخذ من صفات الأنثى صاحبة البويضة أيَّ شيء ، لسبق تفريغ تلك المورثات .
ولا يمكن إبقاء نواة البويضة عند إرادة تلقيحها بالخليَّة ؛ لأن عدد مورثات كلِّ كائنٍ حيٍّ لا يمكن أن تزيد عن ( 46 كروموزوم ) ولا واحداً .
فسبحان الخلاق العليم قال جلَّ من قائل (( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ))

وقد شاع : أن هذا الكشف سيدفع النساء إلى طلب الولد من غير السبيل الشرعي ؛ وذلك بأن يعمدن إلى طلب تفريغ بويضاتهن من نويَّاتها ، وحقنها بخليَّة مأخوذة من أثدائهن ؛ فيستغنون بذلك عن الأزواج ، ويحصلون على ميزة التشابه الكبير بين الحمل ومصدره في جميع الصفات الظاهرة وكثيرٍ من الخصائص الباطنة . وهذا بلا شكٍ أمرٌ محرمٌ شرعاً وطبعاً .
غير أنه يمكن أن يقال : بجواز هذا الكشف بين الزوجين المحرومين من نعمة الولد ؛ فيقوم الطبيب بتفريغ بويضة الزوجة ، وحقنها بخليَّة منويَّة غير ناضجة مأخوذة من الزوج .

وشروط ذلك :-
الأول / أن تكون البويضة من الزوجة . فلا يجوز استعارة بويضةٍ من أنثى غيرها ؛ أياً كانت .

الثاني / أن تكون الخليَّة مأخوذة من الزوج . فلا يجوز التلقيح بخليَّة ٍمن غيره ؛ ولو من الزوجة نفسها ؛ وحتى لو رضي الزوج بذلك .

الثالث / أن يكون التلقيح حال بقاء الزوجة في عصمة زوجها ، وقيام الزوجية بينهما . فلا يجوز أن يكون بعد الفرقة بينهما .

الرابع / أن يكون التلقيح والحقن في رحم الزوجة حال حياة الزوج صاحب الخليَّة ؛ فلا يجوز ذلك بعد موته ؛ ولو بلحظة .

الخامس / أن يكون الاستنساخ علاجاً ؛ لا يمكن للزوجين الإنجاب بغير طريقه ، فلا يسمح به بين زوجين طبيعيين لمجرد الحصول على نسخة منهما أو من أحدهما .

ولاشك أن ما قام به هؤلاء العلماء فيه خير وشر ، وإن ضبط هذا الكشف بهذه الشروط الخمسة فيه تشجيع لهم على تطلُّب آفاق أخرى من العلم والبحث والتجربة فيما يعود بالنفع والخير للناس جميعاً .
قال صلى الله عليه وسلم * تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ ! ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً ، إِلَّا الْمَوْتَ وَالْهَرَمَ * .
ولا يقال : إن ما فعله هؤلاء العلماء من قبيل الخلق ؛ فما من خالق إلا الله .
قال عز من قائل (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )) .
وقال صلى الله عليه وسلم * لَوْ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ أَهْرَقْتَهُ عَلَى صَخْرَةٍ لَأَخْرَجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا أَوْ لَخَرَجَ مِنْهَا وَلَدٌ الشَّكُّ مِنْهُ وَلَيَخْلُقَنَّ اللَّهُ نَفْسًا هُوَ خَالِقُهَا * .
نحمد الله على نعمة الإسلام والتوفيق لطلب العلم بفضل الواحد الديان ، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خير الأنام ، وعلى آله وصحبه البررة الأعلام ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
حرره ليلة السبت الموافق 11/1/1418 هـ : الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن ناصر الداود . والله أعلم .

نشر هذا المقال في صحيفتي الرياض : يوم الخميس الموافق 16/1/1418هـ
وجريدة المسلمون : يوم الجمعة الموافق 1/2/1418هـ

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 4400 | تأريخ النشر : السبت 17 محرم 1418هـ الموافق 24 مايو 1997م

طباعة المقال

إرسال المقالة
الاستنساخ بشروطه الخمسة الحمدلله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين . وبعد :- يقول الله جل ثناؤه (( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )) ويقول جل جلاله (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )) ويقول تبارك وتعالى (( إنما يخشى الله من عباده العلماء )) إن الله منذ استخلف آدم عليه السلام وذريته في الأرض ، وهم يقومون بعمارة الأرض ، ويتطلبون ما جعله الله لهم فيها ، ويطوعونه لما تصلح به أحوالهم ؛ فلا تخلو ساعة من ساعات ليلهم ونهارهم إلا وقد أظهرهم الله على علم جديد لم يكن لديهم قبل ذلك . ثم تتابعت فيهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وتوحيده وتحكيم شرعه في كل شؤون حياتهم . وكلما شطحوا في علم من علومهم أوضح لهم أنبياؤهم الحكم ، ودلوهم إلى ما ينفعهم . وقد قضى الله عـز وجل أن يتقدم العلم كثيرا في هذا الزمان بقدر- يظهر- أنه لم يكن كذلك من قبل . وذلك من علامات آخر الزمان لما رواه الدارمي عن أبي الزاهرية يرفع الحديث قال :- * إن الله تعالى قال أبث العلم في آخر الزمان حتى يعلمه الرجل والمرأة والعبد والحر والصغير والكبير فإذا فعلت ذلك بهم أخذتهم بحقي عليهم * والعلم الذي كشف للناس البارود والتيار الكهربي ، هو الذي نوع استخداماته إلى ضارة ونافعة . كما أن العلم الذي عرف به الناس كيف يزرعون الفاكهة والحبوب ، هو الذي سخره بعضهم لزراعة شجيرات المخدرات وما شابهها . وهكذا يسخر العلم في ما ينفع الناس ، وقد يسيء استغلاله من لا يعرف حقه ممن أعمى الله بصائرهم عن الحق . فوجب على علماء الشريعة إيضاح الجائز وشروطه ، وبيان المحظور وأسبابه في كل ما يطرأ في حياة الناس من أمر دنياهم . وعندما أظهر الأطباء ما أسموه : التلقيح الصناعي ، أو أطفال الأنابيب . واستخدموه علاجا لبعض حالات العقم بين الأزواج - قام علماء الشريعة بإيضاح الحكم الشرعي لهذا الكشف العلمي الجديد في حينه ؛ فأجازوه بين الزوجين ، وجعلوا له شروطا وقيودا معروفة . ثم ظهر في نفس المجال ما يسمى : بالاستنساخ . والذي لم يظهر أنه قد طبق على البشر حتى الآن . وخلاصته : أن بإمكان الطبيب أن يأخذ بويضة من أنثى ، ويقوم بتفريغها من نواتها ، ثم يحقنها بخلية حية مأخوذة من كائن حي من جنس الأنثى صاحبة البويضة ، أو من الأنثى نفسها فتندمجان كما لو تم تلقيحها بحيوان منوي . وسبب التفريغ للبويضة هو : أن البويضة الناضجة تحتوي على ( 23 كروموزوم ) هي نصف عدد المورثات التي يتكون منها الكائن الحي ، وكذلك الحيوان المنوي الناضج . فإذا حصل التلاقح بين بويضة وحيوان ناضجين حصل الحمل بإذن الله . والخلية الحية من أي أجزاء الكائن الحي تحوي العدد كاملا ( 46 كروموزوم ) ، وكذلك الحيوان المنوي قبل النضوج ؛ ولذلك إذا أراد الطبيب حقن الخلية الحية في البويضة الناضجة ، فلابد له من تفريغ البويضة من نواتها التي تحوي المورثات الخاصة بها ؛ حتى يمكن اندماج الخلية بالبويضة المفرغة من نواتها فيحصل الحمل بإذن الله . غير أن الحمل لن يأخذ من صفات الأنثى صاحبة البويضة أي شيء ، لسبق تفريغ تلك المورثات . ولا يمكن إبقاء نواة البويضة عند إرادة تلقيحها بالخلية ؛ لأن عدد مورثات كل كائن حي لا يمكن أن تزيد عن ( 46 كروموزوم ) ولا واحدا . فسبحان الخلاق العليم قال جل من قائل (( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء )) وقد شاع : أن هذا الكشف سيدفع النساء إلى طلب الولد من غير السبيل الشرعي ؛ وذلك بأن يعمدن إلى طلب تفريغ بويضاتهن من نوياتها ، وحقنها بخلية مأخوذة من أثدائهن ؛ فيستغنون بذلك عن الأزواج ، ويحصلون على ميزة التشابه الكبير بين الحمل ومصدره في جميع الصفات الظاهرة وكثير من الخصائص الباطنة . وهذا بلا شك أمر محرم شرعا وطبعا . غير أنه يمكن أن يقال : بجواز هذا الكشف بين الزوجين المحرومين من نعمة الولد ؛ فيقوم الطبيب بتفريغ بويضة الزوجة ، وحقنها بخلية منوية غير ناضجة مأخوذة من الزوج . وشروط ذلك :- الأول / أن تكون البويضة من الزوجة . فلا يجوز استعارة بويضة من أنثى غيرها ؛ أيا كانت . الثاني / أن تكون الخلية مأخوذة من الزوج . فلا يجوز التلقيح بخلية من غيره ؛ ولو من الزوجة نفسها ؛ وحتى لو رضي الزوج بذلك . الثالث / أن يكون التلقيح حال بقاء الزوجة في عصمة زوجها ، وقيام الزوجية بينهما . فلا يجوز أن يكون بعد الفرقة بينهما . الرابع / أن يكون التلقيح والحقن في رحم الزوجة حال حياة الزوج صاحب الخلية ؛ فلا يجوز ذلك بعد موته ؛ ولو بلحظة . الخامس / أن يكون الاستنساخ علاجا ؛ لا يمكن للزوجين الإنجاب بغير طريقه ، فلا يسمح به بين زوجين طبيعيين لمجرد الحصول على نسخة منهما أو من أحدهما . ولاشك أن ما قام به هؤلاء العلماء فيه خير وشر ، وإن ضبط هذا الكشف بهذه الشروط الخمسة فيه تشجيع لهم على تطلب آفاق أخرى من العلم والبحث والتجربة فيما يعود بالنفع والخير للناس جميعا . قال صلى الله عليه وسلم * تداووا عباد الله ! ، فإن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل معه شفاء ، إلا الموت والهرم * . ولا يقال : إن ما فعله هؤلاء العلماء من قبيل الخلق ؛ فما من خالق إلا الله . قال عز من قائل (( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز )) . وقال صلى الله عليه وسلم * لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله عز وجل منها أو لخرج منها ولد الشك منه وليخلقن الله نفسا هو خالقها * . نحمد الله على نعمة الإسلام والتوفيق لطلب العلم بفضل الواحد الديان ، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خير الأنام ، وعلى آله وصحبه البررة الأعلام ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . حرره ليلة السبت الموافق 11/1/1418 هـ : الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن ناصر الداود . والله أعلم . نشر هذا المقال في صحيفتي الرياض : يوم الخميس الموافق 16/1/1418هـ وجريدة المسلمون : يوم الجمعة الموافق 1/2/1418هـ
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع