فقهيات يُعَدُّ التَّسَوُّلُ ظاهرةً عالميةً ؛ تشكو منها جميع الدول بدون استثناء ؛ وما انتشار هذا الامتهان الرذيل إلا لأنَّه من مصادر الدخل المرتفعة جداً ، ولكونه آمَنُ امتهانٍ من بين أنواع المهن الخسيسة المتعددة ؛ فصاحبها لا يتعرَّض للخسارة في ماله ، ولا في بدنه فهو إما : أن يفوز بشيءٍ كبير جداً ، أو : لابد أنْ سيفوز بالقليل ولاشك ؛ حتى في حال القبض عليه ومصادرة ما معه : فهو لن يخسر شيئاً من ماله ، بل مما جمعه ظلماً وعدواناً من الآخرين بدناءته وبطالته .

ومع أن الدُّولَ تستحدث الأنظمة تلو الأنظمة للقضاء على هذه الظاهرة ؛ إلا أن ممتهنيها لا يزالون يُبدِعُون في هدم كُلِّ السبل التي تطرأ للقضاء عليهم ؛ أشبهوا بذلك أعتى الفيروسات التي تستعصي على كُلِّ جديدٍ من أنواع المضادات الحيوية .
وهذه الظاهرة في بلادنا يمتهنها بعض المواطنين - وهم بحمد الله - قِلَّةٌ قليلة . أما الأكثرية الغالبة فهم من الوافدين القادمين من خارج البلاد ؛ عرباً وعجماً .

وللمتسولين - في تحصيل مآربهم - طرق وأساليب وحيل وخدع ؛ لسنا في سبيل استعراضها ، فذلك يطول .
غير أنَّ العِقْدَ يكفي منه ما أحاط بالعُنُقِ ؛ فالقوم استباحوا لأفاعيلهم كُلَّ محرمٍ ومكروهٍ ؛ ابتداءً : من سرقة الأطفال ؛ وهم صغار لا يُدركون مَنْ هُمْ ؟ ، ولا مَنْ أهلوهم ؟ ، والقيام بتشويههم بقطع الأيدي أو الأرجل أو فقء الأعين ونحو ذلك .
وانتهاءً : بتزوير الأوراق والصكوك والتقارير الطبية ، وتنكُّر الرجال بلباس النساء ، وتصنع المرض والإعاقة ، وهكذا مما لا يحصى من الأمور الدنيئة .
فغايتهم هي : الحصول على المال ، والاستزادة منه ، ولذلك : فإن َكُلَّ وسيلةٍ تُحَقِّقُ ذلك المأربَ فهي مشروعةٌ عندهم ومستباحةٌ منهم ؛ لا يُوقفهم عن اقترافها شيء مرعيٌ ولا معتدٌ به .

وهذه الظاهرة الفاجعة تتنامى تنامياً ملحوظاً ؛ فلا تكاد - الآن - تفقد متسولاً في مسجدٍ ، ولا عند إشارات المرور ، بل حتى الدوائر الرسمية لم تخل من هذه الظاهرة عدا عن : أبواب المنازل ، ومداخل المراكز التجارية ، ومجمعات الأسواق ، وقصور الأفراح . لا يمنعهم حياء ، ولا يردعهم نظام ، ولا يهابون عقوبة مهما غلظت .

ولو علم هؤلاء المتواكلون ما قاله صلى الله عليه وسلم مرغِّباً في التعفف والصدقة ، وكان فيهم من الحياء ما يزعهم : لتركوا ما هم فيه من ذل السؤال وقبيح الفعال .
روى البخاري : عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ؛ وَذَكَرَ : الصَّدَقَةَ ، وَالتَّعَفُّفَ ، وَالْمَسْأَلَةَ * الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى * فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ : الْمُنْفِقَةُ ، وَالسُّفْلَى هِيَ : السَّائِلَةُ .

فإن لم ينفع الترغيب في كريم الخصال فلا أقلَّ من الخوف من العاقبة يوم البعث والنشور ؛ روى البخاري : عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم * مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ *
وللترمذي : عَنْ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ السَّلُولِيِّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال * إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ ؛ إِلا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ ، أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ بِهِ مَالَهُ كَانَ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَرَضْفًا يَأْكُلُهُ مِنْ جَهَنَّمَ ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلَّ ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ *

فإن استبطأ المتسوِّل الآخرة ، ولم يؤثر فيه وعيدها ، فإن لَه نصيب من الوعيد في الدنيا ؛ روى النسائي : عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو : .. .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا مَشَى أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ يَسْأَلُهُ شَيْئًا *
وروى مسلم : عَنْ مُعَاوِيَةَ بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ * إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ ؛ فَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ : فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَشَرَهٍ : كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ *
وللترمذي : عَنْ أَبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيِّ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ * ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ ؛ قَالَ : مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ ، وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً ؛ فَصَبَرَ عَلَيْهَا : إِلا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا ، وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ : إِلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ .. .. * الحديث .
ولمسلمٍ : عَنْ قَبِيصَةَ الْهِلالِيِّ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ * يَا قَبِيصَةُ ! إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ : رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ ؛ حَتَّى يُصِيبَهَا ، ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ ؛ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ قَالَ : سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ . وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ ؛ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ : لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ ؛ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ قَالَ : سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ . فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا ؛ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا *

وقد ورد في الحديث تحديد مقدار الغنى الذي لا تجوز معه المسألة .
روى أبو داود : عن سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال * مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ : فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ النَّارِ . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَمَا الْغِنَى الَّذِي لا تَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ ؟ . قَالَ : قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ *
ولأحمد : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم * مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً وَهُوَ عَنْهَا غَنِيٌّ : جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ ، وَلا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، أَوْ عِوَضُهَا مِنْ الذَّهَبِ *
فإذا كانت الصدقة لا تحل لمن هذا حاله ؛ فكيف يُقرُّ على ما هو فيه ! ؛ من ارتكابٍ للمحرمات ، وأَكْلٍ لِلسُّحْتِ .

لاشك أن المتسول لن يقرأ هذه الوقفة ؛ لأنه يأخذ ولا يعطي ، غير أن المعنيَ بهذه الوقفة من يعطي المتسول الزائف ؛ إذ كيف يُقِرُّ امتهان التسوُّل ؟! مع ما في ذلك من تعطيلٍ للطاقات البشرية ، وإظهار المجتمع المسلم مظهر المجتمع المتواكل لا المتكافل والمتَأكِّل لا المتَوَكِّل ، والعاطل لا العامل .

ومع أنَّ إقرار التسول فيه : تعريضُ المتسول من الباذل لوعيدي الدنيا والآخرة وتعويدٌ لَه على : أرذل الخُلُق ، وأخبث الكسب ، وأحقر المهن .

إنَّ قاصمة الظهر لهذه الظاهرة المنبوذة هي : في اللجوء إلى أهل العلم والفتوى ممن قَلَّدهم الله أمر حفظ الدين لهذه الأمة ، واستنابهم - في ذلك - ولاة الأمر . وفقهم الله لكُلِّ خير .

ومتى صدرت الفتوى بمنع إعطاء السُّؤَّال : فسوف تنحسر هذه الظاهرة انحساراً بيناً ، وسيتبع - لا محالة - في هذا الأمر كثير من بلاد المسلمين ممن يعانون كما نعاني ، ويلاقون أَشَدَّ مما نلاقيه .

وليس في الإفتاء بالمنع تعطيلٌ لمشروعية إعطاء السائلين والمحرومين الثابتة في قولِه جل وعلا { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وقولِه سبحانه { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } إذ يمكن صاحبَ المال إنابةُ الجمعيات الخيرية في إعطاء هذا الحق المعلوم للسائلين والمحرومين ممن يجهل حالهم ، فلا تتعطل هذه السنة ولا تنهض بدعة التسول ، ويوكل الأمر إلى أهله ممن أعطاهم الله حكمة البحث عن أحوال الناس وحاجاتهم ؛ وقد علم الناس كفاءة الجمعيات الخيرية في البحث والتتبع للمستحقين من المتعففين وغيرهم . زادهم الله حرصاً وتوفيقاً .
فشعيرة إعطاء السائل باقية قائمة بحمد الله ، موثوق بجدواها وَعَوْدِهَا بالمأمول منها من قِبَلِ صاحب المال وقابضه .

ومن جانب آخر : فالهدف من الفتوى القضاء على ظاهرة ؛ طالما أقلقت الدولة وأجهزتها الأمنية وكثير من المحسنين ؛ الباذل منهم والمتردد في البذل لمثل هؤلاء المشكوك في أمرهم .

والدعوة في هذه الوقفة : للأمانة العامة لهيئة كبار العلماء ؛ لعرض الأمر على الهيئة الموقرة . ثَبَّتَ الله القائمين عليها ووفقهم لما يرضيه . كما أن الدعوة موصولة للجنة الدائمة للإفتاء . وفقهم الله وأعانهم ، وسدَّد الله رأيهم وخطاهم . وفق الله الجميع لكل ما يحبه الله ويرضاه .

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 4664 | تأريخ النشر : الخميس 28 رجب 1421هـ الموافق 26 أكتوبر 2000م

طباعة المقال

إرسال المقالة
قاصمة ظهر التسول . يعد التسول ظاهرة عالمية ؛ تشكو منها جميع الدول بدون استثناء ؛ وما انتشار هذا الامتهان الرذيل إلا لأنه من مصادر الدخل المرتفعة جدا ، ولكونه آمن امتهان من بين أنواع المهن الخسيسة المتعددة ؛ فصاحبها لا يتعرض للخسارة في ماله ، ولا في بدنه فهو إما : أن يفوز بشيء كبير جدا ، أو : لابد أن سيفوز بالقليل ولاشك ؛ حتى في حال القبض عليه ومصادرة ما معه : فهو لن يخسر شيئا من ماله ، بل مما جمعه ظلما وعدوانا من الآخرين بدناءته وبطالته . ومع أن الدول تستحدث الأنظمة تلو الأنظمة للقضاء على هذه الظاهرة ؛ إلا أن ممتهنيها لا يزالون يبدعون في هدم كل السبل التي تطرأ للقضاء عليهم ؛ أشبهوا بذلك أعتى الفيروسات التي تستعصي على كل جديد من أنواع المضادات الحيوية . وهذه الظاهرة في بلادنا يمتهنها بعض المواطنين - وهم بحمد الله - قلة قليلة . أما الأكثرية الغالبة فهم من الوافدين القادمين من خارج البلاد ؛ عربا وعجما . وللمتسولين - في تحصيل مآربهم - طرق وأساليب وحيل وخدع ؛ لسنا في سبيل استعراضها ، فذلك يطول . غير أن العقد يكفي منه ما أحاط بالعنق ؛ فالقوم استباحوا لأفاعيلهم كل محرم ومكروه ؛ ابتداء : من سرقة الأطفال ؛ وهم صغار لا يدركون من هم ؟ ، ولا من أهلوهم ؟ ، والقيام بتشويههم بقطع الأيدي أو الأرجل أو فقء الأعين ونحو ذلك . وانتهاء : بتزوير الأوراق والصكوك والتقارير الطبية ، وتنكر الرجال بلباس النساء ، وتصنع المرض والإعاقة ، وهكذا مما لا يحصى من الأمور الدنيئة . فغايتهم هي : الحصول على المال ، والاستزادة منه ، ولذلك : فإن كل وسيلة تحقق ذلك المأرب فهي مشروعة عندهم ومستباحة منهم ؛ لا يوقفهم عن اقترافها شيء مرعي ولا معتد به . وهذه الظاهرة الفاجعة تتنامى تناميا ملحوظا ؛ فلا تكاد - الآن - تفقد متسولا في مسجد ، ولا عند إشارات المرور ، بل حتى الدوائر الرسمية لم تخل من هذه الظاهرة عدا عن : أبواب المنازل ، ومداخل المراكز التجارية ، ومجمعات الأسواق ، وقصور الأفراح . لا يمنعهم حياء ، ولا يردعهم نظام ، ولا يهابون عقوبة مهما غلظت . ولو علم هؤلاء المتواكلون ما قاله صلى الله عليه وسلم مرغبا في التعفف والصدقة ، وكان فيهم من الحياء ما يزعهم : لتركوا ما هم فيه من ذل السؤال وقبيح الفعال . روى البخاري : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر ؛ وذكر : الصدقة ، والتعفف ، والمسألة * اليد العليا خير من اليد السفلى * فاليد العليا هي : المنفقة ، والسفلى هي : السائلة . فإن لم ينفع الترغيب في كريم الخصال فلا أقل من الخوف من العاقبة يوم البعث والنشور ؛ روى البخاري : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم * ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم * وللترمذي : عن حبشي بن جنادة السلولي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال * إن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي ؛ إلا لذي فقر مدقع ، أو غرم مفظع ، ومن سأل الناس ليثري به ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة ، ورضفا يأكله من جهنم ، ومن شاء فليقل ، ومن شاء فليكثر * فإن استبطأ المتسول الآخرة ، ولم يؤثر فيه وعيدها ، فإن له نصيب من الوعيد في الدنيا ؛ روى النسائي : عن عائذ بن عمرو : .. .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا * وروى مسلم : عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول * إنما أنا خازن ؛ فمن أعطيته عن طيب نفس : فيبارك له فيه ، ومن أعطيته عن مسألة وشره : كان كالذي يأكل ولا يشبع * وللترمذي : عن أبي كبشة الأنماري : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول * ثلاثة أقسم عليهن ، وأحدثكم حديثا فاحفظوه ؛ قال : ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة ؛ فصبر عليها : إلا زاده الله عزا ، ولا فتح عبد باب مسألة : إلا فتح الله عليه باب فقر .. .. * الحديث . ولمسلم : عن قبيصة الهلالي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال * يا قبيصة ! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة ، فحلت له المسألة ؛ حتى يصيبها ، ثم يمسك . ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله ، فحلت له المسألة ؛ حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال : سدادا من عيش . ورجل أصابته فاقة ؛ حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة ، فحلت له المسألة ؛ حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال : سدادا من عيش . فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا ؛ يأكلها صاحبها سحتا * وقد ورد في الحديث تحديد مقدار الغنى الذي لا تجوز معه المسألة . روى أبو داود : عن سهل ابن الحنظلية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال * من سأل وعنده ما يغنيه : فإنما يستكثر من النار . فقالوا : يا رسول الله ! وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة ؟ . قال : قدر ما يغديه ويعشيه * ولأحمد : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم * من سأل مسألة وهو عنها غني : جاءت يوم القيامة كدوحا في وجهه ، ولا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما ، أو عوضها من الذهب * فإذا كانت الصدقة لا تحل لمن هذا حاله ؛ فكيف يقر على ما هو فيه ! ؛ من ارتكاب للمحرمات ، وأكل للسحت . لاشك أن المتسول لن يقرأ هذه الوقفة ؛ لأنه يأخذ ولا يعطي ، غير أن المعني بهذه الوقفة من يعطي المتسول الزائف ؛ إذ كيف يقر امتهان التسول ؟! مع ما في ذلك من تعطيل للطاقات البشرية ، وإظهار المجتمع المسلم مظهر المجتمع المتواكل لا المتكافل والمتأكل لا المتوكل ، والعاطل لا العامل . ومع أن إقرار التسول فيه : تعريض المتسول من الباذل لوعيدي الدنيا والآخرة وتعويد له على : أرذل الخلق ، وأخبث الكسب ، وأحقر المهن . إن قاصمة الظهر لهذه الظاهرة المنبوذة هي : في اللجوء إلى أهل العلم والفتوى ممن قلدهم الله أمر حفظ الدين لهذه الأمة ، واستنابهم - في ذلك - ولاة الأمر . وفقهم الله لكل خير . ومتى صدرت الفتوى بمنع إعطاء السؤال : فسوف تنحسر هذه الظاهرة انحسارا بينا ، وسيتبع - لا محالة - في هذا الأمر كثير من بلاد المسلمين ممن يعانون كما نعاني ، ويلاقون أشد مما نلاقيه . وليس في الإفتاء بالمنع تعطيل لمشروعية إعطاء السائلين والمحرومين الثابتة في قوله جل وعلا { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } وقوله سبحانه { والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم } إذ يمكن صاحب المال إنابة الجمعيات الخيرية في إعطاء هذا الحق المعلوم للسائلين والمحرومين ممن يجهل حالهم ، فلا تتعطل هذه السنة ولا تنهض بدعة التسول ، ويوكل الأمر إلى أهله ممن أعطاهم الله حكمة البحث عن أحوال الناس وحاجاتهم ؛ وقد علم الناس كفاءة الجمعيات الخيرية في البحث والتتبع للمستحقين من المتعففين وغيرهم . زادهم الله حرصا وتوفيقا . فشعيرة إعطاء السائل باقية قائمة بحمد الله ، موثوق بجدواها وعودها بالمأمول منها من قبل صاحب المال وقابضه . ومن جانب آخر : فالهدف من الفتوى القضاء على ظاهرة ؛ طالما أقلقت الدولة وأجهزتها الأمنية وكثير من المحسنين ؛ الباذل منهم والمتردد في البذل لمثل هؤلاء المشكوك في أمرهم . والدعوة في هذه الوقفة : للأمانة العامة لهيئة كبار العلماء ؛ لعرض الأمر على الهيئة الموقرة . ثبت الله القائمين عليها ووفقهم لما يرضيه . كما أن الدعوة موصولة للجنة الدائمة للإفتاء . وفقهم الله وأعانهم ، وسدد الله رأيهم وخطاهم . وفق الله الجميع لكل ما يحبه الله ويرضاه .
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع