نظاميات في الخامس والعشرين من شهر رمضان عام 1399هـ أزمعت السفر براً إلى مكة المكرمة لأداء العمرة ، فصحبني رجلٌ من رجالات الدولة أواخر مرحلة التأسيس على يد جلالة المؤسس الملك عبد العزيز يرحمه الله ، وكان قد عمل محافظاً في المنطقة الغربية ( مكة المكرمة ، الباحة ) مدة ثمان وثلاثين سنة ، ورافقنا شاب على وشك التخرج في الجامعة ، وفي الطريق وبعد المؤانسة والمفاكهة - اطمأنَّ الشاب لأن يُفضيَ إلينا بأمرٍ قد أهمه ، فكان الحوار الآتي :-

الشاب : أريد رأيكما في أمرٍ قد أقضَّ مضجعي .
المحافظ : تفضل !.
الشاب : خطبت ابنة عمي ( المدني ) فأبى عليَّ ، ولم يذكر سبباً لرفضه .
المحافظ : لماذا لم تخطب ابنة عمك الآخر ( القروي ) ؟.
الشاب : أنت تعلم أنَّ ( المدني ) أوجه قومه وأغناهم .
أطرق المحافظ برهة ، ثم قال - بلهجة عامية - للشاب : يا بني !، حمَيِّرٍ تركبه ولا حصانٍ يركبك !!!.

= هذه النظرية يتخذها كثير من القياديين عند اختيار أعوانهم ، وأسباب ذلك كثيرة ، منها :-

1/ أنَّ النائب الضعيف جبانٌ في اتخاذ القرار ، فيضمن الرئيس جانب نائبه حال غيابه .

2/ أنَّ الضعيف لا يمكن أن يتشوَّف لغير ما هو فيه ، ولا تشرئب عنقه لمنصب رئيسه .

3/ أنَّ الضعيف لا يمكن أن يُعارض رئيسه ، فهو منقاد - أبداً - لِمَا يُمليه عليه .

4/ أنَّ الضعيف يمكن تكليفه بأداء مهام خاصةٍ ؛ لا يريد الرئيس أن يظهر أنَّه هو من قام بها .

5/ أنَّ الضعيف لا يمكن أن ينافس الرئيس على جاهه أو سلطانه بين الناس .

6/ أنَّ حسنات النائب يمكن الرئيس اغتصابها منه بلا اعتراضٍ منه .

7/ أنَّ هفوات الرئيس يمكنه نسبتها إلى النائب دون ممانعة ولا تذمُّر .

8/ أن يظهر للعموم أنَّ الإدارة مفتقرة لرئيسها ؛ بسبب ضعف نائبه ، فيضمن الرئيس بقاءه زمناً أكبر .

= هذه الأسباب وغيرها أو بعضها هي من تجعل الرئيس يختار الأقل قدرة لمساعدته والنيابة عنه ، ومثل هذه النزعة لا تكون إلا من غير الواثق بالله في ما حباه الله من عقلٍ وعلمٍ وتعفُّف .
وقد يهون الأمر لو كان أثر هذا الخلل قاصراً على النائب ورئيسه ، غير أنَّ قصور هذا التوجه يتعدى إلى الإدارة وأعمالها ، وإلى كثير ممن تعلقت مصالحهم بها .

= إنَّ ولي الأمر - متى نصب أحداً في مصلحة من مصالح الناس - فلا يعني هذا أنَّه قد حباه بها لِذَاته ، وأعطاه إياها لِلَذَّاته ، بل ليخدم الرعية فيما ظن ولاة الأمر أنَّه أهل له .

= ولو أنَّ ولاة الأمر - أيدهم الله - أخضعوا كل قياديٍ يختارونه للقيام بمهمةٍ من مهام الدولة لاختباراتٍ نفسيةٍ خاصةٍ بالقياديين : لظهر لهم من يصلح منهم ، ومن لا يصلح ، ومن به عيبٌ يخفيه ، أو عورةٌ يداريها .

= ولو علم القيادي أنَّ مما يُشكر له بعد رحيله حسنُ اختياره لنائبه : لَمَا تَرَدَّدَ في ابتغاء الأفضل ، الذي يمتدُّ به عمله ، ويزداد به قربه من الله ومن خلقه .

= ولن يقدم القيادي على تطبيق ذلك المثل لو وقر في قلبه : أنَّ من عمل لآخرته كفاه الله دنياه ، ومن أصلح فيما بينه وبين الله كفاه الله الناس ، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته .

= ولن يجرؤ أحدٌ على أن يريد الله به غير الخير ؛ فالله إذا أراد بالأمير خيراً جعل له وزير صدقٍ ؛ إن نسي ذَكَّرَه ، وإن ذكر أعانه ، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوءٍ ؛ إن نسي لم يُذَكِّره ، وإن ذكر لم يُعِنه .

أصلح الله شأن المسلمين في كل أمورهم ، واختار لهم خيرهم لولايتهم ، ووفقهم لما فيه الخير لهم من أمر دينهم ودنياهم . إن ربي سميع مجيب

===================
إضافة :

الشاب طموح في رغبته في القرب من صاحب الوجاهة والغنى ؛ لأن أثرهما يتعدى إلى من يرغب في الاقتران بها من كريماته .

والمحافظ ركن إلى أن نباهة المدني قد ترهق الشاب ، ولم ينظر إلى ما سيجنيه الشاب في حياته الخاصة مع ابنته ، وَقَدَّرَ المحافظ : أن خمول القروي مزيَّةٌ ، ولم يعتد بالفتاة ، ولا بما سيواجهه الشاب من خلفيات تربيتها المتواضعة مقارنة بإبنة عمها .

وهكذا حال كثير من القادة ، يمضي كثير منهم سنوات خدمته - حتى يُستغنى عنه - دون أن يقوم بالتحضير لمن سيخلفه .

وأغلبهم يسبُر من حوله زمناً طويلاً ، فيختار من لا تبرأ به ذمته ، ولا تستفيد منه إدارته ، ولا يشكره عليه من عنده ولا من بعده .

وما ذاك إلا أن القائد من هؤلاء يغلب على ظنه : أنه باقٍ في إدارته ما أقام عسيب .

والحل في :
تحديد مدة بقاء الواحد من هؤلاء ؛ بحيث لا يُجَدَّد له إلا مرةً واحدة ، وبشرط ظهور إنجازاته في فترته الأولى ، وعلى أن يقدم خطة مدروسة لفترة ما بعد التجديد .

أما من أمضى فترته الأولى في تحقيق إنجازات ذاتية ، فالإدارة في غنىً عنه ، وأصحاب المصالح في حاجة إلى زواله ، وأول من سيغتبط برحيله هم من أعانوه ، فقد قيل في المثل : من أعان ظالماً سُلِّطَ عليه .


-

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 5503 | تأريخ النشر : الأربعاء 7 جمادى الأولى 1431هـ الموافق 21 أبريل 2010م

طباعة المقال

إرسال المقالة
(( حمار تركبه خير من حصان ... )) في الخامس والعشرين من شهر رمضان عام 1399هـ أزمعت السفر برا إلى مكة المكرمة لأداء العمرة ، فصحبني رجل من رجالات الدولة أواخر مرحلة التأسيس على يد جلالة المؤسس الملك عبد العزيز يرحمه الله ، وكان قد عمل محافظا في المنطقة الغربية ( مكة المكرمة ، الباحة ) مدة ثمان وثلاثين سنة ، ورافقنا شاب على وشك التخرج في الجامعة ، وفي الطريق وبعد المؤانسة والمفاكهة - اطمأن الشاب لأن يفضي إلينا بأمر قد أهمه ، فكان الحوار الآتي :- الشاب : أريد رأيكما في أمر قد أقض مضجعي . المحافظ : تفضل !. الشاب : خطبت ابنة عمي ( المدني ) فأبى علي ، ولم يذكر سببا لرفضه . المحافظ : لماذا لم تخطب ابنة عمك الآخر ( القروي ) ؟. الشاب : أنت تعلم أن ( المدني ) أوجه قومه وأغناهم . أطرق المحافظ برهة ، ثم قال - بلهجة عامية - للشاب : يا بني !، حمير تركبه ولا حصان يركبك !!!. = هذه النظرية يتخذها كثير من القياديين عند اختيار أعوانهم ، وأسباب ذلك كثيرة ، منها :- 1/ أن النائب الضعيف جبان في اتخاذ القرار ، فيضمن الرئيس جانب نائبه حال غيابه . 2/ أن الضعيف لا يمكن أن يتشوف لغير ما هو فيه ، ولا تشرئب عنقه لمنصب رئيسه . 3/ أن الضعيف لا يمكن أن يعارض رئيسه ، فهو منقاد - أبدا - لما يمليه عليه . 4/ أن الضعيف يمكن تكليفه بأداء مهام خاصة ؛ لا يريد الرئيس أن يظهر أنه هو من قام بها . 5/ أن الضعيف لا يمكن أن ينافس الرئيس على جاهه أو سلطانه بين الناس . 6/ أن حسنات النائب يمكن الرئيس اغتصابها منه بلا اعتراض منه . 7/ أن هفوات الرئيس يمكنه نسبتها إلى النائب دون ممانعة ولا تذمر . 8/ أن يظهر للعموم أن الإدارة مفتقرة لرئيسها ؛ بسبب ضعف نائبه ، فيضمن الرئيس بقاءه زمنا أكبر . = هذه الأسباب وغيرها أو بعضها هي من تجعل الرئيس يختار الأقل قدرة لمساعدته والنيابة عنه ، ومثل هذه النزعة لا تكون إلا من غير الواثق بالله في ما حباه الله من عقل وعلم وتعفف . وقد يهون الأمر لو كان أثر هذا الخلل قاصرا على النائب ورئيسه ، غير أن قصور هذا التوجه يتعدى إلى الإدارة وأعمالها ، وإلى كثير ممن تعلقت مصالحهم بها . = إن ولي الأمر - متى نصب أحدا في مصلحة من مصالح الناس - فلا يعني هذا أنه قد حباه بها لذاته ، وأعطاه إياها للذاته ، بل ليخدم الرعية فيما ظن ولاة الأمر أنه أهل له . = ولو أن ولاة الأمر - أيدهم الله - أخضعوا كل قيادي يختارونه للقيام بمهمة من مهام الدولة لاختبارات نفسية خاصة بالقياديين : لظهر لهم من يصلح منهم ، ومن لا يصلح ، ومن به عيب يخفيه ، أو عورة يداريها . = ولو علم القيادي أن مما يشكر له بعد رحيله حسن اختياره لنائبه : لما تردد في ابتغاء الأفضل ، الذي يمتد به عمله ، ويزداد به قربه من الله ومن خلقه . = ولن يقدم القيادي على تطبيق ذلك المثل لو وقر في قلبه : أن من عمل لآخرته كفاه الله دنياه ، ومن أصلح فيما بينه وبين الله كفاه الله الناس ، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته . = ولن يجرؤ أحد على أن يريد الله به غير الخير ؛ فالله إذا أراد بالأمير خيرا جعل له وزير صدق ؛ إن نسي ذكره ، وإن ذكر أعانه ، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء ؛ إن نسي لم يذكره ، وإن ذكر لم يعنه . أصلح الله شأن المسلمين في كل أمورهم ، واختار لهم خيرهم لولايتهم ، ووفقهم لما فيه الخير لهم من أمر دينهم ودنياهم . إن ربي سميع مجيب =================== إضافة : الشاب طموح في رغبته في القرب من صاحب الوجاهة والغنى ؛ لأن أثرهما يتعدى إلى من يرغب في الاقتران بها من كريماته . والمحافظ ركن إلى أن نباهة المدني قد ترهق الشاب ، ولم ينظر إلى ما سيجنيه الشاب في حياته الخاصة مع ابنته ، وقدر المحافظ : أن خمول القروي مزية ، ولم يعتد بالفتاة ، ولا بما سيواجهه الشاب من خلفيات تربيتها المتواضعة مقارنة بإبنة عمها . وهكذا حال كثير من القادة ، يمضي كثير منهم سنوات خدمته - حتى يستغنى عنه - دون أن يقوم بالتحضير لمن سيخلفه . وأغلبهم يسبر من حوله زمنا طويلا ، فيختار من لا تبرأ به ذمته ، ولا تستفيد منه إدارته ، ولا يشكره عليه من عنده ولا من بعده . وما ذاك إلا أن القائد من هؤلاء يغلب على ظنه : أنه باق في إدارته ما أقام عسيب . والحل في : تحديد مدة بقاء الواحد من هؤلاء ؛ بحيث لا يجدد له إلا مرة واحدة ، وبشرط ظهور إنجازاته في فترته الأولى ، وعلى أن يقدم خطة مدروسة لفترة ما بعد التجديد . أما من أمضى فترته الأولى في تحقيق إنجازات ذاتية ، فالإدارة في غنى عنه ، وأصحاب المصالح في حاجة إلى زواله ، وأول من سيغتبط برحيله هم من أعانوه ، فقد قيل في المثل : من أعان ظالما سلط عليه . -
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع