نشرت في مجلة اليمامة العدد 1886- وصحيفة اليوم العدد 12429

قضائيات كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (( اللهم إليك أشكو جلد الفاجر وعجز الثقة )) ، وكلما خطر لي ذلك علمت أن الأمر الذي نشكو منه أزليٌ ، وأن ما نشكو منه قد شكى منه من هو خير منا في خير القرون .

غير أن أولئك الأخيار عملوا بما يحقق المصلحة العامة ، وعملنا بما يحقق مصالحنا الخاصة ؛ فنحن قدمنا الأهواء ، وذوي القرابات الأقرب فالأقرب ؛ نسباً ، وصهراً ، وموطناً .
أما أولئك الأبرار فقد قدموا أصحاب الخبرات ، وذوي التجارب ، والأنفع للإسلام والمسلمين ؛ ولو لم يكونوا هم الأصلح ديناً ، أو الأقوم مسلكاً ، أو الأتقى ، أو الأورع ظاهراً ؛ لأن هذه منافع قاصرة على ذات فاعلها ، أما المنافع المتعدية فهي مراد القوم ؛ الذين خلصت نياتهم ، وصلحت أعمالهم ، ووُفِّقُوا ـ هم ـ لتحقيق مصلحة العامة .
وبقينا أسرى لشباب حديثة أسنانهم قليلة تجاربهم ، أو شيوخ ضعفت هممهم ولم يحيطوا بجديد زمانهم ، فأعلنوا الحرب على كل جديدٍ ؛ ولو كان مفيداً . أناس ليس لديهم مقومات الإدارة ولا أبجديات العمل الإداري .

ومن العجب : أن ترى المواد ( 53 ، 54 ، 55) من مواد نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي تنص على : أن رئيس المحكمة هو المرجع الشامل لجميع القضاة والموظفين والمستخدمين ، وأن لا يصدر من المحكمة شيء ولا يرد إليها بغير علمه ومعرفته ، مع إلزامه بنظر القضايا أسوة بغيره من قضاة المحكمة .

والواجب : أن لا يشمل عمل القاضي غير نظر القضايا والحكم فيها بما أراه الله . وأن على المسؤولين إسناد إدارة المحكمة وموظفيها وأعمالها الكتابية إلى متخصص في الإدارة ؛ يرقى بإدارتها إلى قمم الإنجاز ، منذ ورود المعاملة إلى المحكمة وحتى صدور الحكم فيها والأمر بالإنفاذ ؛ ليتبارى المديرون فيما بينهم كما يتنافس القضاة في أحكامهم . ففي ذلك يكون التنافس .

أما أن تسند الإدارة والقضاء إلى قاضٍ قد أعجزته وأعيته إدارة المحكمة والعاملين فيها ومراجعيها : فذلك تثبيط للقاضي عن عمله الأساس ، وتوريط للمتقاضي بغير ذوي الاختصاص .

وعمر رضي الله عنه عندما استشار جلساءه ـ في تولية المؤمن الضعيف أو القوي الفاسق ـ أجابوه : بلزوم تولية القوي ؛ لأن قوته للمسلمين ، أما الأخر فإيمانه لنفسه وضعفه على المسلمين . فأخذ بقولهم رضي الله عنه وعنهم .

وهذا الأمر يرد في كل الولايات ؛ فقد سُئِلَ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : عن تأمير رَجُلَيْنِ في الغزو ؛ أَحَدُهُمَا أَنْكَى في الْعَدُوِّ مع شُرْبِهِ الْخَمْرَ ، وَالْآخَرُ أَدْيَنُ ؟ .
فقال : يغزى مع الْأَنْكَى في الْعَدُوِّ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ .

قال ابن القيم رحمه الله : وَبِهَذَا مَضَتْ سُنَّةُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فإنه كان يُوَلِّي الْأَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ على من هو أَفْضَلُ منه .

فهل ندرك : أن فصل القضاء عن الإدارة أمر لازم لمصلحة القاضي ؛ كي يتفرغ لأمر القضاء ، ويسخر كامل وقته في نظر الدعوى وأحوال الخصوم ، والتأمل في الشهادات ، والتمعن في البينات ، ومراجعة أقوال أهل العلم للاستدلال إلى الحكم الصحيح ؛ تاركاً عنه الانشغال أو التشاغل بالوارد والصادر ، والنسخ والأرشيف ، والغياب والحضور ، وتحديد المواعيد وتأجيلها ، وتدقيق الخطابات والضبوط ، والصكوك والسجلات ، وغيرها من شؤون إدارة المحكمة .

ألا إن الحمل ثقيل ، والوقت قليل ، والطاقات محدودة لا تحتمل الهدر ، والناس عطاش لحقوقهم ، وصاحب الحاجة أعمى حتى تقضى حاجته .

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 3783 | تأريخ النشر : السبت 16 ذو القعدة 1426هـ الموافق 17 ديسمبر 2005م

اضغط هنا للحصول على صورة المقالة

طباعة المقال

إرسال المقالة
القضاة بين القضاء والإدارة كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (( اللهم إليك أشكو جلد الفاجر وعجز الثقة )) ، وكلما خطر لي ذلك علمت أن الأمر الذي نشكو منه أزلي ، وأن ما نشكو منه قد شكى منه من هو خير منا في خير القرون . غير أن أولئك الأخيار عملوا بما يحقق المصلحة العامة ، وعملنا بما يحقق مصالحنا الخاصة ؛ فنحن قدمنا الأهواء ، وذوي القرابات الأقرب فالأقرب ؛ نسبا ، وصهرا ، وموطنا . أما أولئك الأبرار فقد قدموا أصحاب الخبرات ، وذوي التجارب ، والأنفع للإسلام والمسلمين ؛ ولو لم يكونوا هم الأصلح دينا ، أو الأقوم مسلكا ، أو الأتقى ، أو الأورع ظاهرا ؛ لأن هذه منافع قاصرة على ذات فاعلها ، أما المنافع المتعدية فهي مراد القوم ؛ الذين خلصت نياتهم ، وصلحت أعمالهم ، ووفقوا ـ هم ـ لتحقيق مصلحة العامة . وبقينا أسرى لشباب حديثة أسنانهم قليلة تجاربهم ، أو شيوخ ضعفت هممهم ولم يحيطوا بجديد زمانهم ، فأعلنوا الحرب على كل جديد ؛ ولو كان مفيدا . أناس ليس لديهم مقومات الإدارة ولا أبجديات العمل الإداري . ومن العجب : أن ترى المواد ( 53 ، 54 ، 55) من مواد نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي تنص على : أن رئيس المحكمة هو المرجع الشامل لجميع القضاة والموظفين والمستخدمين ، وأن لا يصدر من المحكمة شيء ولا يرد إليها بغير علمه ومعرفته ، مع إلزامه بنظر القضايا أسوة بغيره من قضاة المحكمة . والواجب : أن لا يشمل عمل القاضي غير نظر القضايا والحكم فيها بما أراه الله . وأن على المسؤولين إسناد إدارة المحكمة وموظفيها وأعمالها الكتابية إلى متخصص في الإدارة ؛ يرقى بإدارتها إلى قمم الإنجاز ، منذ ورود المعاملة إلى المحكمة وحتى صدور الحكم فيها والأمر بالإنفاذ ؛ ليتبارى المديرون فيما بينهم كما يتنافس القضاة في أحكامهم . ففي ذلك يكون التنافس . أما أن تسند الإدارة والقضاء إلى قاض قد أعجزته وأعيته إدارة المحكمة والعاملين فيها ومراجعيها : فذلك تثبيط للقاضي عن عمله الأساس ، وتوريط للمتقاضي بغير ذوي الاختصاص . وعمر رضي الله عنه عندما استشار جلساءه ـ في تولية المؤمن الضعيف أو القوي الفاسق ـ أجابوه : بلزوم تولية القوي ؛ لأن قوته للمسلمين ، أما الأخر فإيمانه لنفسه وضعفه على المسلمين . فأخذ بقولهم رضي الله عنه وعنهم . وهذا الأمر يرد في كل الولايات ؛ فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : عن تأمير رجلين في الغزو ؛ أحدهما أنكى في العدو مع شربه الخمر ، والآخر أدين ؟ . فقال : يغزى مع الأنكى في العدو ؛ لأنه أنفع للمسلمين . قال ابن القيم رحمه الله : وبهذا مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يولي الأنفع للمسلمين على من هو أفضل منه . فهل ندرك : أن فصل القضاء عن الإدارة أمر لازم لمصلحة القاضي ؛ كي يتفرغ لأمر القضاء ، ويسخر كامل وقته في نظر الدعوى وأحوال الخصوم ، والتأمل في الشهادات ، والتمعن في البينات ، ومراجعة أقوال أهل العلم للاستدلال إلى الحكم الصحيح ؛ تاركا عنه الانشغال أو التشاغل بالوارد والصادر ، والنسخ والأرشيف ، والغياب والحضور ، وتحديد المواعيد وتأجيلها ، وتدقيق الخطابات والضبوط ، والصكوك والسجلات ، وغيرها من شؤون إدارة المحكمة . ألا إن الحمل ثقيل ، والوقت قليل ، والطاقات محدودة لا تحتمل الهدر ، والناس عطاش لحقوقهم ، وصاحب الحاجة أعمى حتى تقضى حاجته .
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع